أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: القلق العام في مصر

محمد أبو الفضل 23-9-2022م

اقتبست عنوان هذا المقال من عبارة وردت في ثنايا حوار مهم أجراه الأمين العام لجامعة الدول العربية الأسبق عمرو موسى مع إحدى المحطات المحلية مؤخرا، حاول فيه القبض على العصا من منتصفها، جعلت من الصعوبة التعامل مع مضمونه كوصفة قريبة من خطاب المعارضة، فقد حوله إلى اجتهاد دبلوماسي حريص على النظام.

إذا كان موسى صال وجال في مساحة كشفت عن قربه من النظام المصري، فحديثه عن القلق العام وما أشار إليه بالاكتئاب لدى شريحة من المواطنين مر مرور الكرام، مع أنه من أبرز ما قاله في الحوار، عابه عدم استفاضته بالصراحة اللازمة في شرح أسباب هذه الحالة وكيفية علاجها كي تتجاوز الدولة مرحلة صعبة في تاريخها.

لا يفارق القلق الدول، ولا يقتصر على الفقيرة والمأزومة اقتصاديا فقط، فالولايات المتحدة، وهي دولة عظمى يحذر البعض من انزلاقها إلى حرب أهلية، ما يعني أن هناك عيوبا سياسية وربما أمنية تعكس في معظمها مخاوف مما يجري حاليا وهواجس كبيرة نحو المستقبل، يستلزمان حذرا في التعامل ويقظة لتخفيف الضغوط الخطيرة.

يشعر مسؤولون ومواطنون في مصر بالقلق ويعيشون تفاصيله يوميا من خلال المعاناة التي خلفتها الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تحاول الحكومة تقويض تداعياتها السلبية، ولم يتعلق القلق هنا بالأوضاع السياسية والأمنية، فالهم الأكبر يكاد ينحصر في البحث عن طرق لتخطي الحالة الراهنة وتعقيداتها، وما زادها غموضا أن البعض من الإعلاميين أشاروا مؤخرا إلى أن العام المقبل سوف يكون أكثر سوءا.

لم يشأ هؤلاء تخويف الناس أو حثهم على الاستنفار ضد الحكومة، بل محاولة تهيئتهم لما هو قادم من قلق أصعب، وعليهم التعايش مع ما يمكن أن يصيبهم من إحباط إذا أخفقوا في التكيف مع أزماتهم، وفشلت الحكومة في توفير حلول مريحة لهم.

يعتقد وزير خارجية مصر الأسبق عمرو موسى أنه قذف بحجر في المياه السياسية ليحفز المشاركين في الحوار الوطني على إنجاز مهمتهم سريعا، غير أنه من حيث لا يدري وضع إحدى يديه على صفة ظلت غائبة عقودا طويلة على مصريين مروا بأزمات أشد وطأة ولم يكن تذمرهم منها كما هو الحال اليوم، فماذا جرى لهم؟

تحدث مفكرون وعلماء اجتماع عن المزاج العام وأسهبوا في التشخيص وفقا لمراحل زمنية متباينة، ويتفق الجميع على أن مصر المعاصرة لم تكن دولة رفاهية في أي من الأزمنة السياسية على مدار العشرات من السنين، وكان الفقر في أكثر أوقات الرخاء حاضرا، ويضرب بالمصريين المثل في القدرة على التحمل، فهل نفد رصيدهم من الصبر وظهرت ملامح قلق تصل إلى مستوى الاكتئاب الذي أشار إليه عمرو موسى؟

مع أن قائمة الأسئلة طويلة في هذا المضمار، إلا أن الإجابات المختصة بالتفسير العام تؤكد أن التغير يتعلق باتساع نطاق الهوة بين القمة والقاعدة، أو الحاكم والمحكومين، وكل وسائل الحماية والعلاج التي تقوم بها الدولة لا تصل إلى المواطنين بدرجة كافية وعلى صورتها الصحيحة، بما يوحي بوجود فجوة عميقة وبحاجة إلى معالجة مبتكرة تقضي على القلق قبل أن ينقلب إلى انفجار عام.

يتجاوز قلق المصريين البعد الاقتصادي ومكوناته، فأوضاع الكثير من الأسر الآن أفضل مما كانت عليه سابقا، إذا قورنت بمستوى الدخل، لكن اتساع المتطلبات الحياتية هي التي أوجدت التوتر، ولم ولن تتمكن الحكومة من سد العجز فيها، وتتحمل وحدها تكلفة الزيادة السكانية، لأن تراجع الثقة في الحاضر والخوف من المجهول في المستقبل من العناصر الكفيلة بتفسير الغموض الظاهر في الصورة العامة.

حث الرئيس عبدالفتاح السيسي أخيرا على ضرورة “طرح القضايا على الشعوب بشكل عميق وموضوعي ومدعوم بالحقائق”، ووصل إلى النقطة التي تعاني بسببها فئة كبيرة من المصريين، وهي غياب الشفافية، ولو أن الإعلام المصري قام بتنفيذ الفحوى الذي تتضمنه كلمات السيسي لتراجع مستوى القلق وتوقف عند النسبة المقبولة، حيث يبحث الناس عن الحقيقة والمعلومات ولم تعد الأدوات التقليدية المستخدمة تثير فضولهم وتجذبهم وتقنعهم بأن قلقهم ليس في محله أو غير مشروع.

ينطوي القلق العام على جوانب إيجابية ومفيدة، إذا لم يصل إلى إحباط يتمكن من وجدان وعقول الناس، ويمكن أن تستثمره الحكومة بصورة جيدة وتبني عليه قواعد مشتركة من المسؤولية ولا تحمله وحدها، مع أنه جاء نتيجة أخطاء كانت هي سببا رئيسيا فيها، فالمصريون تمثل الصراحة معهم أقصر الطرق للإقناع، وهي مهمة لم تعد سهلة بعد أن قُدمت لهم وعود براقة تشي بتحسين أحوالهم المعيشية بعد سنوات قليلة ثم استيقظوا على واقع قاتم ربما يأخذهم إلى نفق مظلم.

يتمكن الاكتئاب من الشعوب عندما تفقد الأمل في الحل، ولا تشعر أن حكومتها معنية بها فعلا، ومهما تغيرت الأساليب لن تسترد الثقة ما لم تكن مصحوبة بخطوات محددة في الصراحة والوضوح واليقين وتبلغ حسن النوايا مستوى يكفي لطمأنة شريحة عريضة ممن تمكن منهم القلق وتحول لمرض مزمن يحتاج فترة طويلة من العلاج.

يمثل الاكتئاب العام حالة اقتصادية في المقام الأول، فالمشكلة أبعد من ندرة الموارد وقلة الدخل وعدم القدرة على سد الاحتياجات الأساسية، وفي الأمثلة الشعبية المتوارثة الكثير من المعاني التي تفسر حال المصريين وتكشف طريقتهم في الحياة، حيث لا يزال تتردد أمثلة من نوعية “لا أحد يموت من الجوع” أو “لا أحد ينام بدون عشاء”، وتبدو كاشفة عن البساطة والطيبة والتسامح والتكيف.

عندما يزداد القلق ويتحول إلى ظاهرة مرضية على الحكومة أن تبحث عن طرق ناجعة للحد منه، لأن تفشيه سوف يكون مدمرا للحياة، والتي قد تتحول إلى معاناة للغني والفقير، فمستوى الفقر له حدود دنيا لا يجب تجاوزها للحفاظ على مستوى جيد من العلاقة الخفية التي تربط الطرفين، فارتفاع مستوى التفاوت والخلل يكفي ليحول القلق إلى إحباط ثم إلى انفجار يقوم به جياع.

هذه الزاوية أشد خطورة في الإشارة التي حواها حديث عمرو موسى ومنعته دبلوماسيته من الوقوف عندها والتحذير منها لأن زيادة رقعة الفقر محرك رئيسي للقلق هذه المرة، الأمر الذي تعلمه الحكومة وحاولت توظيفه عبر التلميح بأن الخطر لن يكون قاصرا على مصر وقد يلحق من حولها، كنوع من طلب المساعدة الاقتصادية المقننة من الدول الحليفة والصديقة الغنية، بعد أن تأكدت القاهرة أن سياسات هذه الدول طرأت عليها تغيرات في المنح والمنع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى