أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: مصر وليبيا أبعد من الجامعة العربية

محمد أبو الفضل 12-9-2022م

يصعب أن تؤثر الدبلوماسية المصرية في الأزمة الليبية من خلال تحركاتها داخل الجامعة العربية، كما يصعب أن تنال الحكومة التي يرأسها عبدالحميد الدبيبة شرعيتها بمجرد رئاسة دورة جديدة لمجلس وزراء خارجية الدول العربية، لأن الجامعة وهياكلها وتصوراتها وكل ممارساتها الحالية لا تستطيع تغيير التطورات الحاسمة في الأزمة الليبية لصالح رؤية القاهرة أو طرابلس.ولا يحتاج الحديث عن دور الجامعة في الأزمات العربية إلى مزيد من الاستطراد، فالكل يعلم، بمن فيهم كبار المسؤولين في الجامعة، أن دورها بات معنويا وقدرتها على توجيه الأحداث ضئيلة بسبب خلافات تعصف بها وخضوع قادتها لحسابات متباينة.يكفي الجدل الحاصل حول الموقف من عودة سوريا إلى مقعدها للتأكد من أن هناك أزمات لا يتوقف التعامل معها على الإرادة العربية، فهناك أدوار إقليمية ودولية مهمة يصعب تجاهلها، ولها كلمة في قضايا عربية عديدة تفوق كلمة أصحابها الأصليين.تعد الأزمة الليبية نموذجا حيّا يعكس طبيعة التوازنات العابرة للحدود العربية، فانسحاب الوفد المصري قبل صعود وزيرة خارجية ليبيا نجلاء المنقوش لإلقاء كلمتها من على منبر الجامعة عند بدء اجتماعات الدورة 158 الأسبوع الماضي لن يؤدي إلى سقوط حكومة الدبيبة أو تغييبها عن المشهد العربي، فبعد أيام قليلة استقبل في الدوحة، بما يوحي بتحدّ لافت لانسحاب الوفد المصري.

كما أن رئاسة ليبيا لهذه الدورة لن تجعل الحكومة في طرابلس ويرأسها الدبيبة رقما وحيدا في معادلة السلطة وتلغي حكومة فتحي باشاغا في سرت، المدعومة من مجلس النواب، وأعلنت القاهرة تأييدها باعتبار أن حكومة الدبيبة انتهت ولايتها.الواضح أن تعامل مصر مع الأزمة الليبية أبعد من الموقف الرمزي الذي اتخذته بالانسحاب وما ينطوي عليه من رسائل سياسية للدبيبة ومن يدعمونه في الداخل والخارج، حيث سجلت القاهرة اعتراضها هذه المرة بطريقة توصف بـ”الخشونة”، ما أنساها أن دبلوماسيتها الناعمة مع كل من تركيا وقطر أشد خطورة عليها.ربما أرادت وزارة الخارجية المصرية من وراء هذه الخشونة تسجيل موقف يصل صداه إلى أبعد من المجتمعين في مقر الجامعة، وربما بهدف التغطية على عجزها عن القبض على مفاتيح مهمة في الأزمة الليبية بعد أن تمكنت في مرحلة سابقة من القيام بدور فاعل في جميع مراحلها الأمنية والسياسية، وربما تكون خطوة تشير إلى التخلي عن المرونة الكبيرة التي اتبعتها والانفتاح على أطرافها في الفترة الماضية.يقود التعامل مع نظرية ربما والاحتمالات إلى جملة من الاستنتاجات تتفاوت درجة اليقين في صحتها، لكن الظاهر أمام الجميع أن هناك تقدما سياسيا من جانب كل من تركيا وقطر في التعاطي مع الأزمة الليبية بعد أن قطعت كلتاهما شوطا في المصالحة مع مصر.ما أخفق البلدان في الوصول إليه عبر دعم أذرع إسلامية ليبية بسبب صرامة الموقف المصري يشرعان في تحقيقه جراء ليونته، حيث أدى التقارب مع أنقرة إلى تجنب المناكفة معها، على الرغم من عدم تغيير ممارساتها الجوهرية في ليبيا، وكل ما تبدل هو استخدام أنقرة لأدوات أقل خشونة، كأن القاهرة تقبل بالوجود التركي شريطة أن يكون ليّنا.امتد الحضور التركي إلى شرق ليبيا ولم يعد قاصرا على غربها، واستقبلت أنقرة وإسطنبول بعض القيادات التي تنتمي إلى الشرق من الحلفاء التقليديين للقاهرة، وشرعت في تهيئة أجواء لتقارب ولقاءات تجمعهم وآخرين في الغرب، وصار توجه تركيا السياسي مقبولا أكثر من ذي قبل، ويتعامل معها من كانوا يصفونها بالخطيرة والهدامة والاستعمارية بأريحية لم تكن موجودة.لم تبد القاهرة انزعاجا أو امتعاضا من هذا الدور أو تقابله بدور مماثل يحافظ على منجزها السابق، ما جعل قوى ليبية عدة قريبة منها تتعامل مع أنقرة بقدر مرتفع من الأريحية، وهو مكسب حققته الأخيرة منذ أن مدت خيوط التواصل صوب مصر.أراح الانخراط السياسي التركي الكثير من الأطراف الليبية ورفع العتب عنها عندما وجدت صمتا قادما من القاهرة، وكان يجب عليها القلق، فأنقرة عازمة على الاستمرار في ليبيا وما عجزت عن تحقيقه بآلتها العسكرية تعمل عليه بأدواتها الدبلوماسية.تسير قطر التي تعرضت لانتقادات حادة من القاهرة وقوى ليبية قريبة منها بسبب تدخلاتها السافرة ومساندتها للجماعات المتطرفة على نفس المنوال التركي، حيث تفتح أذرعها لقيادات من الغرب والشرق، ويمكنها بالتعاون والتنسيق مع أنقرة القيام بتحركات تمنحهما دورا سياسيا كبيرا عجزتا عن الحصول عليه في السنوات الماضية عندما تبنت كلتاهما طريقا يدعم الخيارات العسكرية للميليشيات في ربوع ليبيا.إذا مضت الأمور في هذا السياق سوف تحقق تركيا وقطر مكاسب نوعية على الساحة الليبية، إذ تمتلكان نفوذا على الفصائل المسلحة ويدا طولى على القوى السياسية، يتعزز ذلك كلما غابت مصر عن تبني رؤية سياسية تستطيع بموجبها جمع شتات الأطراف الليبية على طاولتها، كما كانت تفعل في الفترة الماضية، وهي الطريقة التي ساعدتها على عدم تجاهلها من جميع الجهات المنخرطة في الأزمة.

حمل انسحاب الوفد المصري خلال كلمة المنقوش في الجامعة العربية رسالة سياسية مرتبكة وقد لا تستطيع القاهرة التمسك بها، فالأزمة الليبية سيعاد طرحها على الساحة الدولية من جديد، وأي مقاربة نحوها لن تستبعد حكومة الدبيبة منها.حضرت مصر الاجتماعات التي استضافتها ألمانيا يومي الثامن والتاسع من سبتمبر الحالي، مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا وإيطاليا وألمانيا، ضمن صيغة أطلق عليها (3+2+2) لمناقشة الأزمة الليبية والتسوية بين الفرقاء والتحضير لمؤتمر برلين 3، والذي من المؤكد أن يشارك فيه الدبيبة أو من ينوب عنه.على القاهرة الانتباه إلى المخاطر القادمة من ليبيا، فهذا المؤتمر يمكن أن يكون عنصرا فاصلا، يختلف عن كل المؤتمرات التي سبقته، حيث يميل الاتجاه الدولي الراهن إلى أن يكون نواة تعيد هندسة الأوضاع في ليبيا، مع إصرار على تغييب روسيا عنه، والتي كانت تضبط بعض التوازنات في مواجهة توجهات غربية تريد رسم خارطة معينة لهذه الدولة الحيوية بالنسبة إلى الأمن القومي المصري.دفعت القاهرة ثمنا كبيرا نتيجة استغراقها في تفاصيل الأزمة ووقوفها عند تصرفات قليلة التأثير في خطوطها العامة، وعليها أن تتفرغ لوضع رؤية صائبة تساعدها على عدم تمكين تركيا وقطر من إحراز أهداف سياسية تعزز أهدافهما الأمنية، وهي معركة بدأت ملامحها تدور في الخفاء، وتفرض على القاهرة الاستعداد لها بما هو أكبر من انسحاب وفد دبلوماسي من اجتماع عربي لن يقدم أو يؤخر في الأزمة الليبية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى