أقلام وأراء

ماجد كيالي: حربا 48 و 67 اللتان أسّستا إسرائيل الأولى والثّانية

ماجد كيالي 17-6-2023: حربا 48 و 67 اللتان أسّستا إسرائيل الأولى والثّانية

ثمة حربان رئيسيتان، بين مجمل الحروب الإسرائيلية ـ العربية، تحتلان مكانة مركزية، وتأسيسية، في تاريخ إسرائيل والمشرق العربي، الأولى حرب 1948، ونجم عنها قيام إسرائيل كدولة وكمشكلة، ونشوء قضية فلسطين، والثانية حرب 1967، ونتج منها احتلال باقي أرض فلسطين، مع الجولان السورية وسيناء المصرية، بما عناه ذلك من تدشين إسرائيل قوّة إقليمية عظمى، وهذا يفيد بأن باقي الحروب إنما هي هوامش لهاتين الحربين، لأن أياً منها لم تغيّر من واقع وجود إسرائيل، أو مكانتها في هذه المنطقة حتى الآن، ومن مختلف النواحي.

لنلاحظ صعوبة الحديث عن تلك الحروب، إذ لا رواية رسمية عنها، ولا وثائق تعرِض حوادثها، ولا إحصائيات تشرح موازين القوى والخسائر الناجمة عنها، وكيف حصل ما حصل، ما يعني أن مصطلح “الحروب العربية-الإسرائيلية” هو تعبير مجازي، وينطوي على تلاعب وتورية، إذ إن معظم تلك الحروب شنتّها إسرائيل من طرف واحد (باستثناء حرب 1973).

على الأرجح أنه تم صكّ ذلك المصطلح للاستهلاك والتوظيف، لا سيما من قبل إسرائيل، إذ روّجت لنفسها أمام العالم باعتبارها ضحيّة بريئة وسط غابة من “الذئاب”، لجلب التعاطف والدعم لها، سياسياً وعسكرياً ومالياً، وأيضاً لإظهار منعتها وقوّتها على الصعيد الداخلي. أما النظام العربي، فقد وظّف هذا المصطلح لإثبات براءته، وتكريس شرعيته من جهة، ولتعزيز شرعيته الداخلية من جهة أخرى، بما في ذلك طمس مسألة الحريات، وتأخير عمليات التنمية.

وفي الحقيقة، فإن أي تفحّص لمجريات تلك “الحروب” سيبعث على الدهشة بشأن حقيقة ما جرى، وسيثير الشكّ في شأن أهلية النظم المعنيّة، وصدقيّة ادعاءاتها الوطنية، ففي الحرب الأولى (1948) مثلاً، جرى الترويج لهجوم جيوش عربية عدة على إسرائيل، فيما كانت الدول العربية بالكاد حصلت على استقلالها، ولا تمتلك جيوشاً حقيقية، بخاصة أن ما حشدته لم يزد عن 25 – 30 ألفاً، فيما تراوَحَ عديدُ القوات الصهيونية في مراحل القتال المختلفة، بين 60-100 ألف مقاتل. وفي كل الأحوال، فقد تُرك الفلسطينيون لمصيرهم، من دون تسليح، بدعوى أن تلك “الجيوش” العربية ستقوم عنهم بتلك المهمة في غضون أيام! وبالنتيجة، ربحت إسرائيل تلك الحرب ومعها 77 في المئة من أرض فلسطين، التي تم تشريد معظم شعبها.

هنا يجدر الانتباه إلى أن إسرائيل هذه، التي كانت قامت للتو، استطاعت في تلك الحرب احتلال 5 آلاف كلم مربع من حصّة الفلسطينيين في قرار التقسيم (1947)، ما زاد حصّتها – بموجب القرار المذكور – من 55 إلى 77 في المئة من أرض فلسطين، والخمسة آلاف كلم مربع هذه توازي مساحة الضفة والقطاع، التي عادت إسرائيل واحتلتها عام 1967، وتسعى القيادة الفلسطينية منذ عقود لإقامة الدولة المستقلة فيها.

أما الحرب التأسيسيّة الأخرى (1967)، فقد شنّتها إسرائيل على ثلاث دول (مصر وسوريا والأردن)، اثنتان منها لها مكانة مركزية في العالم العربي، وكان في كل منهما قيادة ذات نزعة قومية (مصر وسوريا). وقد نجم عن هذه الحرب تدمير البنية العسكرية لجيوش تلك الدول، مع خسارة بشرية تقدّر بنحو 15-20 ألف عسكري، في مقابل 800 فرد من الجيش الإسرائيلي. وفي تلك الحرب، ازدادت مساحة إسرائيل إلى خمسة أضعاف، مع احتلال باقي الضفة وغزة والجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية.

ما تنبغي ملاحظته هنا أيضاً، أن الحربين الرئيستين اشتغلت إحداهما عكس الأخرى بالنسبة إلى الأطراف المعنيين، فقد نجم عن الأولى صعود القومية العربية (الناصرية والبعثية)، التي تُوّجت بلا منازع على عرش مصر وسوريا والعراق، فيما تمّ لجم الوطنية الفلسطينية، بتقويض “حكومة عموم فلسطين” (1948) وبحرمان الفلسطينيين من إقامة دولة لهم في الضفة وغزة، إذ ضُمت الأولى إلى الأردن، وأُتبعت غزة إلى الإدارة المصرية. وفي ما يخص الحرب الأخرى (1967)، فهي قَوّضت الفكرة القومية ونزعت قداستها، فيما أطلقت الوطنية الفلسطينية، المعطوفة على فكرة المقاومة المسلحة. واللافت أن الحرب الأولى التي مزّقت وحدة العالم العربي، والتي زلزلت أحوال الفلسطينيين، لم تؤثّر على الوضع العربي بالقدر ذاته الذي شكّلته الحرب الأخرى.

عليه، فقد كانت للحرب الثانية تأثيرات متناقضة على إسرائيل، أيضاً، التي كانت تأسست في الحرب الأولى، إذ نتج منها تحقيق التطابق بين “أرض إسرائيل” و”شعب إسرائيل” (بحسب التعبيرات الإسرائيلية)، باحتلال الضفة الغربية (مع غزة)، كما نتجت من ذلك المطابقة بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية، ما أدى إلى صعود التيارات اليمينية والدينية والشرقية في إسرائيل، وانحسار مكانة التيارات العلمانية واليسارية والأشكنازية، الأمر الذي أوصل حزب ليكود إلى الحكم لاحقاً.

وهكذا، فرغم عوائد الاحتلال الاقتصادية، إلا أن ذلك لم يكن كله إيجابياً بالنسبة إلى إسرائيل، إذ إنه وصمها بطابع الدولة الاستعمارية العنصرية، وأدى إلى كسر احتكارها مكانة الضحية، وأثار الشكوك حول معنى الديموقراطية فيها، لا سيما مع الانتفاضة الأولى التي حدثت بعد عقدين من الاحتلال. وفي المقابل، فإن هذا الاحتلال، الذي وحّد “أرض إسرائيل”، وحّد أيضاً الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر، وعزّز هويتهم الوطنية.

ورغم أن تلك الحرب نقلت العرب من الصراع على وجود إسرائيل إلى الصراع على شكل وجودها، أي من ملف 48 إلى ملف 67، فإنه وضع إسرائيل في مأزق جديد، فهي باتت في مواجهة ما تسميه الخطر الديموغرافي (الفلسطيني)، الذي يهدد طابعها كدولة يهودية، ويطرح التساؤلات حول حقيقتها كدولة ديموقراطية، حتى إزاء اليهود فيها، على ما نشهد هذه الأيام، هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى فقد وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة دائمة مع الوطنية الفلسطينية التي تسعى إلى تجسيد ذاتها في دولة في الضفة والقطاع، واستعادة حقوق الفلسطينيين التي أقرها المجتمع الدولي، وضمنها حق العودة للاجئين. وفي تلك الغضون، وجدت إسرائيل نفسها في تناقض فريد في نوعه، فهي لا تستطيع ضمَّ الأرض المحتلة، التي تعتبرها “أرض الميعاد” خاصّتها، ولا هي راغبة بالتخلّي عنها، في ما بات يشكّل واحداً من أهم التشقّقات في المجتمع الإسرائيلي ونخبه السياسية والاقتصادية والثقافية.

وفي الواقع، فإن كل ما يتعلّق بتلك الحروب يثير الدهشة ويبعث على التساؤل، وقائعها وإحصائياتها والأساطير التي نسجت حولها، وكل ذلك يؤكد أن إسرائيل إنما تفوّقت وتغلّبت – رغم امتلاكها جيشاً صغيراً – بفضل تميّزها في مجالي القيادة والإدارة والإرادة السياسية وطريقة صنع القرار فيها ومستوى تأهيلها لمواردها البشرية، وليس فقط بفضل جيشها.

وباختصار، فإن الحروب العربية-الإسرائيلية هي أقرب إلى أسطورة جرى تصنيعها في الإذاعات والشعارات، مثل أساطير أخرى، وهذا يستمر مع الحروب على قطاع غزة، إذ تقوم فصائل فلسطينية باستعارة خطابات الأنظمة عن انتصارات بعيدة من الواقع، بدعوى فرض قواعد اشتباك، ووحدة ساحات، وتوازن ردع، فيما إسرائيل تواصل حصارها على قطاع غزة، واستنزافها له، بالتوازي مع محاولاتها الإمعان في تهويد القدس، والاستيطان في أراضي الضفة الغربية، وقتل حلم الفلسطينيين ولو على مستوى دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967، وهو ما يمهد لإسرائيل الثالثة، التي يحاول اليمين الإسرائيلي القومي والديني إرساء أسسها الآن، مع حكومة المتطرفين التي تضم نتنياهو وبن غفير وسيمتريتش.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى