أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: كنز المصريين في الخارج

محمد أبو الفضل 28-8-2022م

يستحق العاملون المصريون في الخارج كل إشادة وتقدير من الحكومة، حيث تعد تحويلاتهم، التي بلغت نحو 30 مليار دولار أخيرا، شهادة تقدير على حبهم لبلدهم وشعورهم بحجم المسؤولية تجاه الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر والحاجة الملحة إلى العملات الصعبة في ظل شحها في البنوك المصرية.

يعد هؤلاء كنزا للدولة المصرية، وأسهموا نسبيا في الحد من تفاقم الأزمة الاقتصادية الحالية، فالكثير من المهاجرين من دول عربية عديدة توقفوا عن التحويل إلى دولهم، إما لتدهور الأحوال فيها أو عدم الثقة في تصورات حكوماتهم، وقرروا تأمين مدخراتهم في بنوك خليجية وغربية والاستقرار بعيدا عن الدولة الأم.

لم تنتهج غالبية المصريين هذا الطريق، والبالغ عددهم في المهجر نحو عشرة مليون نسمة ويتمركز جزء كبير منهم في دول الخليج ويعملون في وظائف مختلفة، فقد غلبتهم وطنيتهم وحبهم لأهلهم للاستمرار في تحويل أموالهم بلا توقف، حتى تفوقوا على ما تقوم الحكومة بتحصيله من مجالات أخرى.

تعد الأموال القادمة من الخارج واحدا من أهم أربعة عناصر رئيسية لتوفير العملات الصعبة في مصر، والثلاثة هم: قناة السويس، والسياحة، وتصدير بعض السلع وفي مقدمتها الغاز والموالح والفواكه والخضراوات التي تنمو أرقامها تدريجيا.

تحتاج القاهرة إلى المزيد من الأموال لسد العجز الفاضح في الدولار، والمطلوب لاستيراد بعض السلع الرئيسية والوفاء بفوائد القروض من صندوق النقد الدولي، ووقف تصاعد أسعار العملات في السوق، وعدم اللجوء إلى تعويم جديد للجنيه المصري ما يتسبب في ارتفاعات مفاجئة في أسعار الكثير من السلع.

يخطئ من يعتقد أن ارتفاع تحويلات المصريين في الخارج يرتبط فقط بارتفاع سعر الدولار في الداخل والاستفادة بفارق العملة، وقد يكون هذا المحدد لعب دورا ما في الزيادة وشجع مواطنين كثر على عدم التواني في التحويل، لكن الارتباط الوجداني لمعظم المصريين ببلدهم كان دافعا محوريا، فالتحويلات تتدفق منذ أن عرف المصريون العمل بكثافة في العراق وليبيا ودول الخليج قبل حوالي أربعة عقود، وقت أن كان سعر الدولار لا يتجاوز ثلاثة جنيهات مصرية.

تظل شريحة كبيرة من المواطنين تعمل في الخارج وعيون أصحابها لا تفارق بلدهم الأم، ومنذ اليوم الأول الذي يبدأ فيه هؤلاء رحلتهم في بلد المهجر يحسبون بدقة اللحظة التي سوف يعودون فيها، لذلك فتحويلاتهم لا تنصبّ على مساعدة الوطن وذويهم بقدر ما تنصبّ على فكرة العودة لا محالة، وما تتطلبه لاحقا من إمكانيات مادية للشعور بالإنجاز والراحة في المستقبل.

تحفل الذاكرة المصرية بالكثير من القصص والحكايات المعبّرة عن الطريقة التي تفكر بها شريحة كبيرة من العاملين في الخارج لها علاقة مباشرة بتفسير ارتفاع معدل العملات الصعبة المرسلة إلى مصر، حيث يسافر البعض لأجل تأسيس منزل أو إقامة مشروع خاص في الوطن ويجتهدون في العمل لتحقيق هذا الطموح الذي يستلزم المزيد من التحويلات، والتي يصبّ جزء منها في خزانة الدولة، والجزء الأعظم يوضع في بنوكها مع ضوابط وإغراءات تضمن عدم مغادرته لها.

تعمل هذه الشريحة على الاهتمام بتعليم أولادها في مصر، ما يتطلب تحويلات أيضا، فضلا عن مساعدات تقليدية تمثل رباطا مقدسا للعاملين في الخارج وأهلهم بالداخل.

بدأت مسألة التحويلات تواجه أزمة منذ أن عاد الكثير من المصريين في كل من العراق وليبيا والأردن بعد سنوات طويلة من العمل هناك، وكان يمكن أن تصبح التدفقات المالية من خلال المهاجرين أكثر من الرقم المعلن أخيرا (30 مليار دولار) لو أن هذه الدول حافظت على العمالة المصرية فيها حتى الآن.

ليس هذا مجال تبرير أسباب العودة والاستغراق في تفسير عدم الاستمرار، لكن الخطورة تأتي من تزايد احتمال نقصان أعداد المصريين في الخارج خلال الفترة المقبلة، ضمن سياسات توطين الوظائف التي تتبعها دول عربية مختلفة، يضاف إليها ما يمكن وصفه بعولمة الوظائف وتراجع الحرص على الاستعانة بالعمالة العربية عموما.

أبدى صديق في مجال البرمجة وملحقاتها ملاحظة مهمة بشأن شركة عالمية يعمل في مقرها بإحدى الدول الخليجية منذ سنوات، تتلخص في الحرص على توظيف كفاءات غير عربية، وفتح المجال للمنافسة بين جنسيات غربية في مجالات متباينة، حيث لوحظ أن هؤلاء أكثر إنفاقا وإن تساوت الكفاءة أحيانا مع نظرائهم من دول عربية، وهو ما ينعكس حتما على عملية توظيف العرب والمصريين.

تقود هذه الظاهرة الآخذة في النمو لتراجع تدفق العملات الأجنبية، ما يضع الحكومة المصرية أمام تحد يتسبب في إزعاجها، خاصة عندما تنخفض نسبة التحويلات بشكل ملحوظ وسط أوضاع اقتصادية يحتاج إصلاحها إلى معجزة، وسوف يكون الاعتماد على هذا النوع من المساعدات لتقليل نسبة العجز في الدولار خلال السنوات المقبلة مخيبا للآمال.

أخذت معادلة التوظيف التقليدية تدخل عليها تغيرات يمكن أن تضر بالحسابات المصرية، ما يعني أن كنز المحروسة بالخارج سيواجه أزمة عميقة لا تملك الحكومة حلا منجزا لها، ما يضاعف من الضغوط الواقعة عليها ويجبرها على البحث عن بدائل أخرى.

إذا كانت معادلة التوظيف خضعت لفترة طويلة لتقديرات سياسية في بعض جوانبها، بمعنى كلما تحسنت علاقات الدولة “س” المكتظة بالسكان مع الدولة الخليجية “ص” قليلة السكان وتحتاج إلى عمالة أجنبية لسد النقص في الوظائف المختلفة لجأت الأولى “س” إلى الاستعانة بمواطني الثانية “ص” أو على الأقل منحهم أفضلية.

تشير تحولات المشهد الإقليمي إلى ارتباك في علاقات مصر مع بعض الدول التي هي في حاجة إلى عمالة أجنبية، بكلام آخر دخلت تغيرات على التوازنات التي قامت عليها عملية التوظيف بصورة تقوض من أركان صيغة سابقة استمرت سنوات لم تتأثر كثيرا بالخلافات السياسية، ففي خضم المقاطعة العربية الشهيرة للقاهرة عقب توقيعها اتفاقية سلام مع إسرائيل كانت العمالة المصرية تملأ دول الخليج.

ما لم تبحث الحكومة جديا في إيجاد روافد جديدة للعملات الأجنبية سوف تتواصل الأزمة الاقتصادية وتدور في حلقات مربكة، لأن الكنز الموجود بالخارج يتقلص بفعل ترتيب أولويات التوظيف، وما طرأ على عملية الاختيار بين بدائل متنوعة من تحولات يستوجب التفكير في مرحلة ما بعد النقص في عدد العاملين المصريين في المهجر.

يزداد الأمر صعوبة عندما يتحول النقص في التحويلات إلى عبء مادي من نوع آخر يتعلق بنسبة البطالة المتصاعدة، ما يفرض على الحكومة توفير وظائف تستوعب من يدخلون سوق العمل سنويا، إذ كان العمل بالخارج وسيلة تمتص شريحة من هؤلاء.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى