أقلام وأراء

محمد أبو الفضل: استقالة ناعمة لمسؤول مصري

محمد أبو الفضل 19-8-2022م

يمكن وصف الاستقالة التي قدمها محافظ البنك المركزي المصري طارق عامر الأربعاء بأنها ناعمة، حيث جاءت بالتوافق بين صاحبها والنظام الحاكم، حتى ولو كان طرفاها وصلا إلى طريق مسدود يصعب فيه التفاهم حول آليات إدارة السياسات النقدية للدولة، وتجنب كلاهما إظهار أيّ نوع من الخشونة المعنوية.

ذكرتني استقالة عامر بأخرى قيل إنها تمت بشكل رضائي أعلن عنها النادي الأهلي المصري في يونيو الماضي لفك الارتباط مع مديره فريق الكرة الجنوب أفريقي بيتسو موسيماني، حيث وصل الطرفان إلى قرار بالانفصال الودي المشترك، وهي طريقة حفظت لهما ماء الوجه ومنحتهما فرصة لإعادة ترتيب الأوضاع بما لا يسيء للسمعة ويتسبب في حرج للطرف الآخر وتصبح النتيجة قاسية على المقُال أو المستقيل منه.

تختصر المقاربة الرياضية السابقة الكثير من المسافات في نظيرتها الاقتصادية، وتؤكد أن بعض المناصب تحتاج مغادرتها إلى خروج آمن أو ناعم خوفا مما تحمله التداعيات من نتائج سلبية تؤثر على الطرفين أو أحدهما، وجعل طريق العودة مفتوحا مستقبلا.

جربت مصر الاستقالات الخشنة في عهود رؤساء سابقين، وكانت مردوداتها قاتمة وخطيرة على السمعة الرمزية لرئيس الجمهورية، حيث تحمل في طياتها اعتراضا على الممارسات القائمة ورفضا للتعامل مع النظام الحاكم، وتسجيل موقف قد لا يستطيع تحمل تبعاته رئيس ممن يعتبرون الاستقالة إهانة سياسية.

كانت استقالة وزيري خارجية لمصر في عهد الرئيس أنور السادات أكثر النماذج شهرة بعد ثورة 1952 عندما جرى تأميم الأحزاب ثم السيطرة على مفاصلها عقب عودتها لاحقا، لأن استقالات الحكومات والوزراء قبل ثورة يوليو تتم باستمرار كجزء من التفاعلات الساخنة في الحياة السياسية آنذاك، وكانت تذهب حكومة وتأتي أخرى بسهولة ويستقيل وزير اعتراضا على تصرفات حزبه أو حكومته بصورة عادية.

تعد استقالة وزير الخارجية إسماعيل فهمي احتجاجا على قرار الرئيس السادات زيارة القدس وإلقاء خطاب أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1977 علامة صارخة في تاريخ السياسة المصرية، تضاف إليها استقالة من جاء بعده في المنصب نفسه وهو السفير محمد إبراهيم كامل عشية توقيع السادات على اتفاقية كامب ديفيد عام 1979.

لا تزال الاستقالتان يؤرخ لهما في التاريخ المصري الحديث، وربما كانتا من الأسباب التي فرضت التوسع في وضع منهج خاص في عملية التوزير والطريقة التي يتم بها اختيار مسؤول ليتبوأ منصبا رفيعا وحساسا يقوم على حرص رئيس الجمهورية على امتلاك أوراق ضد لكل مستوزر للضغط عليه عند اللزوم والاستجابة لتنفيذ تعليماته.

تكمن هذه الأوراق في معرفة نقاط ضعف المسؤول وتغذيتها إن أمكن، ومن الشروط الأساسية ألا يمتلك المسؤول الرفيع أدوات رفاهية تمكّنه من الرفض والمناكفة.

في عهود سابقة كان يشترط (ضمنيا) في الطامح لتولي منصب رفيع أن تكون على رأسه “بطحة” أو جرح ليتمكن الرئيس من ممارسة الضغط عليه كيفما يشاء، ولا يمنح له مساحة للمناورة أو المغامرة، وتضمن “البطحة” عدم إقدام صاحبها على الاستقالة المفاجئة أو أيّ تصرف غير متوقع يمكن أن يغضب الرئيس.

ربما لا تزال بقايا هذه الفكرة موجودة أو جرى تطويرها بأشكال وألوان مختلفة وأدخلت عليها تعديلات تتناسب مع مقتضيات العصر، لكن يبقى المفهوم العام الذي تستند عليه مستمرا حتى الآن، ما يعني أن استقالة وزير أو مسؤول كبير غير واردة أو عملية صعبة وتحتاج إلى اتفاق مسبق حول خروجها إلى العلن وطريقة محددة تضمن عدم تصويرها كأنها نوع من الاعتراض والاحتجاج على توجهات رئيس الدولة.

مع الإعلان عن استقالة محافظ البنك المركزي طارق عامر تذكر مصريون أن وزير الدولة للإعلام أسامة هيكل قدّم استقالته في أبريل من العام الماضي من دون أن يتسبب أيضا في مشكلة سياسية أو يؤخذ موقفه على أنه رفض صريح للسياسة الإعلامية.

وهي حصيلة مشابهة يمكن استشفافها من الطريقة التي خرج بها طارق عامر، فقد تم تصوير الأمر على أنه بعيد عمّا تردّد حول إخفاقه في تنفيذ السياسات الاقتصادية، وموقف الحكومة من إدارته للبنك المركزي في الفترة الماضية.

بعد إعلان أسامة هيكل استقالته، وقبل أن يعلن عامر استقالته، احتارت الحكومة المصرية في توصيف الموقف الذي بدت عليه وزيرة الصحة السابقة هالة زايد في ظل تجميدها بسبب قضية فساد في وزارتها أثيرت في أكتوبر الماضي وكادت تطال سمعتها، فالوزيرة لم تستقل ولم تتم إقالتها وخرجت في تغيير وزاري كبير، وكانت حالتها متراوحة بين السيولة والغليان كتلك التي تظهر عندما تتساوى النتيجة.

تحظى الاستقالة في مصر باهتمام كبير من المواطنين والمراقبين لأنها تنطوي على مضامين بالغة لطرفيها، المستقيل والمُستقال منه، ولعل تمكّن طارق عامر من العبور والوصول إلى صيغة تحفظ له كرامته كمسؤول رفيع دون أن يتسبب في حرج للرئيس الذي كرّمه وعيّنه مستشارا له، فهذه ميزة كبيرة لا تعود إلى اعتبارات شخصية أو اتفاقات بين الطرفين، بقدر ما تعود إلى طبيعة منصب شغله عامر نحو سبع سنوات.

قد يصبح طارق عامر آخر مسؤول يسمح له بالاستقالة تحت تأثير ثقل أو صعوبة المنصب الذي تولاه في مرحلة غاية في الحساسية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وربما يكون أحد المسؤولين القلائل في قائمة ضيقة رأوا ضرورة تسجيل مواقفهم بطريقة بدت مقدماتها احتجاجية.

أدرك محافظ البنك المركزي المستقيل وضعه وأهمية سمعته الداخلية والخارجية، ولذلك لم تبالغ القيادة المصرية بالزعل أو الغضب والانتقام منه، لأنه كان واجهة لبلده مع المانحين الدوليين، وفي مقدمتهم صندوق النقد الدولي الذي يعد جهة محورية في التعامل الاقتصادي مع الحكومة المصرية.

جاء تعيينه مستشارا لرئيس الجمهورية فكرة سديدة لكل الأطراف المعنية، فإذا كانت هذه مرحلة لالتقاط الأنفاس له سوف يكون أمامه الوقت للتفكير في الخطوة التالية، لأن المهمة الشكلية الجديدة بعيدة عن اعتبارها خطوة موفقة إذا كان الغرض منها إسكاته عقب خروجه من المنصب، فالرجل عرف بالصرامة وعدم الرضوخ للابتزاز.

وجاءت الاستقالة في صيغة يمكن وصفها بالناعمة والمرضية لطرفيها وللمصالح العليا لمصر وسمعتها الدولية، فمحافظ البنك المركزي منصب اقتصادي رفيع، والفترة التي تولى فيها عامر مهامه (2015 – 2022) شهدت البلاد فيها بداية تطبيق برنامج الإصلاح، واتخذت بسببه الحكومة قرارات كثيرة وكان محافظ البنك المركزي عنصرا حاسما فيها، وله صلاحيات فاقت ما يمتلكه وزير المالية ورئيس الحكومة.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى