أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: خط فاصل بين الدين والدولة في مصر

الدين والدولة: محمد أبو الفضل2022/10/17

الدستور المصري احتوى الكثير من المواد التي تؤكد مدنية الدولة، لكن بعض القوانين والإجراءات والممارسات تمحو أحيانا الحدود الفاصلة بين الدين والدولة، بما ينطوي على تداخل كبير بينهما. وبدت الصيغة الرمادية مربكة في أوقات كثيرة، حيث يستغلها مؤيدو الفريق الديني لتعزيز نفوذهم والهجوم على مناوئيهم، وهو ما يوظفه الفريق المقابل العلماني في بث هواجسه من نمو النفوذ الديني.

لنترك الدستور والتفسيرات والتأويلات المتباينة لبعض القوانين المرتبطة بعلمانية الدولة ومدنيّتها جانبا ونركز على الصورة الحالية في المشهد المصري العام، والتي تعزز فكرة الصراع بين أنصار كل فريق، ويظل الموقف الرسمي في هذا الخضم هو العنصر المركزي أو الحاكم فيها، حيث منح مؤسسة الأزهر مساحة نفوذ معنوية في وقت سابق قادت إلى صعوبة في فرملة التيار السلفي داخله.

بدت الدولة مجاملة للأزهر في بعض المواقف، ما فرض عليها غض الطرف عن محاسبة شريحة من السلفيين خارجه أو معارضتهم، وظهرت مضطرة لتحاشي الصدام مع تيار لا يتماس مع رؤيتها المدنية، يتحرك أنصاره أحيانا كأنهم دولة فوق الدولة.

دقت الحشود التي شيعت أحد كبار السلفيين، وهو أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر الدكتور أسامة عبدالعظيم منذ حوالي أسبوعين، ناقوس الخطر عندما خرج هؤلاء لتشييع جثمانه بالآلاف في وسط القاهرة، في مشهد أوحى باستعراض القوة والحضور في الشارع، وكشف محتواه أن هذا التيار قد يمثل عقبة لا تقل خطورة عن عقبة جماعة الإخوان وما تحمله أجندتها من أهداف سياسية حتى الآن.

يلاحظ المتابعون للعلاقة بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب أن هناك فتورا يخيم عليها في الوقت الراهن، ظهرت تجلياته في بعض المناسبات مؤخرا، وبدا فيها السيسي متجاهلا لوجود الطيب.

سواء كانت الملاحظة حقيقية أم مفتعلة وتعمدت منابر إخوانية النفخ فيها، يوجد العديد من المواقف والتصورات التي تشير إلى التباين بينهما، وأن العلاقة مستمرة بطبيعة الدفع الذاتي كي تحافظ على الحد الأدنى من التماسك الذي يمنع تدهورها إلى ما هو أكثر سوءا فتتفجر قضايا جانبية حرصت الرئاسة المصرية على عدم الانزلاق إليها.

منح الدستور المصري شيخ الأزهر مكانة يفسرها البعض بأنها أشبه بالقداسة الدينية، وجرى تحصينه ببنود قانونية أضفت عليه هالة مجتمعية أسهمت في أن يحصد نفوذا معنويا كبيرا، وإذا حدث خلاف كان دوما يبدو قابلا للاحتواء، لكن الآن تبدو المسألة عصية، وبات امتعاض رئيس الدولة من رؤى شيخ الأزهر لا يخفى على الكثيرين.

المشكلة أنه كلما اقتربت الدولة من تهميش دور الشيخ أحمد الطيب تعالت الأصوات الرافضة، ويتم تصوير الأمر على أنه غبن للمنصب وجور على صاحبه، وكلما جرت محاولات تقويض نفوذه المجتمعي تعامل البعض من رموز الأزهر بطريقة تعزف على الوتر العاطفي لدى المصريين بما يشبه التحريض على مؤسسات الدولة.

نسج الأزهر لنفسه مكانة رفيعة داخل مصر وخارجها تعصمه من الاستهداف في بعض المواقف، ما أفضى إلى تضخم دوره بما يتخطى المساحة التقليدية المتعلقة بالفتوى، والتي فشلت معها الحيل الموازية من قبل وزارة الأوقاف ودار الإفتاء، وظل الأزهر متماسكا ونجح في تجاوز الكثير من العواصف التي واجهها مؤخرا.

وفّرت المكانة الرمزية حماية كبيرة له ولكل من يقتربون من تبني منهجه الديني – الوسطي، والذي تمدد وحوى تحته الكثير من العناصر المتشددة التي يتردد دوما أنها خرجت من عباءته ولا يريد اتخاذ الخطوات اللازمة لتقليص أجنحتها بعد توفيره ما يوصف بالغطاء الشرعي لتمددها.

يكمن الخط الفاصل بين الدين والدولة في صعوبة تحديد معالم واضحة وحدود يلتزم بها كل طرف في معادلتي الفتوى والحكم، وطالما بقيت العلاقة متذبذبة وخاضعة للتطورات لن تتمكن الدولة من رسم خارطة معالم تلتزم بها جميع الأطراف.

وتساعد المنطقة المبهمة التيار السلفي على تحقيق المزيد من التغول وسط القواعد المجتمعية التي أصبحت مستعدة لتقبل أفكاره كمنقذ لها مما تعتبره هذه القواعد “ضلالا” كوسيلة تتكئ عليها هروبا من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة.

تحولت كثافة الأزمات إلى مطية يستند عليها السلفيون للتغلغل في المجتمع، وأداة تعصم أجهزة الدولة من تبني الأطر اللادينية بطريقة أشد وضوحا، والدخول في غمار مواجهة تحسم الخلاف نهائيا، وفهم التردد على أن الدولة لا تستطيع وضع سقف لتدخلات المؤسسة الدينية الرسمية ممثلة في الأزهر، أو الحد من تسلل السلفيين في جنح الظلام أو في وضح النهار.

تزداد الأزمة صعوبة مع ما يوصف بمنهج “الصبر الإستراتيجي” الذي تتبعه الدولة في التعامل مع التيارات الدينية التي تعتقد أنها غير مسيّسة ولا تمثل تهديدا للمجتمع المدني، على اعتبار أنها لا تلحق أذى بثوابتها في الوقت الحالي، بينما في المستقبل سوف يحدث ذلك تلقائيا، ما يفرض إدخال تعديلات تستوجب التدخل بصرامة قبل أن تتهدم الأركان المدنية في مصر بعد أن صاحبتها لعقود طويلة.

خبر المصريون الكثير من الدروس التي تمخض عنها صعود المد الديني في فترات سابقة، وكان في جزء كبير منه تهاونا، وفي جزء آخر قادت إليه حسابات سياسية معينة. وفي الحالتين تبينت الخطورة الشديدة التي حملها انتشاره وتغوله، وكاد الأمر يجرف معه المكونات الرئيسية للمجتمع المدني.

وأتت فرصة للدولة للتخلص من مظاهر التدين الزائف أو الرافض للآخر عقب سقوط نظام الإخوان في القاهرة، إلا أن الآليات التي اعتمدت في المعالجة اصطحبت معها ثغرات عديدة، وفّرت أجواء مواتية للأزهر والتيار السلفي عموما لاستعادة البريق في المجتمع، وكانت من نتائجه المأزق الذي تواجهه الدولة في رسم الحدود الفاصلة بين الدين والدولة، وكلما تأخرت سبل المعالجة ازداد صعوبة.

يبدو التأخير تقاعسا أو تراخيا، وفي أحيان أخرى يتم تفسيره على أنه موافقة ضمنية من جانب أجهزة الدولة على استمرار الالتباس في العلاقة مع المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، حيث تسمح لكل طرف بتوظيفها سياسيا، بما يظهره منسجما أو متنافرا مع الآخر، وكأن الحد الفاصل غير مطلوب رسمه عمدا.

يؤدي ترسيخ هذا المفهوم الذي توجد أدلة عدة تدعمه، أبرزها المراوحة المستمرة في العلاقة من ناحية الصعود والهبوط، إلى توفير مناخ داعم للتطرف في مجتمع تظهر فيه نسبة كبيرة من المتدينين بالفطرة، من المسلمين والمسيحيين، ويقف الاهتمام بالتوسع في بناء المساجد والكنائس تحت إشراف الدولة شاهدا على ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى