أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: اطمئنان مصري حذر في شرق المتوسط

محمد أبو الفضل ٢٨-٩-٢٠٢٢م

تخيم على منطقة شرق البحر المتوسط بتشابكاتها الأوروبية والآسيوية والأفريقية سُحب قاتمة، فهناك الغاز الذي فرض واقعا جديدا من التحالفات، وروسيا وتركيا والاتحاد الأوروبي وكل طرف منهم يحاول أن يكون له نصيب كبير من الكعكة.

علاوة على أن هناك دولا خليجية تعمل على ترتيب علاقاتها مع قبرص واليونان، وإسرائيل اختطت مشروعا خاصا بها تراهن عليه، فضلا عن حزب الله اللبناني الذي قد يكتفي بما سيحصل عليه من حصة بعد ترسيم الحدود البحرية.

وسط تصورات عديدة معقدة بدت مصر مطمئنة إلى حد كبير وواثقة في سياساتها. لم تنجرّ إلى احتكاكات مباشرة مع أطراف إقليمية ودولية كأن نجاحها في رسم خارطتها الغازية مبكرا هو مبعث اطمئنانها، حيث تحتفظ مع جميع القوى المنخرطة في الصراعات العلنية والخفية بعلاقات هادئة، وفي أحلك التوترات مع تركيا بسبب ليبيا أو شرق المتوسط تجنبت الدخول معها في صدام يقود إلى توريطها في نزاع ممتد.

قامت القاهرة بهندسة دورها قبل اكتشاف الأهمية الإستراتيجية الفائقة لغاز شرق المتوسط وأنشأت منتداه ورسمت الحدود البحرية مع عدد من الدول المهمة على أساس احترام القانون الدولي، بما أبعدها عن مناوشات كثيرة حاول البعض جرّها إليها، لكن وضوح رؤيتها في مسألة الغاز ساعدها على عدم الانزلاق إلى ألاعيب بعض الدول.

انفتحت على كل الدول المعنية بالغاز ونسجت علاقات قوية مع غالبيتها عبر منحها عضوية كاملة في منتدى شرق المتوسط أو عضوية شرفية، حيث جمع المنتدى عددا من الدول على قاعدة المصالح المتبادلة التي قللت من التوترات الناجمة عن الغموض الظاهر في الحدود البحرية أو أطماع بعض الدول في قضم جزء كبير منها.

في كل الخلافات حول غاز شرق المتوسط بين تركيا واليونان وقبرص لم تظهر مصر كطرف مباشر بينها، وانصب دفاعها عن الدولتين في مواجهة أنقرة في حدود رفض تجاوزات وخرق قوانين البحار أو تغيير الجغرافيا بالقوة، ما وضعها في منأى عن الصراع الدائر بين إسرائيل ولبنان، أو بين روسيا والاتحاد الأوروبي.

أسهم تغليب المصالح وفقا للقوانين الدولية في نزع فتيل خلافات حادة بين القاهرة وجهات متنازعة على ثروات شرق المتوسط وأبعدها حتى الآن عن صراعاته المحتدمة، فغالبية الدول دخلت في مشكلات مختلفة، غير أن مصر الوحيدة التي لا تزال خطوطها مفتوحة على الجميع، واختفى اسمها من قائمة الأعداء الألدّاء في خضم التصعيد الذي يطفو من وقت إلى آخر في المنطقة.

وأدّى حرصها على أن تكون مركزا إقليميا للغاز في المنطقة إلى تغليب لغة الحوار في خطابها مع جميع الدول وإيجاد قواسم مشتركة معها في المنتدى وتحويله إلى منصة عالمية معنية بهذه السلعة وروافدها أو بالتعاون في مجالي النقل والتسييل ويتوقف نجاحهما على مدى ما يظهر على علاقتها من تفاهمات.

تعلم أن تورطها في منافسة حادة سوف يكبدها خسائر كبيرة في مشروع ترى أن مكاسبه واعدة إذا أحسنت إدارته، وخسائره مدمرة إذا تورطت في صراعاته، وهو ما فرض عليها أن تخط لنفسها طريقا يبدو محايدا.

في الوقت الذي توافقت فيه مع دول أوروبية على تزويدها بالغاز عقب الأزمة التي فجّرها التدخل الروسي في أوكرانيا، ابتعدت عن تحويلها إلى رأس حربة في مواجهة موسكو وخوض حرب نيابة عن الآخرين.

وفي الوقت الذي تتعاون فيه القاهرة مع تل أبيب في عملية نقل الغاز وتسييله في موانئها لا تنكر حق لبنان أو السلطة الفلسطينية في حقول الغاز التي تقع ضمن الحدود البحرية لهما، وتعلم أن انفلات الصراع وخروجه عن السيطرة سوف يؤدي إلى تخريب أحد رهاناتها الإقليمية على المستويين السياسي والاقتصادي.

كما أن دول الخليج المعنية بشرق المتوسط لم ترفض مصر التفاهم معها وأوجدت صيغا للتعاون مع السعودية والإمارات وقطر، والتي على الرغم من بعدها عن المنطقة غير أنها حريصة على أن يكون لها نصيب في تفاعلاتها باعتبارها واحدة من البؤر التي يمكن أن تتحول إلى ساحة مفتوحة للصراع في أيّ لحظة.

يبدو الاطمئنان للصيغة التي وضعتها القاهرة لنفسها محفوفا بمخاطر جمة لأن الحسابات التي أقامت بموجبها التعاون والتنسيق والتحالف يمكن أن تخرج عن خطها المستقيم، فالشكل الذي يأخذه الصراع في شرق المتوسط يتجاوز حدود الغاز، وباتت له علاقة بالنفوذ وقدرة القوى الكبرى على التحكم في مساراته التي يصعب توفيقها.

أقامت مصر توازناتها على المصالح المتبادلة واحترام القوانين الدولية، إلا أن الوضع يمكن أن ينحرف عن ذلك، فمن يستطيع الهيمنة على هذه المنطقة الحيوية سوف تكون له اليد الطولى للتحكم في مصير جزء مهم من العالم، الأمر الذي بدأت تتعاظم أهميته مع التصعيد الراهن بين روسيا ودول غربية على رأسها الولايات المتحدة.

قد تخرج سياسة الليونة التي تتبعها القاهرة عن الطريق المرسوم لها، ففي لحظة معينة ربما تجد نفسها مضطرة للاختيار بين متناقضات، ففي أزمات تركيا مع اليونان وقبرص يمكن أن يصبح المشهد دراميا لأن تحسن العلاقات بين القاهرة وأنقرة يقود في المستقبل القريب إلى ضرورة حل إشكاليات شرق المتوسط بينها.

أيّ نتيجة إيجابية يمكن أن تخرج بها مصر مع تركيا في هذا الملف ستكون لها تداعيات سلبية مع قبرص واليونان، وهما من أهم حلفاء القاهرة وأسهما بدور فاعل في نجاح خطتها لتدشين منتدى شرق المتوسط.

تحسبت الدولتان من حدوث تحسن بين القاهرة وأنقرة بصورة دفعتهما إلى توسيع مجال العلاقات مع إسرائيل ودول خليجية، ناهيك عن طموح تركيا في أن تصبح مركزا إقليميا لخطوط الغاز إلى أوروبا بكل ما تملكه من مزايا جغرافية تجعلها منفتحة على المراكز الرئيسية للغاز في العالم.

ويظل الاطمئنان المصري في شرق المتوسط محفوفا بالخطر، لأن سياسة الحياد الإيجابي تُقطف ثمارها في لحظات الهدوء المتواصل، وتنجح عندما يتحول هذا المحدد إلى هدف لجميع الدول، ولأن المنطقة تمر بمرحلة مليئة بالعواصف من الصعوبة الثقة في هذه المعادلة التي شيدت القاهرة جزءا مهما من تصوراتها عليها.

كما تقوم بعض المشروعات الكبرى أحيانا على تخريب أخرى منافسة، وغير مستبعد أن يتعرض المشروع المصري الذي صمد الفترة الماضية لهزات قوية قادمة يمكن أن تؤثر على توازناته، لأن روسيا مثلا لن تقبل بهزيمة ساحقة في ملف الغاز، وتركيا لن توافق على رؤى تضرب طموحاتها في مقتل، وعلى القاهرة أن تكون مستعدة للاختيار بين متناقضات ومواجهة نزاعات سعت إلى تجنبها كثيرا.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى