أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: الوساطة لمصر أم للفلسطينيين

محمد أبو الفضل 16-8-2022م

في كل مرة تنخرط مصر في عملية مصالحة لتقريب المسافات بين الفصائل الفلسطينية أو تتدخل لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والمقاومة، يطرح سؤال لماذا تقوم بالوساطة، للحفاظ على مصالحها القومية أم مصالح الفلسطينيين وقضيتهم المحورية؟

من يثيرون هذا النوع من الأسئلة أو يقفون خلفها لا تتوافر لهم البراءة السياسية الكافية، لأنهم افترضوا أن هناك تناقضا بين الجانبين، وأنه لا يجب أن تلتقي مصلحة الطرفين على قاعدة مشتركة، وأحيانا يغمز البعض إلى أن الوساطة التي تقوم بها القاهرة تصب في صالح طرف آخر، وهو إسرائيل.

طرحت الأسئلة والغمزات مع اندلاع الجولة الأخيرة من التصعيد في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي، والذي بدأته الأولى عندما شعرت أن هناك خطرا محتملا تمثله الآلة العسكرية بحوزة حركة الجهاد التي أطلقت عليها مئات الصواريخ لاحقا، بينما لم تستشعر بذلك تجاه ترسانة صواريخ تمتلكها حركة حماس.

كتبت الأسبوع الماضي عن رغبة إسرائيل عزل حماس في غزة وبين الارتباط بينها وبين الجهاد، ولست بحاجة للتكرار، لكن حديث الوساطة المصرية يستحق الوقوف عنده حيث يطفو على السطح مع كل جولة لها علاقة بالحرب والسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويتداخل فيه التقدير الخيالي مع الموضوعي، والديني مع السياسي.

يخطئ من يعتقد أن مصر تريد أن يصبح الفلسطينيون في حالة ضعف، ويخطئ أكثر من يرى أن وأد مقاومة حماس أو الجهاد أو حتى فتح يمثل مكسبا للقاهرة، وهو ما يفسّر تجاوب جميع الفصائل، بصرف النظر عن انتماءاتها، مع أي تدخل سياسي مصري لوقف النار أو المشاركة في مفاوضات للمصالحة، وهناك حرص يصل إلى حد الترحيب بالقاهرة حتى في حالة وجود وساطات إقليمية أخرى.

تجتهد القاهرة لجمع الشمل لأنه السلاح العملي والوحيد الذي يمكن أن يسهم في استرداد الحقوق الفلسطينية وينهي مآسي الانقسام وما خلفته الخلافات من نتائج سياسية وإنسانية واقتصادية قاتمة، وصلت إلى درجة توجيه ضربة استراتيجية للقضية الفلسطينية، فمع كل تشرذم جديد يولد كابوس كبير لإنهاء هذه القضية.

وتجتهد القاهرة أكثر لوقف إطلاق النار مع كل جولة تبدأها إسرائيل أو حماس أو الجهاد، لأن الخسائر الناجمة عن التصعيد يتضرّر منها الشعب الفلسطيني، ومهما كانت قوة النيران التي تحملها صواريخ المقاومة في غزة لا تمثل شيئا مقارنة بما تسببه آلة الحرب الإسرائيلية من دمار وتخريب ودماء في قطاع غزة وتقتيل واعتقال في صفوف الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية.

لا تريد القاهرة حرجا كبيرا مع إسرائيل يمكن أن تتسع حلقاته بما يضعها في موقف بالغ الحساسية ويجعلها مضطرة للمفاضلة بين وساطتها السياسية وبين خياراتها العربية، لأن القضية الفلسطينية ليست مثل كل القضايا يمكن تجاهلها، فلم تخض مصر حروبا كما خاضت بسببها، حيث تمس أمنها القومي مباشرة.

تتجاوز انعكاسات الحرب أبعادها العسكرية، فهناك مسؤولية أخلاقية تقع على مصر إذا زادت الأضرار الواقعة على الشعب الفلسطيني عن حد معين، فعلى بُعد بضعة كيلومترات من سيناء يقطن إخوة فلسطينيون، ولا يعني تأمين الحدود بين رفح، والتي يقع جزء منها في الأراضي المصرية وآخر في غزة، أن القاهرة بمعزل عما يجري من معاناة في رفح الفلسطينية.

ولعل الوساطة التي قامت بها مصر في حرب مايو من العام الماضي تؤكد الأهمية التي ينطوي عليها توفير الهدوء والأمن لكل القوى، والهبة التي أعلنتها القاهرة بشأن إعادة الإعمار وتقديم مساعدات لاستعادة القطاع لجزء من عافيته، كشفت حجم الانخراط في مسألة الاستقرار الذي يجب أن يسود في غزة.

قد تكون القيادة المصرية حصلت على إشادة من الإدارة الأميركية، في تصعيد مايو العام الماضي وجولة أغسطس الحالي، لكنها لم تعمل لأجل مكافأة سياسية من واشنطن أو مساعدة مادية من إسرائيل، لأن مسؤوليتها تفرض عليها القيام بهذا الدور، ويؤدي تقاعسها إلى قيام آخرين به، أو انفلات يقود لعدم القدرة على تطويق نطاق الحرب.

يحتل منطق التصعيد المحدود من جانب إسرائيل أو المقاومة الفلسطينية أهمية كبيرة في حساب كلاهما، وعقب كل جولة يخرج كل طرف ويعدد مكاسبه بلا إحصاء دقيق لخسائره المادية والمعنوية، فالحسابات تأتي دوما من الأهداف الخفية التي يسعى كل جانب لتحقيقها أو من تفشيل الطرف المقابل الوصول إلى أغراضه.

تسبّب هذا المنطق في أن تقول كل من إسرائيل وحركة الجهاد إنها كسبت الجولة الأخيرة من التصعيد بامتياز، فالنصر هنا لا يحصى بما يتكبده الآخر من خسائر، وهي نتيجة تخفف من وطأة الدور الذي تقوم به القاهرة ويساعدها في التوصل إلى صيغة تنهي جولة من التصعيد انتظار الجولة مقبلة.

تصب الوساطة في صالح مصر والفلسطينيين وإسرائيل أيضا. فاستمرار التوتر يضع على القاهرة عبئا سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وفي أي لحظة يمكن أن تكون مطالبة باتخاذ موقف صارم مع أنها لا تزال تحرص على توفير ركائز السلام في المنطقة.

ناهيك عن السعي نحو تثبيت دعائم الدولة المصرية التي لم تتعاف تماما مما تركته التطورات التي مرت بها خلال السنوات الماضية من تأثيرات سلبية، ولا تريد أن تتحمل تكلفة فائقة لحرب لا ترغب فيها أو تصعيد تدخل على خطوطه قوى إقليمية متربصة، يمكن أن تتسع معه الشرارات.

ومع الرغبة الجامحة لبعض الفصائل الفلسطينية في الحرب، غير أن الجولة الأخيرة أثبتت أن حركة الجهاد غير مستعدة للتضحية بقوتها لتحقيق انتصارات زائفة، وأن حركة حماس لا تريد فقدان ما راكمته من قوة في جولة تعلم أن أبرز نتائجها سوف تفضي إلى إنهاء أذرعها وأنيابها وأسلحتها في الأراضي الفلسطينية.

مهما كان التفاوت في التقديرات بين القاهرة والمقاومة، فالأذرع والأنياب والأسلحة هي خط دفاع أول عن المصالح المصرية طالما لا توجه إلى سيناء أو تستخدم في الإضرار بالأمن القومي للبلاد، وتدار وفقا لقواعد منضبطة بعيدة عن التوجهات العقائدية التي يريد أصحابها استبدال الخطر القريب بالبعيد.

أقامت مصر جزءا من استراتيجيتها على السلام مع إسرائيل، وهي أول دولة عربية بدأت هذا الطريق وتتمسك به حتى الآن، من دون أن تهمل الخيار الآخر، وتفعل وساطتها عند التصعيد للحفاظ على الخيار الأول الذي تحرص عليه إسرائيل أيضا، لأن انفراط عقده مع مصر يتسبب في تخريب الكثير من الاتفاقيات الإبراهيمية التي جرى الإعلان عنها في الفترة الماضية وتعود المنطقة إلى نقطة البداية التي تحرص القاهرة على تجنب الوصول إليها من خلال تفعيل وساطتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى