أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: مصر إطفائي حرائق إقليمي ينجح في غزة ويتعثر في السودان

محمد أبو الفضل 7-5-2023: مصر إطفائي حرائق إقليمي ينجح في غزة ويتعثر في السودان

مصر اختارت لظروف خاصة بها أن تعتمد إستراتيجية إطفاء الحرائق الإقليمية ولعب دور الوسيط، وهو دور واتاها في غزة، حيث نجحت في رعاية وقف إطلاق النار أكثر من مرة، لكن هذا الدور ارتبك في ليبيا بسبب تعقيدات الملف، وهو يرتبك الآن في السودان بسبب العلاقة الخاصة التي تربط القاهرة بقيادة الجيش هناك.

ارتاحت مصر في السنوات الماضية لدور إطفائي الحرائق في بعض الأزمات الإقليمية، ورأته يمكّنها من منع انفلات صراعات قريبة من حدودها بما يؤثر على مصالحها، ويمنحها دورا سياسيا في المنطقة يقوض أدوار من يريدون القفز عليها.

تحققت هذه المعادلة في قطاع غزة في كثير من الاشتباكات المتقطعة التي حدثت بين إسرائيل وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين مؤخرا، لكنها تعثرت في السودان مع اندلاع الصراع بين قوات الجيش والدعم السريع، وحافظت على قدر من حضورها في الأزمة الليبية وكانت عنصرا مؤثرا في بعض توازناتها السياسية، والأمنية أحيانا.

يخرج دور مطفئ الحرائق من رحم ما يمتلكه صاحبه من أدوات دبلوماسية أو خشنة، أو الاثنين معا، تساعده على إقناع أو ممارسة ضغوط على طرفي الصراع، ويكون لصاحب هذا الدور مصلحة كبيرة في التهدئة ومنع توسيع نطاقه.

يتمتع صاحب هذا الدور بشبكة جيدة من العلاقات الإقليمية والدولية كي لا يتم تعطيل تحركاته ووضع عراقيل عبر تحريض أحد طرفي الأزمة أو التشكيك في الدولة الوسيط، فهناك دول إن لم تحقق أهدافها لا تمكّن الآخرين من الوصول إلى أغراضها.

بنت القاهرة ميراثا جيدا مع طرفي الصراع الرئيسيين في غزة، إسرائيل من جهة، والقوى الفلسطينية بتنويعاتها المختلفة من جهة ثانية، انطلاقا من تأثر الأمن القومي المصري مباشرة بأي توسع في الحرب يمكن أن يحدث، قد يجعلها بسهولة طرفا غير محايد فيه، فقطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة عموما قد تلقي تداعياتها بظلال غامضة على مصر. وبدلا من تورطها في حرب كما حدث قبل عقود، رأت القاهرة أن منع اندلاعها والعمل على توقيفها من أفضل الخيارات المتاحة أمامها في الوقت الراهن.

ثبّتت مصر أقدامها في التعامل مع ما حدث في غزة من معارك الفترة الماضية، وأسهم نجاحها في وقف استمرار الحرب أكثر من مرة في تعزيز ثقة الإدارة الأميركية الحالية فيها، غير أن وساطاتها لنزع فتيل حرب محتملة أو العمل على وقفها بعد وقوعها لا يخلو من محاولات أطراف إقليمية أخرى الدخول على خطوطها، مع ذلك أوجدت القاهرة لنفسها مكانا في مقدمة من يستطيعون إطفاء الحريق في غزة.

جاء اندلاع الحرب في السودان بين قوات الجيش والدعم السريع في منتصف أبريل الماضي محملا برياح غير مواتية على صعيدي المشاركة في الحرب بجانب الأول أو إطلاق مبادرة والقيام بوساطة منتجة بين الطرفين، وبدا دور القاهرة المؤيد للمؤسسة العسكرية النظامية حائلا أمام القبول بدور نشط لها في إطفاء حريق السودان قبل أن يمتد إلى حدودها الجنوبية.

لهذه المسألة روافد سياسية وأمنية، حيث ساد انطباع لدى شريحة ليست هينة من النخبة في السودان أن أي تدخل مصري لا يصب في صالح بلدهم، وتضخمت الفرية وتحول جزء كبير منها إلى ما يشبه الحقائق، الأمر الذي كبح لسنوات قيام القاهرة بدور ملموس في حل الأزمة السياسية – العسكرية، ومنع تحولها إلى عسكرية – عسكرية، كما هو حاصل الآن.

زادت المصدّات الإقليمية الموقف صعوبة، حيث وضعت دول أفريقية عديدة ما يشبه الفيتو على الدور العربي عموما، والمصري خصوصا، وعمل قادة بعض الدول على استمرار أفرقة الصراع في السودان، والإبقاء عليه ضمن آليات تفكيك أزماته في إطار المنظمات الإقليمية القريبة منه، والحفاظ على عدم مبارحة صراعه الأخير الحوزة الأفريقية، والتي زادت مبكرا من خلال مفوضية الأمن والسلم الأفريقي وهيئة الإيغاد بعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير منذ حوالي أربع سنوات.

يشير غياب دور مطفئ الحرائق المصري في السودان إلى خلل في تقديرات القاهرة في التعامل مع بعض الصراعات المتشابكة، ففي الوقت الذي اتخذت فيه غالبية القوى الخارجية دورا وصف بالمحايد والمساواة بين طرفي الحرب، لم تتمكن مصر من اتباع الموقف ذاته واعتبرت دعم الجيش فرض عين، باعتباره الضامن لوحدة وأمن واستقرار الدول، كمنهج لا تخفيه القاهرة بعد أن رأت انهيار دول عربية عدة بمجرد انفراط عقد جيوشها، وهو ما لم ترده لجارها السودان.

تم تطبيق هذه الرؤية على علاتها ودوافعها مفهومة لمن يعرفون آليات صناعة القرار في مصر، والتي ترفض أي دور عسكري مواز للجيوش النظامية، وفات هذه الرؤية أن قوات الدعم السريع لديها مرتكزات احتمت بها عند خروجها أو تمردها على الجيش، في مقدمتها أنها تحظى بشرعية قانونية كأحد أفرعه الرئيسية، وتملك معدات عسكرية لا تقل شراسة عما يملكه الجيش السوداني نفسه، ونسجت شبكة قوية من العلاقات الإقليمية والدولية ساعدتها على تخفيف حدة الضغوط الواقعة عليها.

علاوة على أن قوات الدعم السريع هيأت الأجواء لاستقطاب مؤيدين لها في الداخل والخارج ضاعفت من صعوبة إدانتها أو القبول بوصف الجيش لها كحركة متمردة عليه أو ميليشيا تطمح للسيطرة على الحكم، ومضى التعامل منذ بداية الصراع على أن الحرب بين كفتين شبه متوازنتين في أمور سياسية وعسكرية متباينة.

ساعد التفات دول كثيرة لمفارقات الصراع في السودان ورفض الانحياز صراحة لطرف معين على تمكين أصحابها من طرح مبادرات والقيام بأدوار وساطة. في الوقت الذي ضبطت مصر بوصلتها نحو محاولة الوقوف في منتصف الطريق بين قوات الجيش والدعم السريع، كانت بعض وسائل الإعلام الرسمية تتخذ موقفا متشددا من الثانية باعتبارها حركة متمردة، وأيدت الأولى كقوات شرعية وحيدة.

يكفي هذا المحدد لعدم القبول بدور وساطة يمكن أن تقوم به القاهرة لاحقا، وظهرت تجليات هذه المسألة في تواصل قادة قوى إقليمية ودولية مختلفة مع القيادة المصرية، فلم يتواصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع نظيره المصري سامح شكري إلا بعد مرور نحو أسبوعين على المعارك، وبعدها جاء اتصال شكري (الخميس) مع قائدي الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان والدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ما يشي بأهمية الانفتاح على الطرفين لتعزيز دور الوساطة.

أصبح أمام مصر طريق واحد لتخفيف وطأة الضغوط التي تمارسها بعض الدول الأفريقية لتنحية الدور العربي، الجماعي والفردي، وهو دعم جهود السعودية كوسيط مقبول من أطراف عديدة، ظهرت معالم ذلك في إجراء وفدين لطرفي الصراع محادثات غير مباشرة في جدة، السبت، لتثبيت وقف إطلاق النار.

يمكن أن تخرج القاهرة بنتيجة مهمة من دورها النشط في غزة والبارد في السودان والمتأرجح في ليبيا، وهو أن قدرتها على مواصلة دورها كوسيط في النزاعات الإقليمية القريبة يتطلب مروحة واسعة من التقديرات السياسية، لأن أحد العوامل التي تلعب دورا في نجاح أو فشل الوساطة درجة التوازن بين الأطراف المتصارعة.

يصعب القول إن مصر غير منحازة للطرف الفلسطيني على حساب الإسرائيلي، لكن هناك عوامل تدفعها لعدم تأثير ذلك على دورها في إطفاء الحرائق التي تندلع بين الجانبين، وهو ما يحتاجه في السودان الذي لن تتوقف أزماته على المعارك العسكرية الحالية، فالمرحلة التالية ستكون أكثر صعوبة، لأن العملية السياسية متوقع أن تبدأ من نقطة مغايرة لما كانت عليه، وعلى القاهرة الاستعداد للمشاركة فيها لأن ثمة دولا تسعى لتنحيتها والقيام بما كانت تقوم به من إطفاء حرائق في المنطقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى