أقلام وأراء

زيارة مصرية واحدة إلى السودان لا تكفي

محمد أبو الفضل

بقلم محمد أبو الفضل – 16/5/2022

خرج وفد المجتمع المدني المصري الذي زار السودان أخيرا بتقدير إيجابي حول لقاءاته مع قوى وأحزاب سياسية ومسؤولين هناك، ما جعل أحد أعضاء الوفد يتحدث بما يوحي بوجود تحول دراماتيكي في العلاقات المشتركة، وأن الشكوك التي راودت البعض بشأن توجهات القاهرة نحو الخرطوم جرى تجاوزها.

يحمل هذا الانطباع الأولي قدرا من العواطف السياسية، فالترحيب الذي وجده الوفد الذي حوى تشكيلة جيدة من الشخصيات المصرية يصعب اتخاذه دليلا على إزالة التحفظات التي تسيطر على عقل بعض القوى المدنية بخصوص شعورها بانحياز السياسات المصرية إلى المكون العسكري، أو أن إرث عقود طويلة من التعقيدات تم حلّه في زيارة واحدة قام بها وفد متنوع يمثل المجتمع المدني المصري.

يعرف من يتعامل مع السودانيين، قيادة وشعبا، أنهم على درجة عالية من السماحة والود والكرم، للدرجة التي تجعل الكثير من قيادات الأحزاب والحركات يلتقون بالابتسامات قبل جلوسهم على طاولة المفاوضات في جميع الأزمات التي يمرّون بها، وعندما تبدأ المناقشات يتعاركون ويختلفون سياسيا كأنهم في حرب حقيقية.

عبّر الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر عن شيء من هذا عندما كان يشرف على إحدى جولات المفاوضات بين وفدي جنوب السودان وشماله قبيل انفصال الجنوب، حيث أثار دهشته ما شاهده من شراسة خلال عملية التفاوض مقارنة بما قبلها.

لن تكفي الزيارة الكرنفالية التي قام بها وفد المجتمع المدني المصري لحصد نتائج ملموسة وتخطّي عراقيل وضعتها قوى محسوبة على الحركة الإسلامية في السودان لتخريب العلاقة مع القاهرة

من خرجوا بانطباعات إيجابية، وهي حقيقية، من زيارة الوفد المصري عليهم إدراك أن زيارة واحدة لا تكفي، يحتاج الأمر إلى العديد من الزيارات التي تتجاوز حدود المجالات التي تطغى على تعامل السودانيين من أجل استكشاف عمق التغير الذي يمكن أن يحدث.

بدت ترتيبات الزيارة معدة بإتقان لتشمل عناوين رسمية وغير رسمية، سياسية واجتماعية وصوفية وكنسية وحركات مسلحة، لم تستثن أحدا من القوى المحورية في السودان، وهو ما يشي بتوجه دعائي يتفوق على الجانب المادي.

يكمن الهدف الرئيسي في التحضير لإطار قويّ مع النخبة يستعيد ما كان في الماضي البعيد، ويزيل الكثير من الرؤى السلبية العالقة في أذهان البعض بسبب انطباعات حول وجود تفرقة في التوجهات المصرية بين ممثلي المكوّنين العسكري والمدني. 

يحمل قطاع كبير من السودانيين شعورا إيجابيا تجاه المصريين، لا يخلو من منغصات أحيانا نتيجة تصرفات شعبية خاطئة، يؤكده وجود أكثر من أربعة ملايين مواطن سوداني يعيشون في مناطق مصرية مختلفة منذ سنوات طويلة ويعاملون كجزء من النسيج العام للدولة، ناهيك عن الزيارات المتقطعة طلبا للعلاج أو سعيا للتجارة.

لا توجد مشكلة حقيقية على المستوى الرسمي بين القاهرة والخرطوم حتى الآن، وعلى العكس هناك قواسم مشتركة تدفع باتجاه المزيد من التعاون والتنسيق في القضايا التي تهم الأمن القومي للبلدين، وقد تم تخطّي عقبات متباينة حشرت العلاقة بينهما في عهد الرئيس السابق عمر حسن البشير في خانة ضيقة.

تأتي المشكلة المركزية من التباسات تحيط بتقديرات قاتمة تحولت إلى ما يشبه كرة ثلج كبرت عندما جرى إهمال علاجها من جانب الطرفين وتصور أحدهما أو كلاهما أنها لا تستحق التمعن فيها، على اعتبار أنها ناجمة عن تخمينات لا تعبر عن الحقيقة.

كبرت التكهنات وأصبحت واقعا في أجندة بعض القوى المدنية وتقيّم بموجبها رؤيتها للعلاقة مع مصر التي لم تضبط في أيّ موقف يثبت أنها أخلّت بثوابت الروابط بين البلدين، لكن قوى إسلامية نافذة ولها أذرع في بعض الأحزاب المدنية وامتدادات إقليمية تمكنت من تحويل الهواجس إلى حقائق كانت سببا في تعطيل نمو العلاقات.

استهانت الحكومة المصرية بما نسجته حولها بعض القوى المدنية ولم تعبأ بأصوات تعالت بشأن حرصها على تغليب الجوانب الأمنية في التعامل مع الخرطوم واقترابها كثيرا من المكون العسكري، مستندة إلى أنها لم ترتكب جريمة أو تتدخل في الشؤون الداخلية للسودان، وتهاونت في الرد على نداءات حذرتها من مغبة عدم فتح خطوط ساخنة مع القوى المدنية بالتساوي مع الجيش.

ظهرت المطبات في عدم قدرة مصر على تقديم مبادرة لحل الأزمة السودانية، وفي كل المرات التي سعت فيها لمد قنوات التواصل مع الأحزاب والقوى المدنية لم تكن النتيجة جيدة بما يسمح بعرض مبادرة منفصلة للتسوية السياسية، واكتفت بالمشاركة في مقاربات إقليمية ودولية.

لا توجد مشكلة حقيقية على المستوى الرسمي بين القاهرة والخرطوم حتى الآن، وعلى العكس هناك قواسم مشتركة تدفع باتجاه المزيد من التعاون والتنسيق في القضايا التي تهم الأمن القومي للبلدين

من المنتظر أن تتعامل القاهرة مع نتائج زيارة وفد المجتمع المدني إلى الخرطوم بواقعية، وتفتح المجال لمعاجلة أوجه الخلل وسد الثغرات التي كبدتها خسائر سياسية، وتعيد فتح الأبواب على مصراعيها أمام حرية الحركة أمام الزيارات المتبادلة، لأنها المسار المهم الذي يستطيع تهميش أصوات قوى روّجت لفكرة أن القاهرة منحازة إلى الجيش السوداني وتعمل على مساعدته للاستمرار والقبض على مفاتيح السلطة.

ظهرت فكرة الانحياز من خلال الاتصالات التي قامت بها القيادة المصرية مع مجلس السيادة الذي يهيمن عليه الجيش السوداني كجهة تتحكم في عملية الحل والعقد، يضاف إليها ثقة القاهرة في المؤسسات العسكرية النظامية للحفاظ على وحدة الدول العربية.

في بلد مثل السودان يعيش فوق براكين من التحديات يصعب التفريط في التعاون مع جيشه الذي يواجه أزمات بالجملة والتعويل على قوى مدنية ترى أن الديمقراطية مقدسة ولو أدت إلى انهيار الدول، ومقدمة على غيرها من الأهداف السياسية ولو سقطت البلاد في بحور من الدماء.

بالتالي لن تكفي الزيارة الكرنفالية التي قام بها وفد المجتمع المدني المصري لحصد نتائج ملموسة وتخطّي عراقيل وضعتها قوى محسوبة على الحركة الإسلامية في السودان لتخريب العلاقة مع القاهرة، وأوحت إلى القوى الثورية الغاضبة من المكون العسكري أن ثمة رغبة مصرية في الهيمنة على بلدهم وتفويت الفرصة على تقديم نموذج ديمقراطي واعد في المنطقة.

لجأ هذا الخطاب إلى ترديد مجموعة من المفردات البغيضة مستمدة من الواقع المصري الذي شهد طفرة للوراء في مجال الحريات العامة يسعى للخروج منها الآن، ما يجعل أن هناك حاجة ملحة لاستمرار زيارات الوفود ونقل صورة تثبت عدم صواب الحسابات التي بنت قوى مدنية سودانية على أساسها موقفها السلبي من مصر.

يمكن أن تصحّح هذه الخطوة ما ارتكب من أخطاء في السنوات الماضية عندما تهيأت فرصة لتطوير العلاقات بين القاهرة والخرطوم لم تستثمر بطريقة جيدة، بما منح جبهة رفض سرية في السودان فرصة لتسويق رؤية تعتقد أن الامتداد الطبيعي لبلدهم جنوبا وليس شمالا لقطع الطريق على تطوير العلاقات مع مصر في المستقبل.

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى