أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: هذا ما قاله الأزهر للمصريين

محمد أبو الفضل ١٦-٦-٢٠٢٢م

يتزايد النفوذ المجتمعي للأزهر عند المصريين بصورة بدأت تبعده عن دوره الأصلي المطلوب أن يقوم به في مسألة تجديد الخطاب الديني، ووجد في تجاوب شريحة كبيرة من المواطنين مع تدخلاته بابا مناسبا ليدسّ أنفه في قضايا بعيدة عن مجال اهتمامه، للدرجة التي جعلت البعض يستشهدون كثيرا بآرائه التي يحاول تكييفها مع الدين.

اتسع نطاق التدخلات في تفاصيل الحياة اليومية للناس وبدأ البعض يشيرون إلى أن هذا ما قاله الأزهر في كل كبيرة وصغيرة، وما لم يقله فلا قيمة له أو يمكن اعتباره غير موجود، وتحوّل إلى ما يشبه البوصلة التي يقاس عليها ما يُقبل أو يُرفض.

ظهر ذلك في مبادرة مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر أخيرا الخاصة بتخفيض تكاليف الزواج والقضاء على المغالاة في المهور، وتدخّل في أمور تتعلق بما يجب عمله وما يجب تجنبه في المراسم التقليدية، وأطلق على مبادرته عنوانا جذابا “لتسكنوا إليها”.

يمكن أن يفتي الأزهر في بعض القضايا الاجتماعية بشكل عام ويقدم خطوطا عريضة للاسترشاد بها، لكن خوضه في أدق تفاصيل الزواج، ومن قبل الطلاق، يبعده عن طبيعة دوره، فهذا تغوّل بقدر ما يمنح سطوة مضاعفة له في المجتمع يمكن أن يخصم من رصيده، لأن كثرة النصيحة والفتوى وعدم وجود حدود فاصلة لدوره بإمكانهما أن يجهضا رسالة القيادة السياسية التي تنادي بمدنية الدولة وتحارب دور الجماعات الدينية.

يعلم من يقفون خلف تشجيعه على زيادة نفوذه أن هذه المهمة تخصم من أهمية المؤسسات المدنية المنوط بها القيام بهذا الدور، ومع ذلك لا يجد من يتصدون لفرملة حالة التغول التي تعرقل في أحيان كثيرة دور دولة ترفض بعض أجهزتها تدخلاته وتضطر إلى قبولها بذريعة عدم الصدام معه، وهي تعلم أن الغلبة ستكون لصالحه.

نجح الأزهر في التسلل داخل الكثير من الخلايا المجتمعية، معتمدا على هامش الحركة الذي منحته الدولة للمؤسسات الدينية الرسمية، وتجاوز عدم الانسجام أحيانا بين شيخه أحمد الطيب والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.

ظهر التباين في محكات عديدة أبرزها قضية الطلاق الشفوي، وهي قضية اجتماعية بامتياز، ولم يقرّ الطيب بوقوعه كما أراد السيسي وأصرّ على موقفه حتى تجمدت فكرة التغيير وعجزت الحكومة عن تمرير قانون عبر البرلمان يجيز الطلاق الشفوي، حيث يمنع الدستور إقرار بعض قوانين الأحوال الشخصية دون الرجوع إلى الأزهر.

أدى خروج الأزهر في هذه المعركة منتصرا، أو على الأقل غير مهزوم بالضربة القاضية كما ينهزم غيره في القضايا التي يتدخل فيها رئيس الجمهورية، إلى المزيد من الثقة لدى شريحة من المواطنين شجعته على التدخل في تفاصيل الملفات المجتمعية، ومن تجلياتها توجيه الشباب إلى التقشف في ملف الزواج والجوانب الخاصة بمصروفاته.

قبل أن يعرف الناس ماذا جرى في أيّ من الملفات الحيوية ذات العلاقة الوثيقة بصميم حياتهم يبحثون عن موقف الأزهر منها، وماذا قال بشأنها، ثم تأتي مباركتهم التلقائية لاجتهاده، وهو ما يرقى إلى مستوى العقد الاجتماعي الذي يصعب تغييره.

بدأت حكاية الأزهر مع النظام المصري الحالي سياسية، وقت أن واجهت الدولة مأزقا عقب سقوط نظام الإخوان بعد عام في السلطة، عندما تم تصوير الثورة الشعبية التي قادت إلى إقصائهم على أنها “انقلاب عسكري” و”حرب ضد الدين”، فكان الملاذ هو الأزهر ليسهم في نزع فتيل الخطاب التحريضي ويدحض رسائله المجتمعية.

تضخم نفوذ الأزهر المعنوي من هنا، وضج الرئيس السيسي نفسه من عدم تجاوب شيخه مع ما يحتاجه في تجديد الخطاب الديني وتنقيح التراث وتوفير الغطاء اللازم لتجاوز بعض القوانين الجامدة التي تكبّل المجتمع، وربما تعرقل حياة الناس.

رغم الضجر السياسي العارم، إلا أن الرئيس لم يتخذ إجراءات للحد من دور الأزهر، لأن رئيسه “معصوم” من العزل بحكم الدستور، ويملك من الحضور المجتمعي ما يصعب مواجهته بالقانون أو بوسائل أخرى، وتسير العلاقة بين مؤسسة الرئاسة والأزهر على وتيرة متذبذبة، لا يريد كل طرف وصولها إلى حافة الهاوية.

استغل الأزهر الفراغ الذي تركته عملية تقويض جماعة الإخوان والحد من حركة التيار السلفي وسط الناس، وأجاد توظيف الحالة بصورة جعلت توجهاته تتقاطع مع النبض المجتمعي العام، مستفيدا من الذخيرة الدينية الغيبية عند فئة كبيرة من المصريين والتأييد الرسمي الذي حصل عليه عند تهاوي الحركات الإسلامية.

تخشى مؤسسة الرئاسة من مغبة تحويل الخلاف إلى عداء، وتتحوط من الوصول إلى مستوى يوحي بصعوبة العودة، لأن الدولة نفسها وفرت الإمكانيات التي أفضت إلى تقديس آراء الأزهر، وكل هزة قد تتعرض لها قيادته أو تقليص متعمد لصلاحياته سيتم فهمه على أنه ردة رسمية تستغلها قوى دينية مناهضة، وتحدث فتنة في المجتمع.

ساعدت الكاريزما والترحيب الذي يتمتع به أحمد الطيب في الداخل والخارج في الحصول على شيء أشبه بـ”العصمة” تحميه من أيّ محاولة للنيل منه، ومكّنته مواقفه الصارمة من الثبات في مواجهة الانتقادات وحملات الهجوم التي تعرض لها من قوى مدنية، كأنه يعلم أنه يملك مفاتيح كسب المعركة في النهاية، فطالما أن هناك انحيازا من قبل طبقة كبيرة له لن تتمكن أيّ جهة رسمية من إلحاق هزيمة منكرة به.

منح الاستثمار في هذه المكانة الأزهر جرأة نادرة في دولة تعيش ظروفا استثنائية في عدم القدرة على مناطحة السلطة من أشخاص أو مؤسسات عامة أو خاصة، بما أغرى الجهات التابعة له على الاقتراب من قضايا حساسة لا علاقة لها بالفضاء الديني الواسع، ووفرت القاعدة لمجمّع البحوث الإسلامية لإطلاق مبادرته “لتسكنوا إليها”.

تبدو المبادرة نوعا من استعراض العضلات داخل المجتمع أو جس النبض حيال ما يمكن أن يتعرض له من انتقادات، لأن مرورها وسط ترحيب لافت من مواطنين يعيشون ظروفا اقتصادية صعبة يمنع محاربتها، وربما تلقى تشجيعا ضمنيا من الحكومة، فالمبادرة تصب في دعوتها إلى التقشف وتحمّل المصاعب في هذه المرحلة.

يعلم الأزهر طبيعة دوره الديني والسياسي والمجتمعي، والمسموح والممنوع، وهو ما مكّنه من عبور الكثير من المحن الفترة الماضية، فالدبلوماسية الناعمة التي يمكن أن تتحول إلى خشونة أحيانا ساعدته على ذلك، وخلقت عنه صورة ذهنية إيجابية تزداد تضخما في وجدان المجتمع الذي أصبح يردد عبارة هذا ما قاله الأزهر بأريحية وثقة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى