شوؤن دولية

ما التداعيات المحتملة لأزمة سقف الدين وتخلّف أميركا عن السداد؟

ما التداعيات المحتملة لأزمة سقف الدين وتخلّف أميركا عن السداد؟

مرة أخرى، تواجه الولايات المتحدة أزمة حول رفع سقف الديون، لكنها هذه المرة “الأكثر صعوبة (..) وتنذر بكارثة”، بحسب وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، وربما تقود إلى تخلف أكبر قوة اقتصادية في العالم عن سداد التزاماتها بحلول الأول من حزيران المقبل. وفي حال تحقق هذا السيناريو (التخلف عن السداد)، فإن التداعيات “الكارثية” ستتخطى حدود الولايات المتحدة، وستحدث هزة اقتصادية عالمية.

فما سقف الدين؟

هو الحدُّ الأعلى للمال الذي يمكن للحكومة الأميركية اقتراضه من أجل تمويل أجهزة الحكومة، وتلبية التزاماتها المالية. ويقوم الكونغرس الأميركي بتحديد هذا السقف، وآخر مرة رفع فيها كانت في العام 2021، عندما وافق الكونغرس على رفع سقف الدين إلى 31.38 تريليون دولار.

ولأنَّ الحكومة الفيدرالية تعاني غالباً عجزاً في الميزانية، نظراً لأنها تنفق أكثر مما تحصل عليه عن طريق الضرائب والعائدات الأخرى، فإنها مضطرة لاقتراض كميات كبيرة من المال لسداد التزاماتها. وتشمل هذه الالتزامات تمويل شبكة برامج الضمان الاجتماعي، والفوائد المترتبة على ديون الحكومة، إضافة إلى أجور العاملين في القوات المسلحة.

ولا يعني رفع سقف الدين السماح للحكومة بسن برامج جديدة للإنفاق، وإنما يعني ببساطة السماح لها بالاستمرار في الإنفاق على البرامج التي سبق للكونغرس أن أقرَّها بالفعل، وذلك بحسب ما ذكره معهد “بروكينجز” الأميركي.

وبلغت الحكومة سقف الدين رسمياً في 19 كانون الثاني الماضي، ما دفع وزارة الخزانة لاستخدام تدابير استثنائية، من أجل الاستمرار في سداد التزامات الحكومة، وتفادي التخلُّف عن سداد الديون. وتشمل هذه التدابير التضحية مؤقتاً باستثمارات حكومية معينة في سبيل تمكين الحكومة الفيدرالية من الاستمرار في سداد فواتيرها.

وفقاً للدستور الأميركي، يجب أن يأذن الكونغرس للحكومة بالاقتراض. وقد بدأ الكونغرس في تنظيم هذه العملية عندما أصدر خلال الحرب العالمية الأولى “قانون سندات الحرية الثانية لعام 1917” لمنح وزارة الخزانة مزيداً من المرونة لإصدار سندات الديون وإدارة الشؤون المالية الفيدرالية.

وبدأ سقف الدين يأخذ شكله الحالي في العام 1939، عندما قام الكونغرس بدمج حدود مختلفة تم وضعها على أنواع مختلفة من السندات في سقف دين واحد، في ذلك الوقت، تم تحديد الحد الأقصى للدين بمبلغ 45 مليار دولار.

وعلى الرغم من إنشاء “سقف الدين” لجعل الحكومة تعمل بشكل أكثر سلاسة، إلا أنَّ العديد من صانعي السياسة يعتقدون أنه أصبح مشكلة في حد ذاته، مع عرقلته قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها.

وطالبت وزيرة الخزانة جانيت يلين بإلغاء سقف الدين بالكلية، لكن الرئيس بايدن أكد أنه لن يدعم هذه الخطوة، وفقاً لما نقلته صحيفة “بوليتيكو” الأميركية.

أجمالي الدين الأميركي

في كانون الثاني 2023، بلغ إجمالي الدين القومي في الولايات المتحدة 31.4 تريليون دولار، متجاوزاً سقف الدين الأعلى البالغ 31.381 تريليون دولار.

وسجَّلت الحكومة الأميركية متوسط عجز يقارب تريليون دولار كل عام منذ 2001، حيث أسهم 4 رؤساء و10 دورات للكونغرس وحربان، في زيادة الدين العام، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية الناجمة جزئياً عن القرارات المتعلقة بالسياسات التي اتُخذت منذ أجيال.

أشكال الدين العام

بصورة عامة، هناك العديد من الأشكال للدين العام الأميركي، لكن أبرزها وأكثرها شيوعاً الفواتير والأوراق النقدية والسندات. وتختلف هذه الديون أيضاً من ناحية موعد استحقاق سدادها، حيث تتراوح من بضعة أيام إلى 30 عاماً، كما تتفاوت أيضاً في مقدار الفائدة التي يجب على الحكومة دفعها للدائنين.

ولأنَّ الحكومة الأميركية لم تسجل فائضاً في الميزانية منذ 2001، فهذا يعني أنها كانت مضطرة للاستدانة كل عام لتغطية العجز في مواردها، وتمويل عملياتها.

تداعيات عدم رفع سقف الدين أو تعليقه

إذا استخدمت الحكومة جميع تدابيرها الاستثنائية ونفدت منها السيولة النقدية، فلن تكون قادرة على إصدار ديون جديدة، أي أنها لن تستطيع إصدار سندات جديدة للمقرضين والمستثمرين في مقابل الحصول على الأموال. وإذا عجزت الحكومة عن تحصيل أموال جديدة، فهذا يعني أنه لن يكون لديها ما يكفي من المال لدفع فواتيرها، بما في ذلك الفوائد والمدفوعات الأخرى التي تدين بها لحملة السندات، ورواتب العسكريين ومستحقات المتقاعدين.

لا أحد يعرف بالضبط ماذا سيحدث إذا وصلت الولايات المتحدة إلى هذه النقطة، لكن الحكومة يمكن أن تتخلَّف أيضاً عن سداد ديونها إذا كانت غير قادرة على سداد المدفوعات المطلوبة لحملة سنداتها، بكل ما يمثله ذلك من تداعيات على الاقتصاد.

التداعيات على الاقتصاد الأميركي

يحذر الاقتصاديون من آثار مدمرة في حال عجزت الحكومة الأميركية عن الوفاء بالتزاماتها وسداد ديونها نتيجة لاستمرار الخلافات بشأن رفع سقف الدين. وحتى في حالة عدم التخلف عن السداد، فإنَّ بلوغ سقف الدين من شأنه أنْ يعيق قدرة الحكومة على تمويل عملياتها، بما في ذلك نفقات الدفاع الوطني.

وتشمل التداعيات المحتملة للوصول إلى الحد الأقصى خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، ففي العام 2011 أدَّت الخلافات بين أوباما والجمهوريين بشأن سقف الدين إلى إقدام وكالة “ستاندرد آند بورز” على خفض التصنيف الائتماني لأميركا للمرة الأولى والوحيدة على الإطلاق.

كما تشمل التداعيات المحتملة زيادة تكاليف الاقتراض للشركات وأصحاب المنازل على حد سواء، وانخفاض ثقة المستهلك، ما قد يصدم السوق المالية الأميركية ويدفع الاقتصاد إلى الركود.

وقدَّر الاقتصاديون في بنك “جولدمان ساكس” أنَّ تخطي سقف الدين من شأنه أن يوقف على الفور حوالي عُشر النشاط الاقتصادي الأميركي، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز”.

وحذَّر مركز الأبحاث الأميركي “Third Way” من أنَّ تخطي سقف الدين الذي يؤدي إلى التخلف عن السداد يمكن أن يتسبب في خسارة 3 ملايين وظيفة، ورفع أسعار الفائدة بما يكفي لزيادة الدين القومي بمقدار 850 مليار دولار.

التداعيات على الأسواق العالمية

ويرى خبراء أنَّ تخلف الولايات المتحدة عن السداد نتيجة لعدم رفع سقف الدين أو تعليقه قد ينشر الاضطراب في الأسواق المالية العالمية، وذلك نتيجة لارتباط اقتصادات العديد من الدول حول العالم بالدولار الأميركي. وعزَّزت الجدارة الائتمانية لسندات الخزانة الأميركية الطلب على الدولار الأميركي منذ فترة طويلة، ما أسهم في تعزيز قيمته ومكانته كعملة احتياطية في العالم.

لكن أي اختلال للثقة في الاقتصاد الأميركي، سواءً بسبب التخلف عن السداد أو عدم اليقين المحيط به، قد يؤدي إلى قيام المستثمرين ببيع سندات الخزانة الأميركية وبالتالي إضعاف الدولار.

ولأن أكثر من نصف احتياطيات العملات الأجنبية في العالم يتم الاحتفاظ بها عبر الدولار الأميركي، فإن الانخفاض المفاجئ في قيمة الدولار يمكن أن يؤدي بالتالي إلى خفض قيمة هذه الاحتياطيات وبالتالي الإضرار بالاقتصادات الأخرى.

سقف الدين .. حل أم أزمة؟

لم يكن سقف الدين في الماضي قضية جدلية كما هو الآن، فخلال الجزء الأكبر من القرن الماضي، مثَّل رفع “سقف الدين” إجراءً روتينياً إلى حد كبير في الكونغرس. وكلما عجزت وزارة الخزانة عن دفع فواتير الحكومة، تصرَّف الكونغرس بسرعة وبالإجماع في بعض الأحيان لزيادة الحد الأقصى للأموال التي يمكن أن تقترضها الحكومة.

ومنذ العام 1960، رفع الكونغرس سقف الدين 78 مرة، كان آخرها في العام 2021، علماً بأنَّ 49 من هذه الزيادات تم إقرارها في ظل رؤساء جمهوريين، و29 تحت إدارات ديمقراطية.

في العام 2011، بدأ فصل جديد من الجدل حول سقف الدين عندما أفضى الخلاف حول الإنفاق بين الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما والجمهوريين في الكونغرس إلى طريق مسدود، مسبباً اضطرابات كبيرة في السوق الأميركية، حتى تم التوصل في النهاية إلى اتفاق لرفع السقف قبل يومين فقط من التاريخ الذي قدرت فيه وزارة الخزانة نفاد الأموال.

ومع تزايد الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة على مدى العقد الماضي، أصبح التصويت لرفع سقف الدين مسألة خلافية، حيث يطالب الجمهوريون في الكونغرس بشكل متزايد بخفض الإنفاق مقابل دعمهم لرفع سقف الدين.

ويتعلَّق الموقف من رفع سقف الدين بالفلسفة الاقتصادية للحزبين الجمهوري والديمقراطي، فبينما يميل الجمهوريون إلى الحد من دور الحكومة وتقليص الإنفاق العام، يدعم الديمقراطيون مزيداً من الإنفاق الحكومي لا سيما في بعض المجالات مثل الرعاية الصحية، والضمان الاجتماعي.

وعلى الرغم من أنَّ رفع السقف لا يعني السماح بالمزيد من الإنفاق، إلا أنَّ الاستمرار برفعه دون قيود قد يعطي انطباعاً بتشجيع المزيد من الإنفاق، أو على الأقل الرضا بمستويات الإنفاق القائمة، وهو ما يعارضه الجمهوريون الذين يصرون على ربط أي زيادة في سقف الدين بتخفيضات في الإنفاق، واعتماد إجراءات أخرى لخفض التكاليف.

وظهرت هذه الخلافات جلية في الوضع الحالي، حيث وافق مجلس النواب الأميركي، بفارق ضئيل أواخر نيسان الماضي، على مشروع قانون لرفع سقف الدين يتضمن تخفيضات شاملة في الإنفاق خلال السنوات العشر المقبلة.

ومن شأن مشروع قانون مجلس النواب أن يزيد سلطة الاقتراض بمقدار 1.5 تريليون دولار أو يمدها حتى 31 آذار المقبل، أيهما يأتي أولاً، ما يثير احتمال إجراء جولة أخرى من المفاوضات خلال الحملة الرئاسية لعام 2024.

ويقلص مشروع القانون الإنفاق إلى مستويات 2022 ثم يضع حداً للنمو عند 1% سنوياً، ويلغي بعض الحوافز الضريبية المتعلقة بالطاقة المتجددة ويشدد متطلبات العمل ببعض برامج مكافحة الفقر.

ومن غير المتوقع أن يتجاوز مشروع القانون مجلس الشيوخ، وحتى لو تم تمريره هناك فسيعترض عليه الرئيس جو بايدن مستخدماً حق النقض (الفيتو)، مع إصراره على زيادة حد الديون دون شروط.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى