أقلام وأراء

ماجد كيالي: على هامش أحداث القدس، العلمانية والديموقراطية كغطاء لإسرائيل الدينية والعنصرية

ماجد كيالي ٤-٦-٢٠٢٢م

هل فقدت إسرائيل رشدها؟ أم هل جنّت؟ هذا هو الانطباع الأولي لما حصل في حدثين كبيرين، ملحميين، تمثل الأول في تشييع شيرين أبو عاقلة (13/5)، شهيدة فلسطين والصحافة، إذ بدا أفراد قوات الأمن الإسرائيلية المدججون بالسلاح والدروع، من الرأس إلى أخمص القدمين، كأنهم بصدد خوض معركة حامية مع حملة نعش أبو عاقلة، من المشيعين، في مشهد مدهش، ومؤسٍّ، وغير مفهوم، لن ينساه العالم.

وعلى أي حال فإن هذا الحدث سيكون له أثره في إسرائيل، إذ إنه زعزع صورتها وكشفها على حقيقتها أمام الإسرائيليين أنفسهم وأمام العالم. حتى صحيفة “هآرتس” أقرت بذلك وكتبت في افتتاحيتها: “ما حصل يوم الجمعة في القدس في جنازة مراسلة “الجزيرة” شيرين أبو عاقلة… هو وصمة عار لدولة إسرائيل”. (هآرتس، 16/5). أما المحلل الإسرائيلي ايتمار آيخنر فكتب قائلاً: “أفراد الشرطة الذين هاجموا بالهراوات حملة نعش أبو عاقلة ضربوا أيضاً ما تبقى من شرعية دولية لنا”. (“يديعوت احرونوت”، 16/5).

اما الحدث الثاني، فكان في المعركة على العلم الفلسطيني في القدس الشرقية (30/5)، إذ احتشد آلاف من قوات الأمن الإسرائيلية في المدينة المحتلة (1967) لحماية مسيرة نظمتها مجموعات من الإسرائيليين (30/5)، من اليمين القومي والديني المتطرف، التي هدفها اقتحام المسجد الأقصى، واستفزاز الفلسطينيين، وتأكيد سيادة إسرائيل على المدينة، وأيضاً لمنع الفلسطينيين، العزل من أي سلاح، من التعبير عن رفضهم لتلك المسيرة بمجرد حمل علمهم الوطني، وطبعاً فقد أدى ذلك إلى اشتباكات عنيفة بينت وحشية الإسرائيليين، وعصبيتهم، وشجاعة الفلسطينيين وإيمانهم بحقوقهم.

ثمة دلالات مهمة عديدة في هذين الحدثين، أو الملحمتين، الأولى، مفادها أن إسرائيل النووية، المتخمة بالسلاح، والقوية اقتصادياً، والتي تملك علاقات متميزة مع أقوى دول العالم، والتي تسيطر على الفلسطينيين من كل النواحي، ما زالت تعيش قلقاً وجودياً، وضمنه القلق من عدم قدرتها على تطويع إرادة الفلسطينيين. وهذا المحلل الإسرائيلي نداف شرغاي يعبّر عن هذه الحقيقة بقوله: “هذا هو قلب صهيون (القدس)، وعودة اليهود إلى هناك ستكون هي الصهيونية في أبهى حالاتها. (“إسرائيل اليوم”، 28/5) ويفهم من هذا الكلام أن ثمة شكاً بوجود إسرائيل، وبقدرتها على السيطرة، وكأنها لا تحتل القدس منذ 55 عاماً! في حين عبرت رفيت هيخت عن ذلك القلق على نحو آخر، إذ رأت أن “الانشغال المرضي بالأعلام… هو عرض لمرض طفولي صعب… عندما العلم لا يرمز إلى شراكة وأخوة بل إلى استفزاز وتطاول – فإنه رمز مسموم لحرب دموية وشيكة… من يشحن جسماً بكل هذا القدر من الأهمية والمشاعر، هو إنسان ليس لديه ثقة بنفسه وبوجوده. ولهذا – فإنه أيضاً إنسان خطير جداً.” (“هآرتس”، 28/5).

وبخصوص المعركة على العلم، في الحالين (التشييع والمسيرة)، وفي إطار الجدال الإسرائيلي من حول ذلك، دافعت صحيفة “هآرتس” في افتتاحيتها (يوم 28/5)، عن مشروعية ذلك، ضمن دفاعها عن طلاب فلسطينيين رفعوا علمهم في جامعة بن غوريون في يوم نكبتهم (15/5)، بل إنها ذهبت الى حد القول بأنه “يجب عدم فقدان هؤلاء الطلاب هويتهم أو إرثهم التاريخي. أي علم سيرفعونه في يوم النكبة؟ هل هو علم دولتهم التي تسببت بالنكبة؟. وكيف يجب عليهم الاحتفال بهذه الكارثة التي هرب بسببها معظم أبناء شعبهم أو تم طردهم وفقدوا بيوتهم وقراهم إلى الأبد؟ أن ينشدوا نشيد “هتكفاه”؟ أن يؤدوا التحية للجيش الإسرائيلي؟ رد الإدارة في الجامعة كان صائباً عندما أعلنت: “نحن نتفاخر بطلابنا على جانبي المتراس. هذه الرياح التي يجب أن تهب في الدولة بدلاً من الرياح السيئة والمتصاعدة للفاشية”. (“هآرتس”، 28/6).

أما الدلالة الثانية للحدثين، فتمثلت في إماطة اللثام عن إسرائيل، لتبدو على حقيقتها، كدولة مستوطنين، وكدولة دينية وعنصرية وعدوانية، وهذا كان واضحاً أمام شاشات العالم، إذ غابت أو ذابت، بكل معنى الكلمة، القشرة العلمانية والديموقراطية والحداثية، وغابت صورتها كضحية، وهي الصورة الأُثيرة على قلبها. وفي الواقع فإن الحدثين المذكورين أكدا مجدداً ما جاءت عليه تقارير عدد من المنظمات الأممية لحقوق الانسان، التي وصمت إسرائيل باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية، ليس فقط في الأراضي المحتلة (1967)، وإنما في ما يتعلق بمعاملتها الفلسطينيين في اراضي 48 من مواطنيها.

معلوم أن الحركة الصهيونية نشأت أواخر القرن التاسع عشر (وبعدها وليدتها إسرائيل عام 1948)، باعتبارها حركة قومية لليهود، ذات طابع علماني وديموقراطي وحداثي، لكن ذلك تأسس عملياً على تناقض كبير، إذ إن تلك الحركة اعتبرت أن هدفها هو تأمين “عودة” اليهود، شعب الله المختار، إلى “أرض الميعاد”. وفي ذلك فقد تمت مطابقة الدين بالقومية، باعتبارها اليهودية بمثابة قومية، علماً أن هذا مفهوم علماني، وحديث أصلاً، والأهم أن تلك الحركة القومية العلمانية تريد تنفيذ وعد الرب، في ما تراه “أرض الميعاد”، في استناد إلى الأسطورة التوراتية.

الدلالة الثالثة، تتمثل في ذلك الترابط الوثيق بين الجيش الإسرائيلي وعصابات المستوطنين المتطرفين، فهو الذي يحميهم، بل ويشكل درعاً لهم، في اعتداءاتهم على الفلسطينيين، بخاصة في الأرض المحتلة، وضمن ذلك في انتهاكاتهم لحقوقهم في القدس. مثلاً، ففي 10 تشرين الأول (اكتوبر) 1990، حاول متطرفون يهود من جماعة “أمناء جبل الهيكل”، وضع حجر أساس لما يسمى الهيكل الثالث في ساحة المسجد الأقصى، وعندما تصدى لهم المصلون أطلق جنود الاحتلال عليهم الرصاص، ما أدى إلى استشهاد 21، وإصابة 150 بجروح مختلفة، واعتقال 270 شخصاً. وتكرر ذلك في 23/9 (1996)، أي بعد إقامة كيان السلطة، في ما عرف بالاحتجاجات على حفر نفق تحت المسجد الأقصى، اذ قتل جنود الاحتلال 51 فلسطينياً، غير إصابة 300 بجروح. وفي مرة اخرى، وعلى خلفية حراسة 3000 جندي دخول آرييل شارون المسجد الاقصى (28/9/2000)، تم قتل 7 فلسطينيين وجرح 250 منهم، ما أدى الى اندلاع الانتفاضة الثانية (2000ـ2004). وقبل كل ذلك كان أحد الصهاينة تعمد إضرام النار في الجامع القبلي في المسجد الاقصى، وأحرق منبر نور الدين محمود (آب/اغسطس 1969). ويضاف إلى هذا السجل، أيضاً، ما قام به المستوطن باروخ غولدشتان، بفتح نيران رشاشه على المصلين في المصلى الإبراهيمي في الخليل (1994)، والتي راح ضحيتها 29 من الفلسطينيين من المصلين.

يستنتج من ذلك أن عصابات المستوطنين المتطرفين، ممن يطلق عليهم في إسرائيل ذاتها، تسميات مثل “الأعشاب الضارة”، أو “زعران التلال”، وممن يسمون أنفسهم بجماعة “تدفيع الثمن”، هم استمرار للعصابات الصهيونية التي عرفها الفلسطينيون قبل إقامة إسرائيل، مثل “الهاغاناه” و”إرغون” و”شتيرن”، التي كانت على شكل ميليشيا، وارتكبت مجازر بحق الفلسطينيين، فضلاً عن استهدافها الوجود البريطاني. كما أنها استمرار لعصابات المستوطنين المتعصبين والمتطرفين التي نشأت بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع (1967)، مثل: “غوش ايمونيم”، و”كاخ” و”كهانا حي” و”هاتحيا” و”أمناء جبل الهيكل”، مع حاخامات او شخصيات متطرفة مثل مائير كاهانا، وغيئولا كوهين، وموشيه ليفنغر وغرشون سلمون.

عموماً، فإن الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، هو على كل شيء، على الزمان والمكان، أي على الأرض والرواية التاريخية، والرموز، وهذا يفسر أن إسرائيل، بكل جبروتها، تواصل معركتها مع علم الفلسطينيين، إذ يجري التحضير لسن قانون يحظر رفع العلم الفلسطيني! فحتى صحيفة “هآرتس”، رأت فيه مشروعاً “غير منطقي، فالعلم الفلسطيني هو علم الشعب الفلسطيني، وينبغي الأمل في أن يكون في المستقبل علم دولة فلسطينية تقام إلى جانب دولة إسرائيل. كما أن العلم الفلسطيني بشكل رسمي هو علم السلطة الفلسطينية، السلطة التي أقيمت بقوة اتفاق سياسي مع إسرائيل. يدور الحديث عن رمز شرعي للسلطة، يعترف بها كل العالم، بما في ذلك إسرائيل… السلطة الفلسطينية ليست دولة عدو. إن الموقف المعادي من العلم الفلسطيني يدل إلى عملية تطرف يجتازها المجتمع الإسرائيلي… إن الهوس بالعلم الفلسطيني يمكن أن يفسر أنه كما يبدو يذكر الإسرائيليين بخطيئة الاحتلال، التي يتنكرون لها… بقدر ما تواصل دولة إسرائيل محاولاتها التنكر لوجود الشعب الفلسطيني، رموزه، وعلمه، وتاريخه وتطلعاته للاستقلال، فإن الأمر لن ينجح”. (“هآرتس”، 30/5/2022).

على ذلك فإن هذا الجنون غير المفهوم للبعض ربما يكشف الطبيعية الحقيقية لإسرائيل الصلفة، من دون رتوش، أو من دون حجابات، إذ هي قالت أمام شاشات العالم: هذه أنا، هذه إسرائيل.

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى