أقلام وأراء

ماجد كيالي: سياسات بوتين كتهديد لمستقبل أوكرانيا وأوروبا وروسيا أيضاً

ماجد كيالي 24-09-2022

بدل أن ينزل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الشجرة التي صعد إليها بغزوه أوكرانيا (24/2)، إذا به يصعد إلى الأعلى مجدداً، بتلويحه، في خطاب له (21/9)، باستخدام كل ما في ترسانته من أسلحة (في إشارة إلى الأسلحة النووية)، رغم أن زخاروفا، الناطقة بلسان الخارجية، خففت من ذلك بادعاء أن بوتين لم يذكر الأسلحة النووية في خطابه؛ علماً أن ميدفيديف، الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس الأمن القومي، أكد أن المقصود يشمل الأسلحة النووية، ما يشي باضطراب الخطاب الروسي.

وفي الواقع، فإن بوتين وغيره من القادة الروس، منذ غزو أوكرانيا، لوّحوا مرات عديدة بالسلاح النووي، في محاولة لابتزاز العالم، وفرض ما تريده روسيا في أوكرانيا، على غرار ما جرى في جورجيا (2008) وما جرى في أوكرانيا ذاتها (2014).
في هربه إلى الأمام لم يكتف بوتين بتصعيد الحرب، والتلويح بالسلاح النووي، إذ اتخذ قرارين آخرين، الأول، الدعوة إلى التعبئة العامة الجزئية لتجنيد 300 ألف جندي (تعداد الجيش الروسي 1.130 مليون عسكري)، وتنظيم استفتاء في المناطق التي يسيطر الجيش الروسي على أجزاء منها (دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا) لضمها إلى الاتحاد الروسي. هكذا ففي حال التعبئة يتصرف بوتين كأن روسيا أرضاً وشعباً ملكية خاصة، ويتصرف في الاستفتاء كأن العالم من السذاجة بحيث تنطلي عليه قصة أن المناطق المعنية باتت جزءاً من روسيا، وأن قتال الأوكرانيين لاستعادتها، ومساعدة العالم لهم، يعدّ اعتداءً على روسيا ذاتها!
في الواقع، فإن الخطوات الثلاث تفيد بأن صاحب القرار في روسيا، أي الرئيس، يتصرف كمنفصم عن الواقع، أو كأن شيئاً لم يحصل في الأشهر السبعة الماضية، فهو لا يدرك مدى تخلف جيشه وعتاده ووسائل اتصاله، ولا يريد أن يعترف بأن جيشاً صغيراً استطاع استيعاب هجمته الأولى، وتكبيده خسائر فادحة بالأرواح والعتاد، فضلاً عن رده على أعقابه في بعض المناطق التي كان قد احتلها في الشهر الأول من الحرب.
يمكن أن نضيف إلى ذلك أن بوتين لم يقدّر تماماً حجم العزلة الدولية التي باتت تحيط بروسيا، بسبب الغزو، فثمة أربع دول فقط وقفت معه في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أشهر، هي بيلاروسيا وسوريا وكوريا الشمالية وإريتريا، ومع دول مثل هذه لا أحد يعرف ماذا سيربح، فحتى دول مثل الصين أو إيران فضلتا، آنذاك، النأي بالنفس وامتنعتا عن التصويت. أيضاً وفي مؤتمر قمة “شنغهاي” للتعاون، الذي عقد أخيراً في سمرقند، وُجهت له نصيحتان، من رئيسي أكبر دولتين يعتبرهما صديقتين له، هما الصين والهند، تفيدان بضرورة الحفاظ على سلامة أراضي الدول ووحدتها، وأن هذا ليس زمن الحرب؛ وهذا ما ظهر في عزلة روسيا في اجتماع مجلس الأمن الدولي، قبل أيام، إذ أكد المتحدثون، بمن فيهم وزير خارجية الصين، رفضهم الخطوات الروسية بشأن الاستفتاء، في تركيز على سيادة أراضي أوكرانيا ووحدتها.
لكن العزلة الأكبر التي لم يستوعبها بوتين، ولا يريد إدراكها، أتت من الدول الأوروبية التي فاجأته بموقفها الموحد والمتشدد ضد الغزو، وبسعيها، وقدرتها، على التحرر من الارتهان لإمدادات الطاقة الروسية، رغم الأثمان والصعوبات والتحديات التي تكتنف تلك العملية.
والمشكلة أن بوتين لا يدرك أن غزوه أوكرانيا يعتبر في إدراكات الأوروبيين خطراً يهدد أمنهم وسلمهم ونمط عيشهم، وقيمهم الديموقراطية الليبرالية، ما يفسّر استعدادهم لتحمل تبعات أو أثمان ذلك، علماً أن ألمانيا، وهي أهم وأكثر دولة كانت ترتبط بروسيا بارتباط وثيق، تقف اليوم في مقدمة المعسكر الأوروبي المناهض لغزو أوكرانيا، وفرض العقوبات عليها، لردعها وإجبارها على وقف الحرب وإنهاء الاحتلال والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
أما على الصعيد المباشر، فإن الرئيس بوتين، لم ير، أو لا يريد أن يرى، أن تلك الحرب بيّنت بالتجربة، في الأشهر السبعة الماضية، أن تفوق جيشه، من حيث العدد والترسانة العسكرية وعدد الجنرالات، لم يمكنه من حسم المعركة في أيام عدة، ولا في أشهر عدة، إذ تبين كل ذلك عن آلة متثاقلة ومتقادمة. 
والحقيقة فإن الجيش الأوكراني تمكن من الصمود، وصد الجيش الروسي، بالاستناد إلى عاملين أساسيين: الأول، امتلاكه سلاحاً متفوقاً، تكنولوجياً (بالقياس للسلاح الروسي). الثاني، توفر شبكة اتصال ومعلوماتية قوية ومستدامة وناجعة (وهذا ما ذكره الرئيس الروسي في خطاب إعلانه التعبئة الجزئية يوم 21/9)، فهذان هما العاملان اللذان حسما لمصلحة تمكين الأوكرانيين من استيعاب الهجمة الروسية، وردها، أو تحجيم نجاحاتها، بل واجبارها على التراجع في بعض المناطق. طبعاً، يمكن إحالة ذلك، أيضاً، إلى عاملي المعنويات والإدارة، أي صمود الشعب الأوكراني، وإصراره على مقاومة الغزو، وتعاطف الغرب معه (حكومات ومجتمعات)، وتوفر قيادة له استطاعت إدارة موارده البشرية والعسكرية بطريقة كفوءة. 
والحال فمشكلة بوتين انفصامه عن الواقع، وجموحه إلى طموحات تفوق إمكانات بلاده، نتاج تعظيم الذات، وتضخم تخيلاتها، فروسيا ليست من البلدان العشرة الصناعية، وناتجها القومي (1.7 تريليون دولار)، أقل من دولة كإيطاليا أو كوريا الجنوبية، رغم أن مساحتها أكثر بـ30 ضعفاً (17 مليون كلم2) وتمتّعها بثروات طبيعة هائلة (القوة الاقتصادية لألمانيا أكبر بثلاثة أضعاف والولايات المتحدة بـ15 مرة مع الفارق بالتفوق العلمي والتكنولوجي)، وعلماً أن روسيا لا تصدر شيئاً للبشرية سوى ثروات طبيعية (نفط وغاز وقمح) مع أسمدة وأسلحة. 
ومشكلة بوتين أيضاً، أنه لم يتعلم الدرس، ولم يستوعب التجربة، ولا تجارب أمثاله في التاريخ، كحال معظم الحكام الفرديين، المستبدين، الذين يرون أنفسهم فوق الشعب، والواقع، كصناع للتاريخ. هذا يشبه نابليون من بعض الوجوه، ولكنه يشبه أكثر صدام حسين، لدى قيامه باحتلال الكويت، لضمها إلى العراق (1990)، وكلنا نعرف كل ما تلى ذلك من ويلات وكوارث، في العراق وفي المشرق العربي عموماً، ولنأمل أن ينزل بوتين عن الشجرة كي لا يكون مصير روسيا على هذا النحو، من أجل شعبي روسيا وأوكرانيا، ومن أجل خير البشرية في العالم. 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى