أقلام وأراء

ماجد كيالي: أزمة الفلسطينيين أزمة في القيادة والمعارضة والبديل

ماجد كيالي 06-08-2022

أضحت مصطلحات سياسية، مثل: “الأزمة” و”البديل” و”الإجماع الوطني” و”المشروع الوطني” و”إعادة البنّاء” و”الانتخابات” و”الوحدة الوطنية” بمثابة لازمة في الخطابات السياسية الفلسطينية، على جبهتي القيادة والمعارضة (الفصائلية والمدنية)، للخروج من حال التكلس والترهل والتصدع أو الانهيار في واقع الكيانات السياسية الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية). بالتوازي، باتت الساحة الفلسطينية، أيضاً، تعج بالمبادرات المتوالية والمتبعثرة، بحيث لا تكاد نشهد ولادة مبادرة حتى نشهد أفولها، وكل ذلك لا يعبر عن حيوية ما مفترضة في الساحة الفلسطينية، الأكثر كثافة وغنى وخبرة في العالم العربي. وفِي الحقيقة فإن معظم تلك المبادرات مسكونة بالإحباطات، والإخفاقات، والحسابات أو القيود الذاتية والموضوعية، يفاقم من ذلك:

أولاً: غياب الحراكات الداخلية والعلاقات الديموقراطية في الكيانات السياسية الفلسطينية السائدة، وغلبة العلاقات الزبائنية، والروح السلطوية، داخلها وفي ما بينها، مع الأخذ في الاعتبار القاعدة او الكتلة الاجتماعية العريضة التي تستند اليها القيادة أو الطبقة السياسية المهيمنة في الحقل السياسي الفلسطيني مع نحو ربع مليون متفرغ يعيلون أكثر من مليون من الفلسطينيين، لا سيما في الضفة والقطاع.

ثانياً: نحن ازاء حركة وطنية تقادمت وأضحت في مرحلة الشيخوخة، بعد 57 عاماً على نشوئها، وبعدما استهلكت الإنجازات الوطنية التاريخية التي حققتها في بداياتها.
ثالثاً: إن تلك الحركة تعتمد في مواردها على الخارج وليس على شعبها، أي أن ذلك يجعلها “متحررة”، وتالياً متسلطة، في علاقتها بشعبها ولكن مرتهنة إزاء الخارج.
رابعاً: ما يعزز قوة الطبقة السياسية المهيمنة فلسطينياً واقع تمزق وتشتت المجتمع الفلسطيني وتوزعه على دول عدة وخضوعه لسياسات وقيودات مختلفة، الأمر الذي يضعف ويشتت عوامل القوة لديه ويهمش قدرته على الضغط على قيادته وفصائله.
خامساً: تحول الحركة الوطنية الفلسطينية الى سلطة تحت سلطة الاحتلال، لجزء من الشعب الفلسطيني، على حساب الشعب الفلسطيني كله، وقضيته وهويته الوطنية وسرديته التاريخية الجامعة، التي أسست لتلك الهوية وللكيانية المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، أي أن الفلسطينيين يتعاملون مع سلطة بأجهزة أمنية وعسكرية وموارد مالية ووسائل هيمنة وسيطرة (في الضفة وغزة)، وكلها تضعف قيام مجتمع مدني أو تحد من حراكاته، والواقع في دول اللجوء أكثر صعوبة وتعقيداً، يفاقم ذلك تهميش منظمة التحرير، وافتقاد الفلسطينيين لكيان سياسي جامع ولمشروع وطني جامع، وظهور أولويات أو أجندات مختلفة لكل تجمع من تجمعاتهم.هذا بخصوص البديل، لكن ما يصعب من تخليق ذلك البديل، وما يضعف من تلك المبادرات أن معظمها لديه أزمة في فهم مصادر الأزمة الوطنية الفلسطينية، وتالياً ثمة أزمة في وعي ماهية البديل المناسب، المطابق، أو المطلوب.يمكن طرح عدة ملاحظات حول هذا الموضوع، أهمها:أولاً: إن أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية ظهرت بداية في منتصف السبعينات من القرن الماضي، أي بعدما وصلت تلك الحركة إلى سقفها الممكن، أو بعد تحقيقها الإنجازات الوطنية المناطة بها، وفقاً للمعادلات التي نشأت عليها، بواسطة الكفاح المسلح من الخارج مع الاعتماد على حاضنة عربية. ففي تلك المرحلة، أي بعد 15 عاماً على انطلاقتها، استطاعت الحركة الوطنية الفلسطينية استنهاض الشعب الفلسطيني المجزّأ والمشتت وتوحيده، وتأسيس كيانه الوطني (منظمة التحرير)، وتعزيز هويته الوطنية الجمعية، ووضع قضيته في سلم الأجندات العربية والدولية، وتحقيق الاعتراف العربي والدولي بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد له (عبر قرار قمة الرباط ووصول ياسر عرفات إلى منصة الأمم المتحدة). ولنلاحظ هنا أن الفصائل الفلسطينية بعد ذلك لم تضف أي إنجاز يذكر، إذا استثنينا تجربة الانتفاضة الشعبية الأولى (1987 ـ 1993)، في الضفة وغزة، التي هي في شكلها الأساسي نتاج لتجربة الداخل، أكثر مما هي نتاج لفعل الفصائل في الخارج؛ من دون التقليل من علاقات التأثير المتبادل.ثانياً: على ذلك فإن الأزمة الوطنية الفلسطينية لم تبدأ اليوم، وهي لا تتوقف على أفول تجربة الكفاح المسلح في الخارج، بعد الخروج من لبنان (1982)، ولا على توقيع اتفاق أوسلو (1993)، أو الانقسام الفلسطيني (2007)، أو انسداد حل الدولتين، أو اهتزاز الشرعية، وإنما هي أعمق وأشمل من كل ذلك، فهي أزمة كيانات، ورؤى، وعلاقات، وأشكال كفاح، فاقم منها تحول الحركة الوطنية الفلسطينية، من حركة تحرر إلى سلطة (تحت الاحتلال)، لجزء من شعب في جزء من أرض مع جزء من حقوق، وهذا ليس تفصيلاً بسيطاً، أو طارئاً، لذا فهذا يعني أن الفلسطينيين بحاجة لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني وليس إلى تجديد قديم لبنى وأفكار وأشكال عمل باتت مستهلكة ومفوّتة.ولذا ووفق ما تقدم فإن معضلة الحركة الوطنية الفلسطينية لم تكن في تبني هذا الخيار السياسي والكفاحي أو ذاك، وإنما في طريقة إدارة تلك الخيارات، وفي العطب البنيوي في الكيانات الفلسطينية (طبعاً إضافة الى الواقع الموضوعي)؛ مع ملاحظة أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تراجع ولا مرة تجربتها لا في الأردن ولا في لبنان ولا في الأرض المحتلة، لا التجربة العسكرية ولا السياسية، لا تجربة المقاومة ولا الانتفاضة ولا المفاوضة، لا بناء المنظمة ولا بناء السلطة.ثالثاً: إن الافتقاد للرؤية السياسية الجامعة، أو الهدف الجامع، هو أحد الأسباب المؤسسة للأزمة الوطنية الفلسطينية، ولتصدع اجماعات الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم. ومعلوم أن الحركة الوطنية الفلسطينية انطلقت قبل احتلال إسرائيل الضفة وقطاع غزة (في العام 1967)، وكان الهدف الجامع هو تحرير فلسطين، وهذا استمر حتى بعد الاحتلال إلى منتصف السبعينات حيث بدأ التحول نحو البرنامج المرحلي، بداية من الدورة 12 للمجلس الوطني الفلسطيني (1974). من الواضح هنا أن التحول الى سلطة، مع تغيير السردية الوطنية المؤسسة لهوية الفلسطينيين، وكينونتهم السياسية، القائمة على النكبة وإقامة اسرائيل وولادة مشكلة اللاجئين (1948)، الى سردية تفيد بأن الصراع مع إسرائيل بدأ باحتلال الضفة وغزة (1967)، وهو خطاب السلطة، هو تحول عبثي ومجاني، وأدى الى تفكيك مفهوم وحدة الشعب الفلسطيني وتفكيك قضيته، لذا فإن أي مبادرة يفترض أن تنطلق من رؤية تستعيد التطابق بين وحدة الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، وأن تبني أي حل على قيم الحرية والكرامة والمواطنة، وعلى قاعدتي الحقيقة والعدالة، ولو النسبيين، طالما ليس بالإمكان حسم الشكل الدولتي؛ أي أن الجدل بخصوص دولة أو ربع دولة أو اثنتين أو ثلاث فهو خارج الواقع المنظور كما بينت التجربة.رابعاً: ثمة ملاحظة أساسية أخرى مفادها أن الحركة الوطنية الفلسطينية استدرجت مبكّراً إلى مربع تجزئة قضيتها، وبالتالي تجزئة رؤيتها لإسرائيل، بحيث باتت كدولة احتلال واستيطان في الضفة وغزة فقط (وكدولة عنصرية إزاء الفلسطينيين جميعاً)، كأن ذلك بدأ مع احتلال 1967، وليس مع إقامتها منذ 1948 على هذا الشكل، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية إزاء الشعب الفلسطيني، في أي مكان، قبل احتلال 1967 وبعده.في المقابل، ظلت إسرائيل تتعامل مع الفلسطينيين كشعب عدو وفقاً لاستراتيجية واحدة، قبل قيامها وبعده، قائمة على الاستعمار والاقتلاع والاستيطان والتمييز العنصري، عبر سياسات ونظم قانونية مختلفة، لتجزئتهم وتفكيك قضيتهم وتذويب حقوقهم، وظلّت تتعامل مع فلسطين كوحدة متكاملة، أو كوطن قومي لليهود حتى بعد اتفاق أوسلو، في حين انطلى ذلك على الحركة الوطنية الفلسطينية التي باتت تتصرف وفقاً لما تقدم، تبعاً لأوهامها بإمكان قيام دولة لها في الضفة وغزة، بواسطة المفاوضات، وهو أمر بات من المهم إدراكه في نقاشات الأزمة والبديل.من ذلك يمكن الاستنتاج أن الفلسطينيين إزاء صراع صعب ومعقد ومركب، ومتداخل مع الأوضاع العربية والدولية، لكن لا بد لهم من إدراكات مطابقة لهذا الواقع، ولحال أزمتهم الوطنية، بغض النظر عن الرغبات، في سعيهم الى بناء البديل في العمل الوطني الفلسطيني، الذي لا بد من أن يشمل الرؤى والكيانات وأشكال العمل والعلاقات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى