أقلام وأراء

ماجد كيالي يكتب عن نقص الدولة والمواطنة في خطابات الكيانات السياسية العربية

ماجد كيالي *- 25/5/2021

يلفت الانتباه في خطابات معظم الكيانات السياسية (والأيدلوجية) العربية غياب الدولة، كمبنى وكمعنى، من توجهات معظم التيارات والأحزاب السياسية العربية، كما من أدبيات معظم المفكرين والسياسيين الذين اشتغلوا على قضايا السياسة والفكر السياسي في الساحة العربية؛ لاسيما في النصف الثاني من القرن المنصرم.

طبعاً، يمكن إحالة ذلك الأمر إلى أسباب كثيرة، ضمنها ضعف التراث الفكري في المجال السياسي، وغياب تقاليد المشاركة السياسية في منطقة خضعت قروناً طويلة لسيطرة الإمبراطورية العثمانية، وبعدها لحقبة الاستعمار الغربي. كما يمكن إحالته أيضاً، لاستعصاء سبل الحداثة الفكرية والاجتماعية والسياسية في المنطقة العربية، بواقع استمرار البنى القبلية/ البطركية والاثنية والمذهبية والطائفية، والتباس الهويات، على حساب التمحور من حول الدولة الناشئة والتماهي معها. كذلك فإن ظهور التحدي الذي تمثله إسرائيل، لشعوب هذه المنطقة وحكوماتها، سهل على القوى السائدة تأبيد سيطرتها، وإزاحة القضايا الأخرى، بدعوى التركيز على مواجهة إسرائيل.

وبديهي فإن انبثاق الدولة العربية الراهنة، من قاعدة عشائرية، أو من مؤسسة الجيش، جعلها تفتقر لحاملها الاجتماعي الطبيعي المفترض (أي البرجوازية الوطنية والفئات الوسطى)؛ بل وأسهم في تهميش هذا الحامل. وكما هو معلوم فقد انشغلت معظم الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية في الساحة العربية، في تلك الفترة، بشعارات ومقولات التحرير والوحدة والاشتراكية، ولكنها لم تشتغل لا على مسألة الديموقراطية، ولا على فكرة الدولة، باعتبارها حامل عملية التغيير وأساسها.

الأنكى من ذلك أن هذه التيارات لم تنظر إلى الدولة العربية القائمة من منظور الشرعية التمثيلية، أو الدستورية، وإنما نظرت إليها من منظور ما يسمى الشرعية الجماهيرية، أو من منظور الشرعية (أو اللاشرعية) القومية أو الدينية. هكذا، فإن الأحزاب والتيارات السائدة حينها كانت ترى في الدولة القائمة مجرد محطة عابرة على طريق تأسيس الدولة القومية الواحدة، أو الدولة الإسلامية، أو الدولة الاشتراكية الطبقية؛ ما أضعف تلك التيارات وأضعـف شـرعـيـة الدولة في آن معاً.

وفي كل الأحوال فقــد كان من نتائج ذلك أن معظم الأحــزاب والتـــيــارات تعامــلت، فــي خطابـاتــها وعلاقاتها، مع الدولة العربية/ السلطوية، بنوع من النفاق والمداهنة، وهو ما نشهده حتى الآن، في مفارقة على غاية من الغرابة، حيث تبدو هذه الخطابات على غاية في الثورية، في المسائل الوطنية والقومية وحتــى الديموقراطية، لكنها تبدو ناكصة، أو ملتبسة، حين يتصل الأمر بالموقف من السلطة أو من الدولة القائمة، أو من المطالبات الشعبية المتعلقة بالحقوق والحريات والتنمية.

الآن، ومنذ العقد الأول من هذا القرن (الحادي والعشرين) تحديداً، يبدو أن المسألة الديموقراطية احتلت مكانة محورية في الخطابات التغييرية العربية، بعد أن انحسرت مكانة الخطابات المتعلقة بالمسألة القومية والخطابات اليسارية المتعلقة بمسألة العدالة الاجتماعية (أو الاشتراكية)، لأسباب داخلية وخارجية؛ بحيث باتت مسألة الديموقراطية بمثابة مخلص بالنسبة الى التيار القومي أو التيار اليساري. وقــد بـيـنـت تجربـة السنـوات الماضيـة أن استـعــصــاء المسألـة الديموقــراطـيــة فـــي الواقع العربي، وعلى الصعيدين السلطوي والمجتمعي (أيضاً)، لا يقل عن الاستعصاء المتعلق بالمسألتين القومية والاجتماعية.

طبعاً، ثمة اجتهادات كثيرة، أيضاً، أحالت ذلك الاستعصاء (الديموقراطية كما القومي والاجتماعي) إلى طبيعة البنية الاجتماعية العربية، وتقليدية الفكر العربي، وعدم التمييز بين الديني والدنيوي، أو بين العلم والدين، كما ثمة من أحال ذلك الأمر إلى العوامل الخارجية، وضمنها الاحتلالات والتدخلات الغربية في الشؤون العربية.

هكذا، وعلى أهمية كل هذه العوامل، فإن معظم الاجتهادات التي باتت تركز على فكرة الديموقراطية (وهي جد محقة) باعتبارها عتبة ضرورية للنهوض بالواقع العربي، لم تعالج إلى الدرجة المناسبة مسألة العلاقة بين السلطة والدولة، أو مسألة غياب الدولة، في الدولة العربية الراهنة؛ وطبعاً فثمة اجتهادات على هذا النحو ولكنها ظلت قليلة ونادرة.

ومما يؤسف له حقاً أن معظم الكتابات السائدة لم تبحث في واقع الدولة/ السلطة العربية الراهنة، ماهيتها، ومكانتها القانونية، ومصادر شرعيتها، وكيفية تجديدها لذاتها، وعلاقتها بمجتمعها، ومدى التمييز بين السلطات فيها، وكيفية إدارتها للشأن العام وللموارد العامة.

وبمعنى آخر فإن الدولة، باعتبارها دولة مؤسسات وقانون ومواطنين (ونحن هنا لا نتحدث عن شكل النظام السياسي)، هي سابقة على الديموقراطية، فلا يمكن أن تتحدث عن التأسيس لديموقراطية في غياب هكذا دولة بمعنى الكلمة، أو في ظل وجود مجرد سلطة. وقد أكدت التجارب التاريخية عموماً، بأن الدولة هي الأساس، أما شكل النظام السياسي فهو ما تحدده المدخلات والتوازنات والحراكات والتطورات الثقافية والاجتماعية والسياسية في بلد معين؛ مع التأكيد على أن الديموقراطية التمثيلية تضفي قوة استقرار وفاعلية على الدولة المعنية.

على ذلك فإن استعصاء التغيير في العالم العربي إنما يتمثل أساساً بغياب الدولة (بمعنى الكلمة)، باعتبارها مؤسسة، وليس باعتبارها مجرد سلطة، وباعتبارها دولة قانون ومواطنين. هكذا، فنحن هنا لا نتحدث عن الديموقراطية، وإنما نتحدث عن أهمية قيام الدولة، باعتبارها معبر العالم العربي نحو الحداثة والتحديث، نحو العقل والعقلانية، نحو السياسة والمشاركة السياسية.

ويستنتج من ذلك أن الجهود يجب ان تتركز أولاً وقبل كل شيء على إعادة الاعتبار للدولة، أو تأسيس الدولة الحديثة في واقعنا العربي، دولة المؤسسات والقانون والدستور، باعتبار ذلك مقدمة ليس للديموقراطية فقط، وإنما لأية تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية في الواقع العربي.

*ماجد كيالي –  كاتب سياسي فلسطيني .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى