أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: شد الحبل بين حميدتي والبرهان

محمد أبو الفضل 23-2023: شد الحبل بين حميدتي والبرهان

كان البعض من السودانيين يعتقدون أن العلاقة بين رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبدالفتاح البرهان وبين نائبه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) أشبه بشعرة معاوية بن أبي سفيان الشهيرة عندما سئل كيف حكمت الشام أربعين عاما رغم التوترات والقلاقل، قال جملة تحولت لما يشبه المنهج السياسي “لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت”، قيل وكيف؟ قال “لأنهم إن مدوها خلّيتها وإن خلوا مددتها”.

هكذا بدت العلاقة بين حميدتي والبرهان منذ سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، كلما شد أحدهما الشعرة أرخى الثاني الطرف الآخر، والعكس صحيح، ومع كل جولات المد والجزر بينهما، غير أن الحبل السياسي بينهما لم ينفصل، فقطعه معناه أن أحدهما يبقى في منزله أو يذهب إلى السجن، وربما يلقيان مصيرا واحدا في النهاية.

أشارت أحداث الأيام الماضية إلى أن شعرة معاوية انقطعت، ولعبة شد الحبل استنفدت أغراضها، ولم يعد كلاهما يستطيع استيعاب الآخر، بل يرى فيه مشكلة، قد يفتح التخلص منها المجال لحل أزمة سياسية حادة تعصف بالسودان منذ فترة.

غازل الرجلان قوى مختلفة في خطابين متتابعين يومي السبت والأحد الماضيين. فالجنرال البرهان اشترط دمج قوات الدعم السريع في المؤسسة العسكرية للاستمرار في الاتفاق الإطاري الموقع مع القوى المدنية في ديسمبر الماضي، في إشارة ظاهرة توحي باستجابته لمطلب توحيد الجيش والعمل على إعادة هيكلته.

وأخرى خفية تفيد بأن المشكلة في القوى/الميليشيات الشاردة التي لا تخضع تماما لتقاليد الجيوش النظامية، وفي مقدمتها الدعم السريع، وهي أول رسالة واضحة تؤكد أن البرهان يريد أن يقطع شعرة معاوية أو ينهي لعبة شد الحبل مع حميدتي.

لم يترك حميدتي غريمه البرهان يهنأ بقطف ثمرة فترة طويلة من التفاهمات الودية والقسرية، وباغته بثلاث ضربات موجعة، أولها استعداده للدمج بشرط القيام بعملية هيكلة كاملة للمؤسسة الأمنية وهو يعلم أن هناك قوى أمنية غير منضبطة، وثانيها ندمه على تأييد الانقلاب على القوى المدنية في أكتوبر 2021، وثالثها وجود مكاسب جناها فلول النظام السابق من هذا الانقلاب، أي تصورات البرهان تخدم أهداف هؤلاء.

ترك خطاب البرهان انطباعات بأن القواسم المشتركة التي ربطته بحميدتي انتهى مفعولها وأراد تحميله عواقب عدم التفاهم مع القوى المدنية كي يتهرب من استحقاق تسليم السلطة لها في وقت قريب.

ولعب الثاني على المنهج نفسه بطريقة عكسية، وبدا خطابه حاملا لغزل واضح للقوى المدنية والمجتمع الدولي المعني بالسودان، وهما جهتان متفقتان على أهمية إنهاء دور الجيش في الحياة السياسية.

ربح البرهان كثيرا داخل المؤسسة العسكرية النظامية التي لا ترتاح لما يتمتع به قائد قوات الدعم السريع من نفوذ اقتصادي وطموح سياسي، حول ميليشيا لقوة عسكرية منظمة، لكنه لم يفلح في إقناع القوى المدنية بأن العقدة في تمرد أو ممانعة حميدتي.

وكسب حميدتي داخل قواته التي تمدد دورها مؤخرا وأوصل رسالة قوية بأنه غير مخلص لفكرة هيمنة الجيش على السلطة المدنية بدليل مراجعته لموقفه من الانقلاب العسكري، وسيظل داعما للاتفاق الإطاري بقوامه المدني، ورافضا لعودة الفلول أو سيطرتهم على الجيش، وهي النقاط التي تجد تعاطفا وقبولا لدى القوى المدنية التي تتحكم في مفاتيح الحل والعقد في تحالف الحرية والتغيير، جناح المجلس المركزي.

اللافت أن التحركات التي قام بها البرهان أو حميدتي بعيدة تماما عن حل الأزمة السياسية من جذورها، فكلاهما يعمل على تكريس نفوذه بالوسيلة التي يراها مناسبة، ومحاولة استقطاب مؤيدين له بطرق مختلفة. إلا أن النتيجة واحدة، فلا هذا يريد توحيد المؤسسة العسكرية ولا ذاك يسعى إلى تمكين القوى المدنية فعلا من السلطة.

يستخدم كل طرف ما يمتلكه من أدوات لتوجيه ضربات للآخر بما يقطع شعرة معاوية ويطوي لعبة شد الحبل، فالأهداف متنافرة والوسائل التي يستخدمها كلاهما لن تقود إلى العودة للتفاهم مرة ثانية مهما حاولت بعض الجهات تقريب المسافات بينهما.

كان الخطاب الذي ألقاه البرهان موجها مباشرة إلى حميدتي وفريقه، كما أن خطاب الأخير استهدف منه الأول ورفاقه، ولم تعد اللعبة بينهما تحتمل اللجوء إلى حيل أو ألاعيب سياسية يعودان بعدها إلى الأجندة التي حددت ملامح التفاهم بينهما.

هناك لحظة فارقة لإنهاء العلاقة. فطموحات كل شخص متباينة وكلاهما يعتقد أنه أسهم في نجاح الثورة على البشير وأنقذ البلاد من المجهول وأدى دورا جليلا لمنع دخول السودان في نفق أشد ظلاما، ومن الضروري أن يكافأ على مهمته عبر تسلمه الحكم، استنادا أيضا إلى ما يملكه من أوراق سيوظفها للوصول إلى أغراضه.

يرى البرهان أن قيادته للمؤسسة العسكرية ورقة كافية لتمكينه من إدارة السودان بالطريقة التي يراها، بينما يعتقد حميدتي أن افتقاده لدعم هذه المؤسسة من الواجب أن يعوضه بمحاولة التقارب مع القوى المدنية لتعديل الكفة، وفي هذا الخضم يدير كلاهما علاقاته مع قوى إقليمية ودولية بما يعزز أهميته ليحصل على مباركتها ودعمها.

يعلم سودانيون أن البرهان وحميدتي وجهان لعملة واحدة ولن يجتمعا على هدف واحد، وتوقع الكثير منهم حدوث لحظة الفراق، لكن لم يعرف أي منهم النتيجة التي سوف تتمخض عنها. فالقطيعة قد تكون لها تكلفة سياسية باهظة، وخسارة طرف لا تعني مكسبا للآخر هنا، إذ يمكن أن تكون خسارة للسودان نفسه، ما يؤكد أن قطع شعرة معاوية يصطحب معه تداعيات خشنة لا أحد يعلم مدى القدرة على امتصاصها.

اللافت أن الخلاف ظهرت له بوادر في محكات عديدة، لم تصل ذروته سوى خلال الأيام الماضية، التي بات مشكوكا في إمكانية تطويقها، كما حدث في مرات سابقة، لأن الخصام أو المبارزة هذه المرة جاءت على الملأ، وأخذت شكلا مقصودا، يصعب القول إنه يشي بقدرة فائقة لديهما على توزيع الأدوار لتخريب العملية السياسية.

ما حدث عزز القناعات باستحالة التعايش بين رجلين يحمل كلاهما جينات سياسية واجتماعية وعسكرية مختلفة، يكفي النهم للسلطة ليشير إلى أن القطيعة واقعة لا محالة، ما يجعل القوى المدنية والحركات المسلحة في موقف لا تحسد عليه، فإذا أيدت أحدهما أو نبذت كليهما يمكن أن تعرض الدولة السودانية للمزيد من الأزمات، وقد لا تجد أمامها خيارا سوى انتظار النتيجة النهائية للمعركة الجديدة، وبناء عليها يمكن أن تحدد موضع خطواتها، وتتخذها فرصة لتصحيح أوضاعها التي أدت إلى التلاعب بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى