أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: نوايا السلام في السودان

محمد أبو الفضل 29-5-2023: نوايا السلام في السودان

أصبح الطامعون في إحلال السلام قريبا بالسودان على موعد مع مستحيل جديد يضرب هذا البلد الذي كانت جُل جهود قياداته وجهود قوى إقليمية ودولية عديدة منصبّة على البحث عنه سابقا، ففي ظل الصعوبات الكثيفة التي يجدها تثبيت وقف إطلاق النار من خلال الوساطة السعودية – الأميركية باتت التسوية السياسية بين رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) بعيدة المنال.

لم تتوافر حتى الآن في الأفق العام مؤشرات ملموسة لإحلال السلام، وكل الأطراف التي أعلنت استعدادها للمساهمة فيه لم تتمكن من تحريكه خطوة واحدة إلى الأمام والتوصل إلى هدنة راسخة تسمح بتقديم المساعدات الإنسانية إلى المتضررين، أو بوقف دائم لإطلاق النار يتيح الفرصة لمناقشة ما هو أصعب من مشكلات.

غاب التفكير في العملية السياسية وطغت نيران الحرب، وانشغلت أطراف كثيرة في الداخل والخارج بمحاولة التعرف على شكل الخارطة الناجمة عن الصراع الدائر بين الجيش وقوات الدعم السريع، والتي بدأت تتجاوز حدود الخرطوم وتصل إلى منطقة دارفور المفعمة بالنزاعات، بعضها جرى تسكينه بصعوبة، والبعض الآخر يمكن أن ينفجر في أيّ لحظة وقد يصعب تطويقه قياسا بالمرة السابقة.

لا توجد بوادر للسلام، وربما لا توجد أيضا نوايا حياله، فكل طرف مصمم على إلحاق هزيمة منكرة بالآخر وتوجيه ضربة قاسية تخرجه من الحلبة السياسية في الفترة المقبلة، وهو ما يفسر الحدة الطاغية على الصراع الحالي وعدم الامتثال للكثير من النداءات أو الاستجابة لأيّ من المبادرات الرامية لوقف الحرب.

يبدو أن هناك رغبة لدى قوى خارجية لضرورة أن تستنزف قدرات الطرفين أو يحقق أحدهما نصرا حاسما، لأن وقف الحرب وفقا لصيغة “لا غالب ولا مغلوب” لن يكون مجديا، حيث تعيد تلك الصيغة إنتاج المعادلة السابقة إلى ما كانت عليه من تجاذبات بين الجنرال البرهان وغريمه حميدتي.

ظهرت نوايا البرهان في الفترة الماضية من خلال إجراء تغييرات داخل المؤسسة العسكرية والبنك المركزي وجهاز الشرطة ووزارة الخارجية، إذ سعى لفك بعض القواعد وإعادة تركيبها في عدد من الأجهزة الحيوية بما يمكنه من السيطرة على مفاتيح الأمور، ويساعده على مواجهة التحديات الصعبة التي خلّفتها الحرب في الخرطوم.

أرخى موقفه السلبي من رئيس بعثة الأمم المتحدة فولكر بيرتس والمطالبة بتغييره بظلال كثيفة على صورة تعاطيه مع العملية السياسية لاحقا، حيث اعتبره أحد الأدوات التي دفعت الجنرال حميدتي للحرب، وأنه كان منحازا لفريق على حساب آخر، وهي رؤية يمكن أن تعرقل التفكير في السلام وتعطل عودة فولكر وتجعل من اختيار بديل له في ظل إصرار الأمين العام للأمم المتحدة على التمسك به مسألة صعبة.

تعني هذه الخطوة والرد عليها من الأمم المتحدة الدخول في مسار جديد من التعقيدات، يضفي غموضا على دور المنظمة الأممية والوكالات التابعة لها في الفترة المقبلة، والتي من المتوقع أن تتزايد فيها المساعي لتقديم مساعدات إنسانية مع تنامي أعداد اللاجئين والنازحين والمشرّدين.

يؤدي غياب نوايا السلام، أو على الأقل عدم وضوحها من قبل الكثير من الأطراف المعنية بالأزمة في السودان، إلى توسيع نطاق الصراع وخروجه عن السيطرة والاستعداد للتعايش معه فترة طويلة إلى حين تتكشف معالم التوازنات على الأرض، فلا صوت يعلو فوق صوت السلاح الآن، بما يجعل مهمة الوساطة السعودية – الأميركية متعثرة وغير قادرة على أن تتلمس الحدود الدنيا الواجبة لوقف الحرب.

قد يكون الجنرال حميدتي لا يقل تصميما عن غريمه البرهان في ضرورة اختفائه من المشهد، غير أن أبرز ما يميز الأول أن خطابه السياسي الذي يتعمد تصديره إلى الخارج يتسم بدهاء، ويحرص فيه على الإيحاء باستعداده لوقف إطلاق النار والتوصل إلى السلام، الأمر الذي أسهم في تأكيد معادلة المساواة بينهما، والتي ظهرت مع اندلاع الحرب.

أخفق إعلان البرهان أن حميدتي متمرد وقواته خارجة عن الشرعية ثم عزله من منصبه كنائب لرئيس مجلس السيادة، في جلب التعاطف مع قائد الجيش، ولم تؤثر هاتان الخطوتان في الوضعية السياسية لدقلو أمام القوى المعنية بما يجري في السودان.

أكد الحرص العام على المساواة بين الطرفين أن المجتمع الدولي يعلم صعوبة الموقف، وحساسية الانحياز لطرف على حساب الآخر، حتى الدول التي لديها مواقف شبه معلنة منهما تجنبت أن تعلن صراحة حقيقة موقفها، لأنها لا تعلم المدى الذي يمكن أن تصل إليه الحرب ومآلاتها النهائية، كما أن بعضها طرح أو يريد طرح مبادرات، والانحياز لن يمكّنه من تبنيها أو المشاركة في مبادرات تأتي من جهات أخرى.

كل ذلك يجعل نوايا السلام مشكوكا فيها على الدوام، فالطريقة التي اندلعت بها الحرب والرؤية التي يتبناها كل طرف ومسار التطورات الراهنة تشي بأن السودان أمام منحى يحتاج وقتا لتجاوزه، وكأن القوى الكبرى التي رددت أن السودان يمثل لها أهمية حيوية تنتظر شيئا ما أو تريد قياس المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الحرب.

لا يزال مجلس الأمن الدولي بعيدا عن الاقتراب من تفاصيل الأزمة وعلاجها، ويكتفي بتوصيفات تطرح عليه من قبل مبعوث الأمم المتحدة، في معظمها تضع المسؤولية على عاتق الطرفين، كما أن الخطاب الذي تتبناه قوى كبرى ليّن أكثر من اللازم، ويتعامل مع الأزمة بطريقة لا تشير إلى رغبة سريعة في عملية حسمها.

يقف قاموس اللغة لدى بعض القوى الكبرى عند نطاق التهديدات أو أقل كثيرا، ومن دون الإعلان عن خطوات محددة لعقوبات، فالتلويح بها لا يعني استخدامها، وإذا افترضنا أن الولايات المتحدة مضت في مسار العقوبات التقليدي فإن ذلك لن يفضي بالضرورة إلى التوصل إلى نتائج عملية، فسلاح العقوبات المجردة تمت تجربته مع السودان في عهد الرئيس السابق عمر البشير ولم يحرز أهدافه السياسية.

يحتاج السودان إلى التعرف على بوصلة القوى الكبرى ليتمكن المواطنون والقوى السياسية من التعرف على ملامح المرحلة المقبلة، وطالما أن الغموض الخارجي الكبير مستمر على حاله سوف يظل الغموض في الداخل أيضا، ولن يستطيع العارفون بشؤون هذا البلد تحديد شكل الخارطة التي يمكن أن يكون عليها، فالطرفان المتصارعان يستفيدان من الغموض، وربما يعتبرانه بناء بالنسبة إلى كليهما، حيث يقوم كل طرف بتوظيفه بما يتواءم مع مصالحه وأهدافه.

وما لم تتكشف نوايا الأطراف الرئيسية نحو ما يجري من صراع في السودان سوف تتواصل لعبة الشد والجذب مع الجنرالين، والتي تديرها قوى معنية بالأزمة دون أن ترسم حدا فاصلا بين المسموح به سياسيا والمرفوض عسكريا من قبلهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى