أقلام وأراء

محمد أبوالفضل يكتب – أوروبا تختبر قوتها السياسية في ليبيا

بقلم محمد أبوالفضل

تسارعت الحركة الدبلوماسية الأوروبية غداة إعلان تركيا إرسال عسكريين لدعم ميليشيات حكومة الوفاق المسيطرة على العاصمة الليبية طرابلس ما أثار مخاوف من نشوء “سوريا جديدة”، في وقت بدأ فيه قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر عمليات تحرير المدينة.

حفزت المخاوف من تدويل النزاع الليبي تحركات دبلوماسية أوروبية مكثفة وغير مسبوقة لدول الجوار الليبي، حيث استقبل الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، الخميس، وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، فيما التقى وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الرئيس التونسي قيس سعيد.

وأكد دي مايو أنّ “الوقت حان لجمع كل الدول وجميع الأشخاص حول طاولة واحدة وإيجاد حل يضمن السلم في هذه المنطقة”. وأضاف الوزير الإيطالي الذي سبق أن زار القاهرة في إطار مساع دبلوماسية لحل الأزمة، أنّ “الجميع متفق على ضرورة وقف إطلاق النار في ليبيا”.

وبحسب الجزائر فإن “تصعيد أعمال العنف” ناجم “عن التدخلات الأجنبية التي تُعقّد سبل الحل السياسي الكفيل وحده بإعادة الأمن والسلم والاستقرار إلى ربوع ليبيا”، في إشارة إلى تواجد الجنود الأتراك على الأراضي الليبية.

من جهته، زار وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان تونس، الجارة الأخرى لليبيا، حيث أكد أن “مخاطر التصعيد القائمة في ليبيا تهدد استقرار مجمل المنطقة من المغرب العربي إلى الساحل”.

وعلق لودريان على اتفاقين وقعتهما تركيا مع حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج أواخر نوفمبر، أحدهما عسكري ينص على أن تقدّم تركيا مساعدات عسكرية إلى حكومة الوفاق والثاني يتناول ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا. وقال بهذا الصدد إن الاتفاق بين حكومة الوفاق وتركيا “يتعمد الابتعاد عن القانون الدولي ويزيد من تعميق الأزمة في ليبيا”.

ودخلت الدول الأوروبية اختبارا جديا عبر مدى قوتها السياسية في التعامل مع الأزمة الليبية. ودب النشاط في دبلوماسيتها المتصلبة، واتجهت صوب العواصم المجاورة والمعنية بالأزمة، القاهرة وتونس والجزائر، واستقبلت بروكسل وروما وبرلين وباريس ولندن الكثير من المسؤولين لبحث سبل الخروج من النفق المظلم الذي تسبب فيه إعلان تركيا عزمها التدخل عسكريا في ليبيا، ودعم حكومة الوفاق والقوى المتشعبة والمتحالفة معها.

بدا التعامل الأوروبي مفككا، وشهد خلافا محتدما بين البعض في مراحل سابقة، ولا تزال تداعياته الكامنة تخيم على التحركات الراهنة التي اجتمعت على رفض المزيد من التصعيد على الساحة الليبية، لكنها أخفقت في التفاهم حول صيغة متقاربة للتسوية السياسية التي طرحت من قبل، عبر فرنسا وإيطاليا، والآن تحاول ألمانيا إنقاذ مؤتمرها الدولي الذي فشلت في تحديد الأطراف المشاركة فيه أو موعد لإنعقاده.

المثير في المشهد الأوروبي أنه يسير هذه المرة بعيدا عن الولايات المتحدة المنغمسة في الصراع مع إيران بكل ما ينطوي عليه من تحديات سياسية وأمنية. وأصبحت الأزمة في ليبيا أحد المحكات الرئيسية أمام دول الاتحاد الأوروبي بشأن مدى قدرتها على فك ألغازها وإيجاد طريق واضح للحل بمعرفتها.

تركز اللقاءات والاجتماعات والحوارات التي عقدها وزراء خارجية ومسؤولون غربيون مع نظرائهم في دول مختلفة، على إيجاد مخرج سياسي يجنب ليبيا المزيد من الفوضى والانفلات، ويحاولون إثناء تركيا عن اتخاذ إجراءات عسكرية على الأرض تؤدي إلى تدويل الصراع رسميا، حيث ستفرض هذه الخطوة الرد عليها من جانب المعسكر المناهض لتحركات أنقرة في ليبيا، وشرق المتوسط، إذا لم تنصع للنداءات الرافضة لما فعلته، وشدد قسم كبير منه على عدم قانونية مذكرتي التفاهم البحري والأمني مع حكومة طرابلس.

ارتسم التوجه الأوروبي في جملة من الملامح المتفرقة، يمكن وضعها في عدد من المحددات التي تؤكد أن التحرك لا يزال يتخذ بعدا تكتيكيا، ويفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية، وكل المساعي تكاد تتمحور حول إبعاد شبح اتساع نطاق الحرب وليس البحث عن حلول ناجعة للأزمة المزمنة، وهي المشكلة التي لازمت كل المتعاملين معها، وأدت إلى صعوبة بالغة في تفكيك أطرها الصلبة، وقدمت لتركيا أو غيرها الفرصة للتدخل الكبير.

محددات إدارة الأزمة

تستبعد الدول الأوروبية الفاعلة مبدأ الحسم العسكري، ووضعته جانبا في حواراتها، ورفضت فكرة استعانة حكومة الوفاق الليبية بأي قوات خارجية تزيد الصراع اشتعالا، وتسمح بوجود ثغرات تفضي إلى تمدده إقليميا. وهذا هو الخطاب الأكثر تداولا، ولم يرق إلى مستوى ردع تركيا بالأدوات الخشنة. ولم تظهر أيضا معالم تشي بمعاقبتها على إرسال قوات غير نظامية من إرهابيين ومرتزقة ومتشددين إلى الأراضي الليبية، والذي لم تنكره أنقرة. وهو إحدى أهم المشكلات التي أطالت أمد الأزمة وأدخلتها دروبا وعرة.

مالت القوى الرئيسية في أوروبا إلى تقريب المسافات السياسية بين الجبهتين المتصارعتين، المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي الوطني، وغريمه فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي، رئيس حكومة الوفاق.

وتجاهلت خطاب الأول الصامد بشأن قطع أرجل الإرهابيين في ليبيا وتوفير حماية مطلوبة في جنوب المتوسط، ولم تعبأ بخطاب الثاني الذي يشتمل على مكونات فاضحة للتواطؤ مع تركيا والتحالف مع جماعات إرهابية وكتائب مسلحة وطوفان من الهجرة غير الشرعية.

تخطت الدول الأوروبية هذه الملفات، مع أنها جوهر الأزمة الراهنة، وكأن قادتها لا يريدون الدخول في تفاصيل يمكن أن تحرج البعض ممن أسهموا في الوصول إلى هذه النقطة – الفضيحة، حيث غض البعض الطرف عن تدفق المتطرفين إلى ليبيا مبكرا، ومنهم من جنوا مكاسب وعملوا على مساعدتهم بطرق متباينة، ومنهم من قاموا بعلاج جرحاهم في مشافيهم ومعسكراتهم الموجودة في مصراتة، وإيطاليا مثل حي على ذلك.

تتمسك دول أوروبية بالدعوة إلى العودة إلى طاولة المفاوضات بين حفتر والسراج. وهي مساواة ظالمة بين من يعمل على مكافحة الإرهاب ومن فتح أبواب طرابلس على مصراعيها له.

ولذلك هي دعوة شكلية تعبر عن ضعف المنطق الغربي وهشاشته، وأوصلته إلى تكرار المنظومة العقيمة، وتجاوز أوجه الخلل التي ظهرت عليها في أوقات سابقة. نعم الانسداد السياسي والعسكري الحالي فتح أعين بعض الدول الأوروبية على أطياف ليبية أخرى، لكن لا توجد رؤية لاستيعاب هؤلاء ضمن أطر الحل النهائي.

تقف الكثير من الدوائر الأوروبية عاجزة حتى الآن عن استيعاب المكونات الشاملة للأزمة، والوقوف عند القشور والتفاصيل الصغيرة، مع أن التوجهات التركية كشفت حجم الرفض الشعبي والسياسي للجسم الذي تمخض عن اتفاق الصخيرات، مؤكدا أن هياكله تعمل بطريقة بعيدة عن أهدافه النهائية، ومع ذلك لم تطرح أي من الدول الغربية فكرة العمل على تعديله ليستوعب المتغيرات والتحولات على الساحة الليبية.

اتجهت غالبية الخطوات الأوروبية نحو التركيز على تنحية تركيا عن ليبيا، ولعبت إيطاليا دورا في ذلك، عندما وجدت إسقاطا في الخطاب الوطني عليها، وخلق مقارنة بينها خلال فترة الاحتلال وبين ما يريده الرئيس رجب طيب أردوغان في ليبيا، ما يمثل خسارة بعيدة لروما ولذلك دفعت نحو توجيه بوصلة الأزمة مع تركيا إلى منطقة شرق البحر المتوسط، باعتباره الحلقة التي تبعد عنها شبح العودة إلى مفردات الاستعمار الجديد والقديم.

وسواء كان هذا التوجه الأوروبي العام مقصودا منه تخفيف العبء على وتر ليبيا والضغط على دول شمال المتوسط، أو إيجاد بؤرة للعراك الإقليمي والدولي من خلال جر قوى كبرى لساحة ليبيا، مثل الولايات المتحدة وروسيا، ففي الحالتين يشير مضمونه إلى فقر في قدرة الجسم الأوروبي، جماعيا وفرديا، على التعامل مع هذه النوعية من التحديات المترامية.

لدى الدول الرئيسية التي نشطت حركتها مؤخرا، مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، مصالح كبرى في ليبيا وجنوب المتوسط، لكن مصالحها المباشرة في شرق المتوسط محدودة وغير ذات أهمية حاليا، لكن ربما تكون أعينها على المستقبل الواعد في هذه المنطقة.

وتعمدت العمل على لفت الأنظار إلى هناك لتجنب الصدام مع تركيا، وهو ما يحمل اعترافا ضمنيا بحقوق لأنقرة ورغبة في ضرورة أن يكون لها دور يتناسب مع طموحاتها في هذه المنطقة. والأهم وضع واشنطن وموسكو في المواجهة في شرق المتوسط، وحرفهما عن بحر الرمال العظيم في ليبيا. فكعكة المتوسط واعدة ولا تزال فصولها النهائية لم ترسم.

زاد الأمر غموضا أن موسكو دخلت قبل يومين على خط الأزمة الليبية عبر دعوة الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس أردوغان إلى وقف إطلاق النار يوم الأحد المقبل، الأمر الذي وجد قبولا من جهات أوروبية عدة.

تقدم روسيا

مهما كانت أهداف الدعوة: إنقاذ أردوغان عقب تقدم قوات الجيش الليبي عسكريا والسيطرة على سرت، أو إعلان صريح عن محور روسيا – تركيا، ففي كل الحالات تحمل إشارة على أن بوتين بات قاب قوسين أو أدنى من المشاركة في هندسة الأوضاع داخل ليبيا. وتعني أيضا سحب جزء من الرصيد الأوروبي، وتخفيض مستوى الدور الذي يمكن أن يلعبه مؤتمر برلين.

تسعى بعض الدول الغربية إلى تهيئة الأجواء للعودة إلى طاولة ألمانيا المفتوحة. ورأت جهات كثيرة أن مسار برلين كان على وشك الاندثار بسبب الخلافات، غير أن أزمة التدخل التركي في ليبيا يمكن أن تمنحه قبلة حياة سياسية.

وشعرت الدول التي تخوض حربا بالوكالة بأنها أمام ورطة كبيرة يمكن أن تكبدها خسائر فادحة، وخلافاتها ربما تؤدي إلى انعكاسات سياسية وأمنية واجتماعية أشد خطورة، وعملية ضبط الصراع وحصره داخل ليبيا قابلة للخروج عن السيطرة والانفجار.

أصبح القاسم المشترك في الحوارات الأوروبية التركيز على التسوية، ولأن مسار ألمانيا هو الوحيد المتاح حاليا فقد تلقى دفقة سياسية من دوائر كثيرة جعلته عنصرا محوريا في المعادلات التي أقامت عليها دول مختلفة توازناتها السياسية. وتريد ألمانيا تعظيم هذا الزخم بدعوة أطراف لم تكن مدرجة سلفا (الجزائر وربما تونس)، ودفع الاجتماعات التي جرت في عواصم عدة نحو الالتفاف حوله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى