أقلام وأراء

لماذا تغيب أوروبا عن مسرح الشرق الأوسط …؟

مهند عبد الحميد – 28/9/2021

منذ بيان البندقية الصادر عن الاتحاد الأوروبي في العام 1980، انبنت فكرة إيجاد حل سياسي للقضية الفلسطينية استناداً لقطب دولي أوروبي ساهم في بلورة أفكار الحل، وشجع القيادة الفلسطينية على الدخول في ذلك المعمعان السياسي. كان الاتحاد الأوروبي يحث القيادة الفلسطينية باستمرار على قبول القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي ويساعد في تهيئة الوضع الفلسطيني للتناغم مع الشرعية الدولية كمرجعية للحل. وازداد الموقف الأوروبي حضوراً بالتوافق مع موقف الاتحاد السوفييتي السابق المؤيد لحل سياسي استناداً للشرعية الدولية. غير ان الموقفين الأوروبي والسوفييتي المدعمين بتأييد دول عدم الانحياز – أكثرية دول العالم – لم يتمكنا من أحداث اختراق للرؤية الأميركية المتماثلة الى حد كبير مع الرؤية الإسرائيلية، خلافاً لذلك جاءت اتفاقات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية برعاية أميركية، ومن بعدها اتفاقات أوسلو ووادي عربة لتكرس جميعاً الاحتكار الأميركي لحل الصراع بالمواصفات الإسرائيلية الأساسية.

من وجهة نظر دول الاتحاد الأوروبي ارتبط دعم عملية سياسية تنهي الاحتلال وتمكن الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره بما في ذلك إقامة مؤسساته ودولته المستقلة، بتعزيز مصالح أوروبية في هذه المنطقة الحيوية من جهة، وتحقيق انسجام مع مبادئ الديمقراطية والقانون وحقوق الإنسان والسلام المطروحة كناظم لعلاقات الاتحاد الأوروبي مع الآخرين. غير ان التجربة قالت ان دول الاتحاد التي قدمت الدعم السياسي والمالي للشعب الفلسطيني حرصت على عدم ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية ودبلوماسية جدية على إسرائيل، وعلى عدم إغضاب إسرائيل، ليس بسبب تحالفها ودعمها التاريخي انطلاقاً من مصالح مشتركة، وإنما لأنها تخشى من ممارسة ضغوط مضادة ومتاعب من قبل لوبيات يهودية صهيونية وأقصى اليمين في تلك البلدان. ليس هذا وحسب بل عملت إسرائيل على توظيف الدعم الأوروبي للسلطة الفلسطينية للتخلص من أعباء الاحتلال من جهة ودمرت البنية التحتية التي دعمها الاتحاد الأوروبي أثناء الانتفاضة الثانية من جهة أخرى. وراهناً تقوم دولة الاحتلال بتدمير المنشآت التي يمولها الاتحاد الأوروبي في المنطقة «ج «وبإزالة ما يتعارض مع عناصر الحل التصفوي الإسرائيلي للصراع.

كما أن التسليم الأوروبي بالدور الأميركي المهيمن على العملية السياسية لعب دوراً هاماً في إضعاف وتهميش الموقف الأوروبي. وإذا كان العمل الأوروبي المشترك مع الإدارات الأميركية المتعاقبة سجل تقاطعات في المواقف، فإن حالة الشلل السياسي التي اتسم بها موقف الاتحاد الأوروبي اثناء طرح صفقة القرن من قبل إدارة ترامب لم يكن مفهوما. صحيح ان دول الاتحاد لم تقبل الصفقة لكنها لم تقدم بديلاً لها، وتوقفت عن تقديم أي مبادرة سياسية، بما في ذلك محاولة العمل ضمن الرباعية الدولية التي تتشارك مع روسيا وهيئة الأمم المتحدة في مواقف داعمة لحل سياسي استنادا لقرارات الشرعية الدولية. وكان من شأن الإحجام عن المبادرة، انتقال الاتحاد الأوروبي إلى هامش العملية السياسية التي انفردت بها إدارة ترامب.

وثمة دور سلبي للنظام العربي الذي انفصلت أكثرية دوله عن القضية الفلسطينية، فقد ساهمت مواقف عربية رسمية في إضعاف اهتمام الأوروبيين، والأسوأ ساهمت في إزالة دور المصالح من المعادلة. الجدير ذكره هنا ان  فرنسا الديغولية  تراجعت عن موقف الانحياز الكامل لإسرائيل الى موقف متوازن من أقطاب الصراع، بسبب المصالح الفرنسية الناشئة داخل البلدان العربية في ذلك الوقت، وكان لها ما أرادت، غير ان مفاعيل المصالح ذوت وتلاشت وصولاً الى شطب الحافز، ومكافأة العديد من الدول العربية لدولة الاحتلال، بمعزل عن إنهاء الاحتلال، أو حتى وقف الاستيطان.

الموقف الأوروبي من القضية الفلسطينية لا ينفصل عن الموقف من الانتفاضات الشعبية العربية، الذي كان اختباراً حقيقياً لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها. كانت الخيارات المطروحة أمام الأوروبيين، خيار دعم الانتفاضة الشعبية السلمية وأهدافها المشروعة في الحرية والديمقراطية والخبز والكرامة، وخيار دعم بقاء نظام مستبد تابع او إعادة إنتاج نظام مستبد وتابع. السياسة الأوروبية المتبعة طوال الانتفاضات خدمت بقاء نظام مستبد أو إعادة انتاج نظام مستبد. من خلال إطلاق يد او عدم الاعتراض على دعم دول البترو والغاز دولار الخليجية للثورة المضادة ودعمها للنظام المستبد ومناهضتها للثورة السلمية، ومن خلال تأييدها المباشر وغير المباشر لسيطرة الإسلام السياسي على الحكم بعد اختطافه للانتفاضات، وانحازت أيضاً للجيوش التي اختطفت الانتفاضات فيما بعد. انحازت دول أوروبية عديدة للمصالح على حساب المبادئ التي يتم التغني بها، فأبرمت صفقات الأسلحة على حساب حقوق الانسان والديمقراطية والحريات، وفي المحصلة انحازت الدول الأوروبية للأنظمة. المشترك في الموقف الأوروبي من فلسطين والانتفاضات العربية هو الانحياز للمصالح في اتفاقية التجارة المبرمة مع إسرائيل، والتي لم تفعّل البند المعطل لبنود في الاتفاق عندما تحدث انتهاكات لحقوق الإنسان، كجرائم الحرب المتكررة ضد الشعب الفلسطيني، والانحياز للشركاء التجاريين وغض النظر عن الانتهاكات الفادحة التي ترقى الى جرائم حرب بحق المواطنين. ولم تتوقف العديد من الدول الأوروبية عند حقيقة ان أنظمة الاستبداد تنتج الهجرة الى أوروبا التي ضاقت ذرعاً بالمهاجرين. وبدلاً من تقييد الأنظمة والضغط عليها لاستيعاب مواطنيها،  تبرم الصفقات معها ومع دول أخرى كتركيا لتقييد الهجرة وقمع المهاجرين، وتقفل المنافذ أمام عبورهم إليها.

تغليب المصالح على المبادئ والقيم أفضى الى أزمة اللاجئين وأزمة اليمين المتطرف في اوروبا، وعزز الجشع والإرهاب والتطرف والكراهية. وفي غياب مصالح تستطيع فلسطين تأمينها لحفز دول أوروبا على دعم عملية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. فإن كل حديث عن استئناف العملية السياسية عبر مؤتمر دولي او عبر الرباعية الدولية، أو عبر إطلاق مبادرات أوروبية، سيكون بلا جدوى. وهذا يقودنا الى تغيير في أحوالنا، إعادة بناء داخلية، واستقطاب جديد، وحلفاء حقيقيون، حلفاء يجري التعرف عليهم كل يوم وسبق وان تعرفنا عليهم أثناء هبة القدس والعدوان على غزة. تعرفنا على دول صديقة كإيرلندا ولوكسمبورغ ومالطا وتعرفنا على ديمقراطيين ويساريين في الكونغرس، والأهم تعرفنا على حراك «حياة السود مهمة» وعلى منظمات المقاطعة وعلى أكاديميين وفنانين، ومسيرات عشرات آلاف في مدن أميركية وبريطانية وأوروبية. العالم يتغير، وهو عالم الشعوب والقوى المناهضة للاحتلالات والاستعمار الجديد والاستبداد. ومن داخل هذا العالم نستطيع مواصلة مسيرة التحرر بقوة، نستطيع، إذا ما التقى التغيير الداخلي الفلسطيني مع التغيير العالمي الذي يكتسب زخماً يوماً بعد يوم.  

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى