أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: مفتاح العلاقة بين مصر وتركيا

محمد أبو الفضل 14-10-2022م

يمكن القول إن تعزيز الثقة المصرية في النظام التركي هو المفتاح الذي يحل الكثير من ألغاز العلاقة المتعثرة معه. فبعد فترة من الهدوء عاد التوتر الخفي بينهما بسبب قيام تركيا بتوقيع مذكرة تفاهم جديدة مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة أخيرا، تتضمن تنقيبا عن الغاز والطاقة في ليبيا ومحيطها البحري.

صبت القاهرة جانبا كبيرا من إدانتها للخطوة على الجانب الليبي، بحكم أن الحكومة الحالية في طرابلس التي وقعت المذكرة منتهية ولايتها في التقدير السياسي المصري، وغير مخوّل لها التوقيع على اتفاقيات مع أي جهة.

وتحاشت الحكومة المصرية القيام بإدانة مباشرة للتصرف التركي كما حدث مع مذكرة التفاهم السابقة التي وقعت في عهد حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج منذ حوالي ثلاثة أعوام، ووقتها كانت الأزمة بين البلدين في قمة اشتعالها.

وفرض التقارب الجديد بين أنقرة والقاهرة طقوسه السياسية، وأدت التهدئة التي ظهرت معالمها في الفترة الماضية إلى تجنب فتح ملفات شائكة تفتح الباب لعودة الأزمات، ومن بينها الحالة في شرق البحر المتوسط، حيث عبر الدور المصري في المنتدى الخاص به عن حرص على تحاشي الدخول في مواجهة مباشرة مع تركيا، وفي أوج تعاطف القاهرة مع اليونان أو قبرص كان خطابها مواربا إلى حد بعيد في إدانة أنقرة.

وفي ليبيا التي تمثل أهمية إستراتيجية كبيرة لم تصبّ مصر لعناتها على تركيا وصبتها على الدبيبة وحكومته، وبعد توقيع مذكرة التفاهم الجديدة غضت الطرف عن قيام أنقرة بهندسة الخطوة والترتيب لها جيدا كأنها لا تريد خسارة ما تحقق من تقارب معها، لأن أنقرة ابتعدت عن تبني تحركات تستفز بها القاهرة كما كانت في السابق.

فقد تراجع توظيف جماعة الإخوان ضد النظام المصري، وتوارت التصرفات التي درجت على القيام بها في ليبيا ومثّلت إزعاجا قويا للقاهرة، واكتفت بتوجهات دبلوماسية ناعمة أخف وطأة بالنسبة إلى مصر ولو كانت نتائجها البعيدة أكثر خطورة لأنها تستطيع التعامل معها سياسيا وترى أن نتائجها أقل كلفة من اضطرارها إلى اللجوء لخيارات عسكرية تصعب السيطرة على المدى الذي يمكن أن تقف عنده.

وحاولت تركيا استقطاب مصر إلى صفها من خلال اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع الحكومة الليبية السابقة، والتي منحت بموجبها القاهرة نحو ثلاثين ألف كيلومتر مربع زيادة على حدودها الدولية المتعارف عليها وفقا لقوانين البحار ورسمت على أساسها بهدوء خارطتها البحرية مع اليونان وحصلت على شرعية من الأمم المتحدة.

رفضت مصر الانجراف وراء الإغراء التركي احتراما للقوانين الدولية، وخوفا من إقرار سابقة تؤدي إلى تخريب الخرائط البحرية في المنطقة، والتي تجد فيها أنقرة وسيلة للحصول على مكاسب أخفقت في الحصول عليها من خلال بوارجها أو منهجها السياسي الذي يسعى إلى الاستحواذ على جل المكاسب في شرق المتوسط، ويجد في التعاون مع القاهرة وسيلة لتفكيك منتدى شرق المتوسط وما يشكله من منغص لتركيا.

وتعاملت القاهرة مع الخطوة التركية كطعم تريد به فسخ تحالفها مع كل من اليونان وقبرص، أو على الأقل تحييدها والعودة إلى صيغة سابقة نجحت من خلالها القاهرة في توفيق أوضاعها وعلاقاتها بين الدول الثلاث قبل أن يتبنى النظام التركي صراحة مشروعا أيديولوجيا يحمل تهديدا لنظيره المصري.

الحاصل أن غالبية الخطوات التي تبنتها تركيا عقب ظهور مؤشرات التقارب مع مصر خلال العامين الماضيين خلت من الإجراءات التي يمكن وصفها بأنها ضد مصالح القاهرة، وبعد تيقّنها من أن دور الجماعات الإسلامية يتقلص في اللعبة الإقليمية وأن مصر فكت الكثير من شفراتها، حرصت أنقرة على التمسك بالتهدئة.

وفي كل اللقاءات الدبلوماسية والأمنية التي تمت بين طواقم من البلدين في مناسبات مختلفة مؤخرا كانت الفرق التركية حريصة على كسب ود مثيلتها المصرية، والتأكيد على طي الصفحة الماضية انطلاقا من تعظيم القواسم المشتركة في بعض القضايا.

وانطوت هذه الحالة على رغبة في تصحيح مسار العلاقات، وهو ما تستشعره القاهرة جيدا، غير أنها لا تريد السقوط في فخ التقية التركي الذي يستمد جذوره من عقيدة تخول له أن يظهر في السياسة خلاف ما يبطن، وهو ما تخشى الحكومة المصرية الوقوع فيه عندما وجدت مبالغة من قبل أنقرة في خطب ودها، جعلتها تميل كثيرا إلى الحذر، فكل تقارب قد تدفع القاهرة ثمنه من رصيد تحالفاتها الراهنة في المنطقة.

وتستمد مصر عدم ثقتها في نوايا تركيا من تقاعسها عن القيام بتصفية بعض الملفات العالقة، حيث تركت في كل واحد منها كوة تشير إلى إمكانية العودة إلى التصعيد.

وما تراه تحركا سياسيا لسد الفجوة هو انحناءة تكتيكية تمكن من عبور عواصف داخلية وخارجية، وعندما تهدأ ربما تعود أنقرة إلى سيرتها الأولى من المناكفة.

وتركت تركيا ملف الإخوان معلقا، أو بمعنى أدق مفتوحا من دون تصفية حاسمة لمكوناته، ومنحت مصر بعض الامتيازات في تسليم عدد محدود من المطلوبين وقدمت ما يمكن وصفه بـ”التنازلات” الإعلامية والسياسية والأمنية في شكل تضييق خناق على العناصر الإخوانية والمتشددة، لكنها احتفظت بالأوراق الرئيسية في يدها وتستطيع استخدامها في الوقت الذي تريده، ولذلك تتشكك مصر كثيرا في نوايا أنقرة.

 وإذا عبر الرئيس رجب طيب أردوغان الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في بلاده بسلام في العام المقبل يمكن أن يكشف عن وجه قبيح بموقفه الحقيقي المؤيد للجماعة، والتي يراها من أدواته المركزية ويصعب التفريط فيها دون الحصول على مقابل سخي أو دون إيجاد بديل يقوم بالدور نفسه في خدمة مشروعه السياسي، لأن منهج الجماعة هو جزء من صميم التكوين العام لحزب العدالة والتنمية الحاكم، ما يتطلب إعادة صياغة للمشروع برمته في حالة الإعلان صراحة عن فك الارتباط مع الإخوان.

وتظل استعادة الثقة هي المفتاح الذي يمكن أن يؤدي إلى فتح صفحة جديدة بين البلدين، والتي لا تزال مفقودة، على الرغم من خطوات وتحركات عديدة قامت بها أنقرة، وإشارات قدمتها بأشكال متباينة، لأن هذه المسألة تحتاج إلى إجراءات عملية تطمئن مصر التي تعلم أن كل خطة تقربها من تركيا قد تبعدها خطوة مماثلة عن اليونان وقبرص، وهو ما يجعلها ترتاح كثيرا إلى أن يكون التفاهم معها في سياق إقليمي.

ولأن هذا الهدف بعيد المنال سوف تبقى العلاقة بين الجانبين أسيرة مستجدات، تصعد أو تهبط بها دون أن تسفر عن الدخول في مواجهات محتدمة لا يريدها الطرفان أبدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى