أقلام وأراء

محمد أبوالفضل يكتب – معادلة التدخلات الدولية والصراعات الإقليمية

بقلم محمد أبوالفضل

كورونا فرض طقوسه على قوى كبرى وصغرى في العالم، وجعل الهموم الداخلية تتقدم كثيرا على الخارجية، مع أن عملية الفصل بينهما صعبة، لأن كل واحدة منهما تصبح في لحظة ما امتدادا للثانية.

فتحت أزمة كورونا المجال للبحث في مصير كثير من القضايا الإقليمية، على اعتبار أن تجاوزها لن يمر بسهولة وربما يكون مكلفا للبعض، وسوف تؤدي الأزمة إلى تداعيات على أصعدة عدة، بينها طبيعة النظام الدولي وتفاعلاته، والقوى الصاعدة والهابطة فيه، ودور المنظمات والهيئات المناطقية، والحسابات الإستراتيجية التي تتحكم في العلاقات بين الدول.

تناولت رؤى متعددة ملفات متباينة، منها ما هو ساخن مثل الحروب والصراعات والتوترات الجارية في المنطقة التي حتما سيكون شكلها بعد كورونا مختلفا عما قبله من حيث طريقة التعامل معها، ومنها ما هو ساكن مثل الأوبئة والصحة العامة والمناخ والبيئة وهي قضايا مرجح أن تتقدم في سلم الأولويات وتحظى باهتمام وتركيز بالغين، بعد أن أثبتت التجربة مخاطر تهوينها أو إلقاء العبء على جهات دون أخرى.

يندرج التوقف عند هذه النوعية من المعطيات ضمن منظومة عصف الأفكار، لأن النتائج النهائية المتوقع أن يفضي إليها فايروس كورونا لم تتمخض عن شيء ملموس يحسم المناقشات الدائرة حوله، وقد يحتاج الأمر المزيد من الوقت لفك بعض الطلاسم الحالية كي يتسنى وضع وصفة واضحة لكثير من القضايا الحرجة.

إذا كانت الملفات الباردة قد تصل إلى مرحلة الغليان في الفترة المقبلة وتنهمك قوى عدة في آليات البحث عن طريقة مواتية، فإن المعطيات التي رشحت قبيل انطلاق قطار مرض كورونا تجعل من الوقوف عند ملف مثل الصراعات المحتدمة في المنطقة العربية عملية منطقية، بل يمكن أن يتواصل الزخم بوتيرة أسرع، فلم تعد القوى التي ألقت بثقلها في بعض النزاعات تملك رفاهية استمرار هذا المسلسل في مرحلة ما بعد كورونا.

شهدت النزاعات المشتعلة في سوريا وليبيا والعراق واليمن بوادر توافق شبه دولي لتسويتها سياسيا، مع اختلاف في الأدوات والوسائل المستخدمة لتفكيك النسيج المتلاحم بين القوى الرئيسية وروافدها في كل نزاع، بممارسة ضغوط على بعض الفاعلين وإجبارهم على تقديم تنازلات، أو الميل نحو الانسحاب الإرادي خوفا من تكبّد خسائر مضاعفة.

بدأت الملامح تتبلور في دمشق من خلال تقدم القوات السورية نحو المنطقة الشمالية وبسط سيطرتها على كثير من الأراضي التي كانت في حوزة تنظيمات متطرفة، والتراجع الملحوظ في عمليات الدعم والإسناد التركي لها.

تزامنت هذه التطورات مع تغير ملحوظ في التعامل الأميركي مع الأزمة، اصطحب معه عن قصد أو بدونه تحولات لا تقل أهمية في مواقف دول غربية معينة. وتنسحب هذه المعادلة مع اختلافات طفيفة على أزمات إقليمية أخرى، وغالبيتها أوحت بأن هناك معالم انحسار في أدوار قوى دولية كانت مؤثرة لمدى بعيد في عدد من الصراعات.

يُعدّ تراجع التعاون والتنسيق في العمليات العسكرية التي يشنها التحالف الدولي ضد الإرهاب في العراق وسوريا، من الملامح الواضحة في هذا المضمار الذي بدأت روابطه تشهد تحللا في بعض الالتزامات، وقد تتفكك هياكله مع أن الهدف من تكوينه لم ينته تماما بعد، بل لفتت دوائر أمنية إلى أن الجماعات المتشددة ستشهد انتعاشة في تحركاتها المسلحة.

فرض كورونا طقوسه على قوى كبرى وصغرى في العالم، وجعل الهموم الداخلية تتقدم كثيرا على الخارجية، مع أن عملية الفصل بينهما صعبة، لأن كل واحدة منهما تصبح في لحظة ما امتدادا للثانية، لكن من المؤكد أن السهولة التي كانت تصاحب التدخل في الصراعات لن تعود إلى سابق عهدها مهما كانت الحصيلة السلبية التي سينتجها الفايروس، وستظل قوى كثيرة تجهل لفترة الشكل النهائي الذي سوف تستقر عنده.

ولندقق في إرسال جنود ومعدات عسكرية على الأرض من قبل قوى دولية والاشتباك المباشر في بعض النزاعات وما سيطرأ عليها من إعادة نظر في مسلماتها، استنادا إلى مقدمات الانسحاب التدريجي التي سبقت ظهور كورونا، والذي جاء ليعزز القناعات بالخطوات السابقة عليه، ويمنحها زخما جديدا يجعلها تمضي بوتيرة سريعة أكثر من ذي قبل.

في حالة استمرار التهديدات على المصالح والأمن القومي للدول الكبرى ستجد العمليات العسكرية الخاطفة والطلعات بالطائرات المسيرة والقصف جوا طريقها بكثافة، الأمر الذي تقوم به الولايات المتحدة في الصومال من خلال قواتها العاملة في أفريقيا المعروفة بـ”أفريكوم”، والتي لم تتوقف ضرباتها على حركة الشباب الصومالية منذ حوالي ثلاث سنوات.

اختارت واشنطن هذه الآلية للتعامل مع العناصر المتطرفة في الصومال وليبيا وأفغانستان وغيرها من الدول التي ينشط فيها إرهابيون تريد القصاص منهم، دون حاجة لنزول قواتها على الأرض إلا عند الضرورة، والمنتظر أن تتحول إلى حالة عامة لدى الولايات المتحدة وقوى كبرى مختلفة، فلم تعد تطورات الأزمات تتيح محظورات التدخل الدولي.

تقل حدة اشتباك القوات في الصراعات أو تتوارى بمقدار ما تمثله من أولوية إستراتيجية، وكلما كانت هناك قدرة على الانسحاب بقدر قليل من الخسائر تتوارى فكرة الجري وراء الحصول على مكاسب، لأن الأخيرة يمكن تحقيقها بأدوات أخرى، ليس من بينها التدخل العسكري في المعارك الإقليمية الطاحنة، وهو اتجاه تم اختباره على مدار عقود ماضية.

لم يكن الميل نحو فرض العقوبات الاقتصادية والإعلاء من قيمة المنظمات الدولية الحقوقية والديمقراطية والحريات وما إلى ذلك من حزم مادية ومعنوية دقيقة، إلا اختبارا لقياس حجم التأثيرات في هذا المنهج ومعرفة فوائده، وبالفعل ظهرت تجليات إيجابية مع دول عدة وبنسب متفاوتة، حسب الأهداف المطلوبة من وراء كل حزمة.

يقود تراجع تدخلات القوى الدولية، خاصة إذا كانت عواقبه غير محسوبة بدقة، إلى نتيجتين رئيسيتين مرتبطتين معا، الأولى تشجيع الحركات المتشددة على استعادة عافيتها وتوسيع عملياتها المسلحة وزيادة رقعة نفوذها في المناطق التي لا تزال تشهد توترات لم يتم حسمها، وهذه نقطة حظيت باهتمام مؤخرا وظهرت معالمها في أماكن الصراعات التقليدية.

النتيجة الثانية منح قوى إقليمية جامحة فرصة لتعويض الانحسار، فإيران لن تتخلى عن طموحاتها في الهيمنة على مقاليد المنطقة، ولن تتوانى عن تعويض خسائرها وهزائمها في بعض الدول التي راكمت فيها نفوذها، فخروج القوات الأميركية من العراق وسوريا بدون ترتيبات صارمة يعني تكريس دور طهران فيهما، وتنسحب هذه المعادلة على لبنان واليمن.

كذلك الحال بالنسبة لتركيا وأحلامها في إيجاد دور محوري لها في المنطقة، وظهر نشاطها في ليبيا، حيث تدعم الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية وتساعدها على توسيع قواعدها في غرب طرابلس، وينتابها طموح في مواصلة المعركة لتجبر قوات الجيش الوطني الليبي على مغادرة محيط العاصمة وخلق واقع ربما يدعم تطلعاتها.

استغلت أنقرة الفراغ الدولي الذي أوجده كورونا، وتعتزم المضي في سيناريوهات أخرى في سوريا والعراق والصومال لتعويض خسائرها السابقة، ووضع أركان جديدة لما تحلم به من دور يرمي إلى السيطرة على مفاصل منطقة لم تتعاف من جراحها الماضية، ويمكن أن تظهر عليها نتوءات قاتمة يصعب علاجها.

يفرض الانحسار الدولي المتوقع، والذي قد يشمل روسيا الطامحة، على قوى إقليمية معتدلة آثرت التراجع التكتيكي، مثل مصر، التخلي عن حذرها والخروج لممارسة أدوار تتناسب مع تاريخها وقوتها وموقعها، لأن استمرار الانكفاء الراهن يغري على زيادة اعتداءات طهران وأنقرة، فالدول التي تتبنى عقيدة أيديولوجية لا تنشغل بالتكاليف أو برواسب كورونا، طالما تجد فرصة لتحقيق أهدافها في استمرار الصراعات الإقليمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى