أقلام وأراء

محمد أبوالفضل – ظهور الصندوق الأسود للسودان في مصر

محمد أبوالفضل ٢٨-٢-٢٠٢٢م

حمل ظهور مدير جهاز الأمن والمخابرات الأسبق في السودان الفريق أول صلاح قوش الجمعة في القاهرة في مناسبة رياضية رسائل سياسية عدة، وأصبح مكانه معلوما بالضرورة بعد تكهنات سابقة أشارت إلى وجوده في مصر.

وتحولت التكهنات إلى حقيقة مع الظهور الأول للرجل منذ حوالي ثلاث سنوات، وهو ما حمل علامة بأنه يعيش في مأمن وبعيدا عن المطاردات الجنائية، وغير معني بطلب تسليمه أو مكترث بوضع اسمه على قوائم الإنتربول الدولي.

وتأتي أهمية قوش مما عرف عنه بأنه الصندوق الأسود لكثير من المعلومات في السودان، حيث حمل أختام أسرار البلاد في السنوات الأخيرة من حكم عمر البشير، ما جعل عملية القبض عليه ذات أهمية سياسية فائقة في مسيرة الثورة السودانية التي أسقطت نظام البشير وتتمسك بمحاسبة رموزه ممن شاركوا في عمليات فساد مختلفة.

وجاء ظهوره في ظل حدث رياضي لا يخلو من أغراض سياسية، حيث قدم تهنئته للبعثة الإدارية والفنية لفريق المريخ لكرة القدم الذي تفوق على نظيره الهلال السوداني في مباراة أقيمت بينهما أخيرا في مصر، إذ كان صلاح قوش عضو مجلس الشرف بفريق المريخ سابقا، وحرص على التقاط الصور مع أعضاء البعثة التي اتخذت من مصر مقرا لإقامة مباريات الفريق مع منافسيه ضمن مسابقة دوري أبطال أفريقيا.

واستغل المناسبة الرياضية للكشف عن وجوده بلا مواربة في القاهرة، ما يشي بأنه لا يعاني من وطأة الملاحقات أو يخشى التضحية به من جانب مصر التي لم تتجاوب مع طلب قدمته لها الخرطوم تضمن تسليمه وعددا من رموز نظام البشير يقيمون على أراضيها بدا على سبيل الاستجابة لضغوط شعبية وامتصاص غضب كان يلاحق المكون العسكري في السودان بسبب ما قيل إنه تهاون مع فلول البشير.

واختير الموقف الرياضي بعناية لتأكيد هذا المبدأ، وأن قوش لا يشكل خطرا أو يقوم بأية أنشطة من شأنها أن تخل بهذه المعادلة الممتدة، والتي لم تكن تمثل مصدرا للإزعاج اللافت في العلاقات بين البلدين، فالانضباط الذي تفرضه القاهرة على المعارضين السودانيين لم يحولهم إلى منغص أو أداة للمناكفة السياسية بينهما.ويحمل ظهور الصندوق الأسود في قلب القاهرة مجموعة من الدلالات، منها أن مصر لا تريد التخلص من حامل مفاتيحه، وحريصة على حياة من يقيمون على أراضيها كعادتها عند إيواء أو استقبال الكثير من القيادات السياسية والأمنية السابقة، طالما لا يمارسون عملا يضر بمصالحها أو مصالح السودان مباشرة.

وينطوي الظهور المفاجئ في القاهرة عن تمهيد لعودة غير مستبعدة إلى الخرطوم في ظل عودة البعض من رموز النظام السابق إلى السلطة والاستعانة بهم من جانب الجيش في مناصب رفيعة، خاصة أن صلاح قوش من المحسوبين على رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ويمكن أن يكون رقما مهما إلى جواره في صراعه الخفي مع بعض معاونيه أو من يقفون عقبة أمام طموحاته السياسية.

ولم تكن علاقة قوش برئيس قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) على درجة عالية من الوفاق وخاض صراعات ودخل في خلافات مع خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة ووزير المالية حاليا، وهما يمثلان جناحين مهمين في توازنات السلطة التي يريد البرهان ألا تذهب بعيدا عنه.

ويفُهم من الظهور على هذه الصورة أنه تم بالتنسيق بين القاهرة والخرطوم كمحاولة لجس نبض الشارع في السودان تجاه إمكانية عودته في ظل أزمة سياسية محتدمة تحتاج إلى حنكة وخبرة وعقل مدير جهاز أمن ومخابرات امتلك الكثير من المفاتيح الحيوية لتجاوز عراقيل تحيط بالمكون العسكري الذي يقبض على زمام الأمور في البلاد.

وبدت التقارير التي رصدت وتابعت وتوقفت عند ظهور قوش مع بعثة فريق المريخ هادئة إلى حد كبير، وغير غاضبة كالعادة من مصر أو ناقمة على السلطة الراهنة في السودان، كأن وجوده في القاهرة بات من المسلمات التي يجب تقبلها أو أن المزاج العام في الخرطوم تغير ولم تعد فكرة رموز النظام السابق تثير استفزاز الشارع.

وضرب قوش ومعه الجهة التي قامت بهندسة عملية الظهور في مناسبة رياضية شعبية جملة من العصافير بحجر واحد، أهمها أن وجوده في القاهرة لا يشكل مطلبا عاجلا للسودان، وأن اهتماماته بعيدة عن السياسة والأمن وتعقيدات كليهما، وأن بقاءه في مصر أفضل من ذهابه إلى دولة أخرى قد تستفيد منه بما يمتلكه من معلومات وخزائن من الأسرار عن الكثير من الشخصيات السودانية في الحكم والمعارضة.

الظهور العلني المسكوت عنه يعيد النظر في طلبات التسليم التي تقدمت بها القاهرة إلى الخرطوم لتسليم عدد من قيادات الإخوان المحكوم عليهم في قضايا جنائية ويقيمون على أراضي السودان منذ فترة ولم يتم التجاوب مع غالبيتها من المسؤولين هناك.

وإذا كانت القيادة السودانية أو أي قوى سياسية تريد أيا من رموز النظام السابق عليها النظر بإمعان في المطالب المصرية والتجاوب معها، وربما دفع الثمن مقدما في هذا الملف الذي يؤدي فتحه على مصراعيه إلى إحراج جهات عديدة في الحكم والمعارضة لا توليه اهتماما يتناسب مع الخطورة التي يحملها بالنسبة إلى الأمن القومي المصري.

ولا يزال حادث توقيف المصري حسام سلام منوفي عضو حركة حسم الإرهابية التي تمثل الجناح العسكري للإخوان من على متن طائرة سودانية هبطت اضطراريا في مطار الأقصر المصري في يناير الماضي ماثلا في الأذهان، حيث أكد أن هناك إرهابيين من مصر يقيمون في السودان وتم التستر عليهم.

ويتقاطع ملف قوش مع هذه المعطيات، حيث يعلم كل كبيرة وصغيرة عن خارطة المتطرفين والإرهابيين الذين اتخذوا من السودان مركزا للإقامة والانطلاق وحصلوا على الجنسية ومنحوا مزايا كبيرة خلال عهد البشير، ويحظى بعضهم في الوقت الحالي بحرية نسبية في الحركة بما يفوق الظهور العرضي غير السياسي لقوش.

وإذا مضى هذا الظهور بسلام ونجح مجلس السيادة في احتواء ارتداداته لاحقا سوف يرسخ قناعة لدى دوائر معارضة تتعلق بعمق العلاقة بين النظام المصري والبرهان، وتتأكد أن القاهرة أكثر ما يهمها الحفاظ على مصالحها، وأن المكون العسكري هو الضمانة الحقيقية لذلك، وتتعزز الممانعة لأية وساطة لمصر في الأزمة السودانية.

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى