أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: تحديات إقليمية حرجة أمام القاهرة

محمد أبو الفضل 2-5-2023: تحديات إقليمية حرجة أمام القاهرة

لم تنته مصر من الحصول على تهدئة عسكرية وفتح الباب لتسوية سياسية في ليبيا، حتى باغتها اندلاع صراع مرير في السودان عقب اشتباك قوات الجيش مع الدعم السريع، في واحدة قد تكون من أكثر المعارك دموية يخوضها هذا البلد، والذي يمثل عمقا إستراتيجيا مهما لمصر من نواح مختلفة.

ما يربط بين البلدين الجارين أكثر مما هو ظاهر بشأن أي دولتي جوار، حيث تفصل بينهما حدود برية تمتد لنحو 1200 كيلومتر، كانت في وقت سابق ممرا لعبور تنظيمات متطرفين وإرهابيين، حتى تمكنت أجهزة الأمن المصرية من ضبط الحدود الجنوبية عقب سقوط نظام الرئيس عمر البشير، والذي وفر ملاذات آمنة للكثير من العناصر المتشددة الفارة من مصر وغيرها من الدول العربية.

مع اندلاع القتال وصعوبة توقع المدى الذي يمكن أن يصل إليه بات على القاهرة التحلّي باليقظة لمنع تسلل متطرفين جدد عقب حصول بعضهم على الجنسية السودانية، وكأن الدولة التي تمكنت من دحر الإرهاب في سيناء وأمضت سنوات للتخلص منه وقطعت الطريق عليه عبر حدودها مع ليبيا على موعد آخر معه من ناحية السودان.

تضع أحداث السودان الدولة المصرية أمام منعطف خطير، يتطلب منها التعامل معه بأدوات مختلفة، لأن الحلول الأمنية وحدها لن توفر الحماية الكافية للأمن القومي، إذ ينفتح طرفا الحرب الراهنة على جهات إقليمية ودولية عديدة، وهناك ما يشبه صراع قوى قد ينشب في السودان، في ضوء طموحات روسيا للحصول على قاعدة عسكرية في ميناء بورتسودان المطل على البحر الأحمر ويمثل ممرا حيويا لقناة السويس.

كما أن الصين بنفوذها الاقتصادي في السودان تتطلع إلى إعادة التموضع عسكريا وسياسيا عبر بوابته التي تصل شمال القارة الأفريقية بجنوبها، وشرقها بغربها.

انتبهت الولايات المتحدة مؤخرا إلى ما يجري في السودان وزادت مخاوفها من تمدد هاتين القوتين في ظل تراخ سابق في التعاطي مع الأزمة السياسية التي نشبت مخالبها في هذا البلد منذ أربع سنوات، واتخذت تحركاتها مع اندلاع المعارك أبعادا أكثر ديناميكية مما كانت عليه كي لا تجد نفسها تواجه تحديا إستراتيجيا عميقا.

لا تغيب هذه المعطيات عن حسابات الإدارة المصرية، وتسعى من خلال حرصها على عدم انفراط عقد المؤسسة العسكرية في السودان إلى تقليل التأثيرات التي يمكن أن تلعبها الأجسام المسلحة المنتشرة في ربوعه، وتسمح للكثير من القوى بوضع أقدامها هناك إذا جرى إنهاك قوات الجيش في حرب استنزاف طويلة مع الدعم السريع.

تخشى القاهرة أن يتحول السودان إلى دولة فاشلة على حدودها الجنوبية، وهو تحد لا يقل ضراوة عما واجهته في ليبيا السنوات الماضية عندما انتشرت ميليشيات وجماعات مسلحة ومرتزقة على أراضيها بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي، وقبلها في قطاع غزة، الذي تسيطر عليه حركة حماس الفلسطينية، وكاد يتحول إلى منغص أمني قبل أن تصل مصر إلى تفاهمات مع الحركة ذات الجذور الإخوانية.

قد يكون الوضع أشد خطورة في السودان مع وجود العديد من الحركات التي تحمل السلاح وعدم اقتصار تمركزها على الأطراف، حيث تدور رحى الحرب الراهنة في العاصمة الخرطوم، والتي يؤدي اشتعال المعارك فيها فترة طويلة إلى تغذية أنواع مختلفة من الصراعات الأهلية.

يأتي المأزق الذي يواجه مصر من عدم قدرتها على التدخل المباشر في الصراع وصعوبة الصمت عليه، ولذلك وجهت نداءات عدة إلى منع التدخلات الخارجية التي يمكن أن تغير مجريات الحرب، بما يفرض عليها اللجوء إلى خيارات خشنة لا تحبذها في التعامل مع الأزمات الإقليمية التي تمثل تهديدا لأمنها القومي.

تشير تصورات دولية وتحركات إقليمية إلى إبعاد مصر عن المشاركة، ولو في نطاق الحلول السلمية، اعتمادا على هواجس رددتها قوى محلية في فترات سابقة حيال أي دور تلعبه أو يمكن أن تلعبه في السودان، واعتمادا على خطابها الداعم دوما للجيوش النظامية باعتبارها قادرة على ضبط الأمن والحفاظ على وحدة الدول.

وتخشى أن تجد شبح ليبيا يتكرر في السودان إذا تكررت عملية انهيار جيشه، وبقية القصة معروفة في هذه الحالة، حيث تبدأ التدخلات الخارجية ثم تعم الفوضى العارمة البلد، وترشح الصعوبات في استعادة لحمته الوطنية التي تعرضت لتآكل كبير العقود الماضية بفعل ما شهده من حروب أهلية أدت إلى سلخ جنوب السودان عن شماله، وأوشكت دارفور أن تواجه المخطط نفسه.

يبدو الانزعاج ظاهرا لدى القاهرة من المحاولات الرامية إلى حصر نطاق الحلول المطروحة في الشق الأفريقي (الأفرقة)، سواء من خلال آلية الاتحاد الأفريقي التي لا تحبذ مشاركة مصر فيها، على الرغم من أنها في مقدمة الدول التي أسهمت في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية التي باتت تعرف بالاتحاد الأفريقي لاحقا، أو عبر آلية الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا (إيغاد) البعيدة عن مصر.

تحظى الآليتان بدعم دولي كبير، حيث يراد للسودان أن يكون بلدا أفريقيا فقط، ما ينعكس سلبا على أي تحركات يمكن أن تقوم بها مصر، كما أن جامعة الدول العربية تم تهميشها ووضعت عراقيل أمام انخراطها في أزمات السودان المتعاقبة، ما يعني أن القاهرة عليها أن تنتظر طويلا لتأتي الحلول من خارجها، وتتعامل مع ما سيتمخض عنها كأمر واقع، بما يمثل تحديا يقلل من حريتها في الحركة على الصعيد الإقليمي.

تأتي خسارة القاهرة الكبيرة إذا استمر الصراع طويلا في الخرطوم ودخلت قواه الرئيسية في أزمة سياسية تعطل تنصيب حكومة مركزية قوية، وقتها سيخرج السودان من توازنات مصر بشأن سد النهضة، والذي يعد التعاون والتنسيق مع حكومته ذا أهمية في مواجهة الصلف الإثيوبي، حيث رفضت أديس أبابا مرارا التوقيع على اتفاق مُلزم حول عملية ملء وتشغيل السد، بما لا يضر بمصالح مصر والسودان.

ألمحت الخارجية الإثيوبية قبل أيام إلى أن ملف سد النهضة أصبح مجمدا إلى حين حل الأزمة في السودان، ما يشير إلى عدم الاستعداد للحديث عن مفاوضات متوقفة أصلا منذ حوالي عامين، ويؤكد أن القاهرة مضطرة إلى المزيد من الانتظار في وقت تستعد فيه أديس أبابا للشروع في عملية الملء الرابع لسد النهضة، والتي من المتوقع أن تنجم عنها أضرار بالغة، بخلاف المرات الثلاث السابقة.

يفرض ما يجري في السودان أن تبحث القاهرة عن طرق جديدة للدفاع عن مصالحها في توقيت بالغ الحساسية، حيث تتكاتف عليها التحديات الإقليمية بصورة جماعية، ما يضعها في مواقف حرجة ومركبة، زادت مع ميلها المبالغ فيه أحيانا نحو النأي بنفسها عن الاشتباك مع محيطها وانشغالها بترتيب أوضاعها الداخلية، مع أن تاريخها يقول إنها تجابه تحديات كبيرة كلما اتسع انكفاؤها للداخل، ما يستلزم استدارة قوية قبل أن تستحوذ جهات إقليمية على مفاصل الحل والعقد في المنطقة بما يضر بمصالح مصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى