أقلام وأراء

محمد أبوالفضل يكتب –  تخلص مصر من عُقد مبارك لا يكفي

محمد أبوالفضل 22/11/2021

مبارك خشي من توسيع نطاق الاعتماد على الجيش خوفا من اتهامه بـ”عسكرة” المجتمع المدني وجاء السيسي واعتمد على عدد كبير من قياداته في مجالات مختلفة وأسقط الكثير من المخاوف السابقة.

ظلت مصر أسيرة لمجموعة من العُقد السياسية وضعها الرئيس الراحل حسني مبارك في الآونة الأخيرة من فترة حكمه التي امتدت ثلاثين عاما، لم ير المصريون فداحتها إلا بعد سقوط نظامه بسنوات عندما جاء الرئيس عبدالفتاح السيسي وقام بالتخلص من غالبية العُقد التي استخدمت كمحرمات ممنوع الاقتراب منها.

للرئيس مبارك ما له وما عليه مثل أي رئيس دولة في العالم، وهناك من يرون نجاحاته فقط ومن يضخمون إخفاقاته لأسباب سياسية، وبين الجانبين مساحة يمكن النظر منها تؤكد أن ثمة مسلمات ضيقة آمن بها الرجل وحاول توظيفها على طريقته، معتقدا أنها كفيلة بحماية نظامه من التآكل، وهذا لا يعني تشكيكا في وطنيته، بل هو نوع من التقدير السياسي أثبتت التطورات اللاحقة عدم صوابه.

خشي مبارك من توسيع نطاق الاعتماد على الجيش في المشروعات الاقتصادية وكان توسعه مرهونا بسقف معين، خوفا من اتهامه بـ”عسكرة” المجتمع المدني، وجاء السيسي واعتمد على عدد كبير من قياداته في مجالات مختلفة وأسقط عمليا الكثير من المخاوف السابقة بعد أن تحولت المؤسسة العسكرية إلى ذراع رئيسية في الحكم.

بعيدا عن القبول والرفض لهذا الدور وتبعاته فقد وفر الجيش المصري بديلا جاهزا لما أصاب العديد من مؤسسات الدولة من ترهل السنوات الماضية، فناهيك عن مهامه الأمنية والعسكرية بات رقما محوريا في ملف التنمية التي كان مبارك مترددا في القيام بها وعاجزا عن توفير التمويلات اللازمة لها.

كسر السيسي أيضا الارتباك الذي صاحب مبارك في مجال الإصلاحات الاقتصادية وتذوق مرارات النتائج التي ترتبت عنها، ونجح في تطبيق جزء كبير منها، ورفع الدعم عن مجموعة كبيرة من السلع والخدمات وتحمل الصدمات الناجمة عن كل ذلك، الأمر الذي ظل مبارك يتهرب منه أو يناور به من وقت إلى آخر، ولم يصب المجتمع المصري بخطر داهم بعد تطبيقها وأنقذت الخطوة اقتصاد الدولة من مصير قاتم.

بدأت خطوات جادة للقضاء على العشوائيات التي تراكمت بصورة مزعجة لشكل الدولة في عهد مبارك وشوهت بعض معالمها، وانعكست على وجهها الحضاري، وتمثل المعالجة التي تقوم بها أجهزة الدولة حاليا تجاوزا لعُقدة مجتمعية كانت أشباحها غير الآدمية تطارد الكثير من سكان القاهرة.

سلسلة العُقد التي وضعها مبارك عن قصد أو دونه شملت شبح الإخوان، فقد استخدم هذه الجماعة لتخويف القوى السياسية الراغبة في التخلص منه أو الثورة عليه، وصور أن البديل الجاهز لتولي الحكم من بعده هم الإخوان، ربما كان صائبا حيث تولت الحكم بعد سقوطه لمدة عام، لكن هذا لا يعفيه من مسؤولية السماح لها بالتغول في النسيج الشعبي وإضعاف القوى السياسية المنافسة.

أسقط الرئيس السيسي هذه الورقة بالضربة القاضية وتحمل تكاليف باهظة داخلية وخارجية في المواجهة الحاسمة، وخلص المصريين من “تابو” جرى استخدامه من قبل مبارك لتمديد حكمه لأطول فترة ممكنة، ولا يزال تواصل أجهزة الدولة قصقصة أجنحة الجماعة بما يجعلها بحاجة إلى عقود لإعادة إحياء هياكلها.

الغريب أن تفاهمات مبارك الصريحة والضمنية مع الإخوان اصطحبت معها مواقف صدامية مع حركة حماس في غزة، والتي تمثل أحد فروع الجماعة وتتبنى أفكارها السياسية، بينما انقلب المشهد الآن، حيث انتهت التفاهمات مع الأولى، وانتهت أو توقفت الصدامات مع الثانية، وأجهضت هذه العُقدة التي أسهمت بدور كبير في رسم تصورات سلبية لمصر في التعامل مع غزة في السنوات الأخيرة لحكم مبارك.

دار الزمن دورته في الأعوام القليلة الماضية حيال التعاطي مع إسرائيل التي كان مبارك مترددا كثيرا في الانفتاح عليها خوفا مما يجلبه هذا التطور من تأثيرات سياسية، وباتت تمضي العلاقات معها وفقا لتفاهمات غير معهودة لم تتخل فيها القاهرة عن ثوابتها الرئيسية.

مـد الخيط على استقامته يقود إلى الولايات المتحدة التي وضع مبارك غالبية رهاناته عليها، واعتقد أن الخروج عن طوعها يفضي إلى أزمات كبيرة، وهي العُقدة التي ورثها من سلفه الرئيس أنور السادات الذي رأى أن 99 في المئة من أوراق الشرق الأوسط في جعبتها، وقد حطمت ثورة 30 يونيو 2013 هذه النوعية من المحرمات وانفتحت القاهرة على الولايات المتحدة كما تنفتح على روسيا والصين وغيرهما.

لم يقصد مبارك وضع العُقد الداخلية والخارجية في سلة واحدة كي يضمن الاستمرار في الحكم فقط، بل كان تكوينه السياسي يميل إلى الليونة والمهادنة، ومحاولة التعامل مع القضايا الصعبة بطريقة الهروب إلى الأمام وعدم والمواجهة، وأهمل أحيانا بشكل انطباعي وشخصي التقارير التي قدمت له من جهات سيادية.

قطع العلاقات مع عدد كبير من الدول الأفريقية عقب محاولة اغتياله في أديس أبابا في يونيو 1995، وأوجدت الحادثة عُقدة تعاني مصر من روافدها حتى الآن، فالقطيعة قلصت دورها، وسمحت لقوى إقليمية منافسة بالتمدد على حساب مصر، ومنحت إثيوبيا جرأة للتفكير في تحويل دراسات سد النهضة إلى واقع ملموس تكابد مصر معه للوصول إلى صيغة تمنع وقوع أضرار على حصصها من مياه نهر النيل مستقبلا.

تعاني القاهرة من رواسب هذه القطيعة الكبيرة مع السودان الذي تحول خلال عهد مبارك إلى مشكلة أمنية بامتياز، وحصرت هذه الرؤية التعامل معه في خندق أن مؤامرة محاولة الاغتيال في أديس أبابا جرى التخطيط لها في الخرطوم.

كان مطلوبا من الدولة التخلص من نتائج هذه العُقدة، لأنها اتخذت بعدها تدابير أزّمت العلاقات مع الخرطوم، وهو ما نجح فيه السيسي من خلال تذويب جزء كبير من تلك الجدران الصلبة التي نجمت عليها، وثبت أن السودان مكون محوري وإيجابي من مكونات الأمن القومي المصري وليس مشكلة أمنية تتعلق بجماعات إرهابية يعاني منها البلدان.

ليس هناك مجال للحديث عن المزيد من الدول التي تحولت العلاقات معها إلى أزمات مستفحلة، أو جرى تحجيمها بملفات متغيرة لا تنطوي على بعد استراتيجي حقيقي يراعي المصالح المصرية على المدى البعيد، الأمر الذي حوّل مصر في أواخر عهد مبارك والسنوات الأربع التالية لسقوط نظامه إلى بطة عرجاء تزحف ببطء شديد نحو الحفاظ على أمنها القومي ومواجهة التحديات المتفرقة.

تخلص السيسي من حزمة معتبرة من العُقد لا يعني أن ذلك غاية المراد، فمن المهم أن يُستثمر النجاح في بناء دولة عصرية تتوافر لها كل مقومات الحياة النظيفة بمفهومها السياسي العام داخليا وخارجيا، وهو الاختبار الذي يواجهه النظام المصري حاليا ليصبح تفكيك محرمات مبارك مقدمة لإرساء قواعد متينة وليس لخلق عُقد بديلة.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى