ترجمات أجنبية

مجلة ذي أتلانتك – ريبيكا ل. سبانج – مقارنة بعصر الثورة الفرنسية.. هل دخلت أمريكا في حالة ثورة؟

مجلة  ذي أتلانتك  –    ريبيكا ل. سبانج *– 5/4/2020

 الخوف يجتاح البلاد، وعديد من الشركات تنهار، وبعض الثروات الضخمة تتراكم. ويخزن المستهلكون المذعورون الورق، والغذاء، والأسلحة. ورد فعل الحكومة متضارب وغير فعال. والتجار العاديون في طريقهم للتوقف التام، ولا يستطيع المستثمرون العثور على أصول آمنة. والحزبية السياسية تزداد حدة، وكل شيء ينهار.

كان كل هذا صحيحًا بالنسبة لفرنسا الثورية في 1789 و1790، مثلما هو الحال نفسه في الولايات المتحدة اليوم. فهل نحن في بداية ثورة لم يتم تسميتها بعد؟ وهل نريد أن نكون في هذه الحالة؟ يبدو واضحًا أننا على وشك تحول كبير. بداية الكساد التالي تحدٍ يشبه الحرب العالمية الثانية، وما يمكن وصفه بأزمة منتصف العمر الوطنية؛ كلها مقارنات طرحت للنقاش، إلى جانب غيرها الكثير.

لكن قلة يصفون اللحظة الحالية بأنها ثورة، وقد اقترح البعض أن جائحة فيروس كورونا المستجد – الذي يتزامن مع تزايد سعي جو بايدن للترشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية كممثل عن الحزب الديمقراطي، وتراجع حظوظ بيرني ساندرز – تشير إلى نهاية أي احتمال من هذا القبيل.

وفي مقال نشرته مجلة «ذي أتلانتك» مؤخرًا بعنوان «فيروس كورونا قتل الثورة»، رأى الكاتب شادي حميد أن أزمة فيروس كورونا المستجد تجعل الناس يتوقون إلى العودة إلى «الوضع الطبيعي» أكثر من رغبتهم في حدوث تغيير هيكلي عميق. وكمؤرخة لوضع فرنسا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تعتقد الكاتبة أن مثل هذه الادعاءات خاطئة.

إن الرغبة الملحة في الاستقرار – من أجل التوصل لحسم سريع للاضطرابات – هي في الحقيقة سمة مميزة لأي حقبة ثورية. كتب أحد أعضاء الجمعية التأسيسية الفرنسية المحاصرين إلى أحد الأصدقاء الطيبين في أكتوبر (تشرين الأول) 1789: «أدعو الله أن ننتهي من مهمتنا بحلول عيد الميلاد». وفي الواقع استغرقت الجمعية عامين آخرين لإنهاء مهامها، وبعد ذلك انتخبت جمعية أخرى، وأُعلنت الجمهورية، وخضع لويس السادس عشر للمحاكمة، وأُعدم في يناير (كانون الثاني) عام 1793، وأصبح الجنرال نابليون بونابرت «القنصل الأول» في عام 1799، والإمبراطور في عام 1804، ووجدت أوروبا نفسها غارقة في الحروب من 1792 إلى 1815. باختصار لم تعد الحياة إلى ما كانت عليه قبل عام 1789.

الولايات المتحدة قد لا يكون لديها ثورة الآن، لكننا بالتأكيد نعيش في أوقات ثورية. وإذا لم نكن نراها على هذا النحو، فذلك لأن التغطية الإخبارية والحوارات اليومية على حد سواء أصبحت عن عناصر غير بشرية. وبدلًا عن الحديث عن القادة أصحاب البصيرة أو الحشود الغاضبة، أصبحت الفيروسات، والأسواق، وتغير المناخ على ما يبدو هي التي تشكل الأحداث اليوم. يبدو التاريخ وكأنه خارج أيدينا.

يتخيل الناس أحيانًا أن ثورات الماضي حدثت كما خطط لها ونفذها الثوريون الذين يتمتعون بالوعي الذاتي، لكن هذا نادرًا ما يحدث، إن كان ذلك ممكنًا أصلًا. وبدلًا عن ذلك فإن الثورات هي فترات يندمج فيها فاعلون اجتماعيون لديهم أجندات مختلفة (الفلاحون الذين يسرقون الأرانب، وسكان المدينة الذين ينهبون أكشاك دفع الرسوم، والمشرعون الذين يكتبون الدستور، والباريسيون القلقون الذين يبحثون عن أسلحة في قلعة الباستيل) مع كوكبة أو مجموعة مستقرة بدرجة أكبر أو أقل. إن الدرس التحرري والأهم على الإطلاق المستخلص من الثورة الفرنسية هو أن الناس يصنعون التاريخ. وبالمثل فإن الإجراءات التي نتخذها والخيارات التي نتبناها اليوم ستحدد المستقبل الذي ينتظرنا، والذكريات التي ستشكل ماضينا.

من السهل عقد المقارنات بين الأشهر الأولى من الثورة الفرنسية ولحظتنا الحالية. فأنتوني فوسي، خبير الأمراض المعدية الذي غالبًا ما يهمشه الرئيس دونالد ترامب أو يتجاهله، هو أشبه بجاك نيكر، وزير المالية الشهير في عهد لويس السادس عشر. كتب عالم الرياضيات والفلكي جان سيلفان بايلي في مذكراته: إن إقالة نيكر في أوائل يوليو (تموز) عام 1789 اعتُبِر على نطاق واسع بمثابة كارثة: «كان الأمر مثل فقدك أبيك».

والزيادة الأخيرة في مبيعات الأسلحة والذخيرة الأمريكية تعيد إلى الذاكرة الباريسيين الذين اقتحموا قلعة الباستيل على أمل العثور على الأسلحة والبارود. (وأطلقوا بالمصادفة سراح حفنة من الأفراد المسجونين هناك، لكن هذا لم يكن المقصد الأصلي للجماهير). فالصراع بين المدينة، والولاية، والمسؤولين الفيدراليين حول عمليات الإغلاق المرتبطة بفيروس كورونا المستجد توازي مباشرة الثورات البلدية التي وقعت عام 1789، وكان لها قادة في بعض المدن سرعان ما أعلنوا ولاءهم للجمعية الوطنية الجديدة، في حين ظل قادة المدن الأخرى موالين للهياكل القديمة للسلطة الملكية المطلقة، وأطيح بالعُمد وأعضاء البلديات الأخرى بعنف.

إن إمكانية عقد هذه المقارنات بسهولة بين بداية الثورة الفرنسية وحال الولايات المتحدة اليوم لا يعني أن الأمريكيين كُتب عليهم أن يروا عهد الإرهاب، أو أن ديكتاتورية عسكرية مثل ديكتاتورية نابليون تلوح في الأفق. ولكن ما يعنيه هذا الأمر أن كل شيء متاح للجميع. فيمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تنفجر أو تنهار تحت أي ضغط خارجي وتناقضاته الخطيرة، أو يمكن إعادة تصور الأمور وإعادة صياغة الهدف منها.

 الحياة لن تعود إلى طبيعتها بالنسبة لنا أيضًا؛ لأن معايير العقود الماضية لم تعد قابلة للاستمرار بالنسبة لأعداد ضخمة من الأمريكيين. ففي أسبوع واحد في شهر مارس (آذار)، قدم 3.3 مليون عامل أمريكي مطالبات جديدة للحصول على إعانات بطالة. وفي الأسبوع التالي أقدم 6.6 مليون آخرين على فعل الشيء نفسه. وعانى الأمريكيون من الطبقة المتوسطة الذين وضعوا مدخرات تقاعدهم في سوق الأسهم في الآونة الأخيرة من خسائر فادحة.

وحتى قبل حدوث جائحة فيروس كورونا – تستدرك الكاتبة – كان لدى الأمريكيين السود في المتوسط ​​7% فقط من ثروة البيض (الأمريكيون الأصليون، أقل من ذلك). واستمر تزايد عدد الوفيات بين الأمريكيين البيض غير اللاتينيين بسبب تعاطي المخدرات، والانتحار، وشرب الكحول. وهناك ما يقرب من 2.5 مليون شخص مسجون. أما الثقة في المؤسسات القائمة (بما في ذلك المجمع الانتخابي والكونجرس) فضئيلة بالفعل. فهل من الأمان الذهاب لشراء مواد البقالة في أثناء الجائحة؟ وهل يجب علينا ارتداء الأقنعة؟ لا أحد يعرف من يصدق.

ثورة المستهلك وعصر التنوير

شهد القرن الثامن عشر – مثل الأربعين سنة الماضية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية – فترة مميزة من التحول الاقتصادي، والاجتماعي، والتقني. وأطلق المؤرخون على ما حدث في هذا العصر اسم «ثورة المستهلك»؛ حيث كان للسلع رخيصة الثمن نسبيا المصنوعة في بريطانيا والصين تأثير كبير في ذلك الوقت. وفي الثمانينات من القرن ذاته (1780)، كان أربعة أخماس الأسر من الطبقة العاملة في باريس يمتلكون أكثر من 10 أطباق في دواليبهم، وأكثر من نصفهم يمتلكون ساعات ذهبية (مقارنة بالعشرينيات من القرن ذاته، حيث كانت نسبة 20% فقط هم من يمتلكون أطباقًا، و5% فقط من لديهم ساعات ذهبية).

في ذلك الوقت، ظهرت العديد من الأشكال الإعلامية الجديدة – كالروايات المعاصرة، والمطبوعات التي يسهل استنساخها مرارًا، والصحف الدعائية الخاصة بالأسواق والمتاجر الكبرى – كما ظهرت العديد من الأماكن كالمقاهي، ومكتبات استعارة الكتب، والمحافل الماسونية، وأيضًا ظهرت بعض الفضاءات الافتراضية كـ«جمهورية الآداب» و«الرأي العام» لمناقشة وبحث هذه الأعمال.

ومع تنوع مصادر المعلومات وانتشارها؛ أحست مصادر السلطة القائمة منذ القدم – الملكية والأرستقراطية والكنسية – بالخوف من فقدان زمام الأمور وارتدت إلى الرجعية. في الوقت نفسه استمرت التحولات الطويلة الأمد التي قامت على أساسها هذه الإبداعات الاجتماعية والثقافية – مثل ازدهار الإمبراطوريات الأوروبية عبر البحار، وظهور الاستعمار الاستيطاني، وتصدير معدن الفضة بكميات مذهلة من أمريكا الجنوبية والوسطى، وتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي – بوحشية أكبر من أي وقت مضى. وبِيع أكثر من 6 ملايين أفريقي كعبيد في القرن الثامن عشر، وهي الفترة التي لا يزال البعض يسميها «عصر التنوير».

 «في صيف عام 1789 بعد أن هاجم الفلاحون القصور الفرنسية الإقطاعية وتعهد الثوريون بـ«إلغاء الامتيازات»، شعر العديد من أعضاء النخبة أن عالمهم انهار فجأة. والحقيقة أن عالمهم كان قد تفكك منذ عقود». واليوم وكما حدث في عام 1790 ينتهي نظام قديم من خلال اضطرابات عنيفة. فحتى قبل أن يدفعنا فيروس كورونا المستجد إلى إلغاء الرحلات الجوية وحظر الدخول، كان نشطاء المناخ يخبروننا بضرورة تغيير أنماط السفر الخاصة بنا. بل حتى قبل إصدار الحكومة قرارات بإغلاق المنشآت التجارية غير الأساسية، كان التسوق عبر الإنترنت وتسليم المنتج في اليوم نفسه يعيدان تشكيل تجارة التجزئة بسرعة، بينما كانت المخاوف البيئية ومكافحة الاستهلاك تُحدِث ثورة في مجال صناعة الأزياء.

وتسببت هذه الجائحة وأزمة الصحة العامة الناجمة عنها في إعادة تقييم محمودة ومفاجئة، شهدت اعترافًا بالدور الهام الذي يقوم به طوال الوقت عمال النظافة، والعاملون في مجال الرعاية، وبائعو متاجر البقالة، وسائقو توصيل الطلبات. قد لا تبدو هذه التغيرات مجتمعة وكأنها ثورة، لكن الثورات الحقيقية هي تلك التي لا يمكن لأحد التنبؤ بها.

إن الرجال والنساء الذين صنعوا الثورة الفرنسية – وهي الثورة التي استطاعت في وقت قصير وعصيب إلغاء تجريم الهرطقة (الإلحاد)، والتجديف (الطعن في الدين)، والسحر، واستبدلت بواحدة من أقدم النظم الملكية الأوروبية جمهورية تقوم على أساس حق الاقتراع العام للذكور، وحق الطلاق بدون خطأ، وتسهيل حق التبني، واعتناق مبدأ المساواة أمام القانون، ولفترة قصيرة من الوقت على الأقل كفلت التوظيف، والتعليم، والمعيشة باعتبارها من حقوق الإنسان الأساسية – لم يكن لديهم نموذجًا يُحتذى، ولا خططًا مسبقة، ولا منصة متفق عليها مسبقًا.

ذكر المؤرخ لين أ.هنت، من جامعة كاليفورنيا، بأنهم وصلوا لهذه المبادئ أثناء مضيهم في مسيرتهم. مع ذلك، ولأكثر من قرنين من الزمان، ظلت مبادئ سياستهم المرتجلة سمات مميزة لثورتهم وهي: السيادة المعلنة، والرموز المبتكرة، والنشيد، والحرب. تضيف الكاتبة: «مع ذلك، في ظل مفترق الطرق الذي يواجهه الأمريكيون اليوم، نحن بحاجة إلى تقليد الثوار الفرنسيين، ليس في محصلة ثورتهم، وإنما في طاقتهم، وابداعهم، وتفاؤلهم».

إن البشر مسؤولون عن الكثير من المساوئ التي أصابت عالمنا اليوم، مثلما هم مسؤولون أيضًا عن كل ما يمكن أن يكون جيدًا. وعلينا أن نتحمل المسؤولية. وفي ضوء فهمنا المتأخر للأحداث بعد وقوعها، قد تبدو الثورة مجرد حدث فردي، لكن الثورات لا يُنظر إليها من هذا المنطلق. وإنما يجب التفكير فيها على أنها فترة ممتدة يفقد فيها روتين الحياة اليومية وطقوسه المعتادة معناه. إنها حقا ظروف مقلقة للغاية، ولكنها أيضًا تعد إحدى أكثر فترات الإبداع خصوبة. وفي الوقت الذي يحتمي فيه أغلب الأمريكيين في منازلهم من تهديد الفيروس الذي وصل البلاد مؤخرًا، ويعّرض آخرون حياتهم للخطر لمجابهة هذا التهديد، يمكننا جميعًا أن نحزن على الثوابت التي تلاشت، ولكن يمكننا أيضًا أن نعمد إلى خلق فرص جديدة. وإذا كان لنا أن نعلن أن هذه اللحظة هي لحظة ثورة؛ فيجب إعلانها ثورة للعمل الإنساني.

* أستاذة التاريخ في جامعة إنديان، اشتهرت بمؤلفاتها عن الثورة الفرنسية:

**نشر هذا المقال تحت عنوان :

The Revolution Is Under Way Already

الكاتب  Rebecca L. Spang

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى