أقلام وأراء

لبنان اللادولة .. أفول الحذاقة المركنتلية وصعود الهويات المتفسّخة

صقر أبو فخر 24/11/2021

قُبيل المباراة التي جرت في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري في صيدا جنوب لبنان بين منتخب لبنان لكرة القدم ومنتخب إيران في سياق تصفيات غرب آسيا لكأس العالم، ارتفعت الابتهالات والأدعيات لدى بعض اللبنانيين لنصرة الفريق الإيراني على الفريق اللبناني، وبادرت جهاتٌ مجهولةٌ ومكشوفةٌ معًا إلى تأليف لجنة لاستقبال الفريق الايراني وللاحتفاء بفوزه المنتظر. وقد أثار هذا السلوك استنكارًا لا يُستهان به لدى معظم الفئات اللبنانية، خصوصًا المعنية برياضة كرة القدم. وقد فاز المنتخب الإيراني على المنتخب اللبناني في مباراةٍ بلا جمهور احتراسًا من إشكالاتٍ غير محسوبة في المدرجات. ويمكن المجازفة بالقول إن المنتخب اللبناني لو فاز على منتخب إيران لكنّا شهدنا تظاهرات صاخبة في بعض مناطق لبنان نكاية بأنصار إيران وبالشيعة. وبما أن المنتخب الإيراني هو الذي فاز، فقد تصرف أنصار إيران بحكمة كما يبدو، وغيّروا ترتبياتهم، فلم يسيّروا التظاهرات أو يقيموا الاحتفالات التهليلية كي لا يُتهموا بوطنيّتهم، وكي لا يستفزوا الطوائف الأخرى التي تعتقد أنها لبنانية خالصة فيما أنصار إيران من الشيعة هم أقل لبنانية، وأقل انتماءً إلى الوطن اللبناني.

الأمر نفسه حدث في سنة 1945، وإنْ في أحوال مختلفة تمامًا. ففي تلك السنة، وقبيل جلاء المحتلين الفرنسيين عن سورية ولبنان، وغداة إعلان استقلال البلدين في 1943، وكان لبنان لا يزال في أفئدة كثيرين جزءًا من سورية، جرت مباراة بكرة القدم على ملعب في منطقة المنارة في بيروت بين منتخبي سورية ولبنان، فتحمّس لبنانيون كثيرون للفريق السوري أكثر من حماسة السوريين لفريقهم، ونشبت معركة لبنانية – لبنانية بالأيدي جرّاء ذلك (أنظر: عبد الحميد الأحدب، لا رياضتهم رياضة ولا عروبتهم عروبة، صحيفة “النهار” اللبنانية، 2/12/2009). وموقف بعض اللبنانيين في سنة 1945 من المنتخب السوري أمر مفهوم تمامًا في تلك الحقبة؛ فلبنان في تاريخه وجغرافيته وتكوينه البشري جزءٌ من بلاد الشام، أو من سورية الطبيعية. وذلك الموقف إنما كان تعبيرًا عن تغليب الانتماء القومي على الانتماء المحلي، وهو انتماءٌ مستحدثٌ في أي حال. أما موقف بعض اللبنانيين من المنتخب الإيراني في عام 2021 فهو شأن مختلف تمامًا، لأنه أتى في سياق تهتّك الهوية الوطنية اللبنانية، وانحلال لبنان دولة جامعة لأشتات اللبنانيين وطوائفهم، وفي سياق تغليب العنصر المذهبي على الانتماء الوطني، وشتّان بين الموقفين.

الانشطار والازدواجية

تدلّ أجواء تلك هذه المباراة الرياضية، في السياق الذي جرت فيه، على انشطار انهدامي في الشخصية الجمعية اللبنانية، ما فتئ يتمدّد ويتسع ويتسخ، حتى بعد أن توقفت الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1990. أي أن اللبنانيين منذ 31 عامًا لم يتمكّنوا من ردم الهوة بين طوائفهم، وفشلوا في إرساء لبنان على هوية شاملة للجميع، حتى على الهوية العربية المنصوصة في اتفاق الطائف لعام 1989؛ فالهويات الطائفية أقوى وأعمق وأكثر جاذبيةً من الهوية الوطنية الجامعة. ولا ريب في أن انشطار الهوية بهذه الحدّة ناجمٌ عن ازدواجية الشخصية اللبنانية الموروثة منذ زمن سحيق. والازدواجية في الشخصية الجمعية موجودة لدى جميع الشعوب، ولدى أفرادٍ كثيرين أيضًا، لأن الهوية، فرديةً أَكانت أم جماعية، تتكوّن من طبقات متراكبة من الهويات الأولية والموروثة والمكتسبة، مثل الاسم والعائلة والدين والأفكار والأهواء والمصالح.. إلخ، وهي لا تجتمع إلى بعضها، بل يتراكب بعضها فوق بعض كالطبقات الصخرية والتكوينات الرسوبية، ولا تمحو أي واحدةٍ منها الأخرى، لكن الحديثة تطمر القديمة مؤقتًا أو تخفيها إلى حين. وتعبّر هذه الازدواجية عن نفسها في كل يوم بصورةٍ عجيبةٍ في لبنان؛ فالتغنّي بلبنان ومحبّة لبنان وأرضه وتاريخه والتبولة والفتوش والأرز هو تعبير عن العقل الباطني الذي يعكس ازدواج الشخصية قياسًا على الوطنية في أوروبا أو أميركا مثلًا. فالناس في تلك البلاد، وفي غيرها من البلدان أيضًا، قلّما يتحدثون عن الوطن؛ فهم لا يذكرونه بألسنتهم وإنما يخدمونه بأعمالهم، فيما يذكرونه بالألسنة في لبنان طوال اليوم، ويحرقون “سنسفيله” بسلوكهم وأعمالهم كل يوم.

نشرت صحيفة النهار في 31/3/2010 صورة لمجزرة في حق 23 شجرة أرز نادرة ودهرية في محمية كرم شباط في عكّار، فقُطع منها ما يزن ثلاثة أطنان. والأرزة هي شعار الدولة اللبنانية التي يتغنّى بقداستها لبنانيون كثيرون باعتبارها “أرز الرب” الوارد ذكره في الكتاب المقدّس، فيما يسخر منها غيرهم فيسميها “القرنبيطة”. ومن مظاهر الازدواجية التي شهدناها مئات المرّات منذ اندلاع الحركات الاحتجاجية في سنة 2019 أن وحداتٍ من الجيش اللبناني كانت تُدمي المتظاهرين، وتجرجر بعضهم إلى مراكز التوقيف والتحقيق، وكان المتظاهرون يمتدحون الجيش في الوقت نفسه ويشكرون لضباطه وقائده ما يفعلون. وفي معمان التظاهرات التي اندلعت في 17/10/2019 راحت الكوفية الفلسطينية تظهر على رؤوس المحتجّين وأعناقهم في جل الديب والزلقا والدورة، وهي أماكن محسوبةٌ على اليمين اللبناني المعادي تقليديًا للفلسطينيين. وحين سألتُ بعض الشبان المتظاهرين في محلّة الصيفي عن ذلك، أجابني بأنه لا يعرف أنها كوفية فلسطينية، وإنما هي مظهر اتّخذه شبان الجامعات، ثم رأيت ذلك الشاب يتجه إلى زملائه ويتحدث إليهم. وبانت علائم الاستغراب على وجوههم، وعمد بعضُهم إلى خلع الكوفية. وبعد انفجار مرفأ بيروت في 4/8/2020 تقاطر شبانٌ جامعيون فلسطينيون على منطقة الجميزة للتعبير عن تضامنهم مع سكان المنطقة، والتطوّع لإزالة الركام والحجارة والأتربة، فسمعوا ترحيبًا من كثيرين، واستهجانًا من كثيرين أيضاً، واستنكارًا من قلة.

والازدواجية مسألة عادية في مجتمعاتٍ كثيرة، لكنها في لبنان تصبح مقيتةً، لأنها مجللة بالعنصرية التي تطاول اللبنانيين أنفسهم، ولا سيما عنصرية أهل المدن ضد أبناء الأرياف. وهذا التغاير بين المدينة والريف أمر طبيعي بين جميع الشعوب، لكنه في لبنان يتّخذ أحيانًا مسلكًا قاتلًا ومتناحرًا، ويتسربل في معظم الأحيان بالكراهية. حتى إن الرئيس اللبناني تحت الاحتلال الفرنسي، إميل إدّة، لم يتورّع عن وصف أول رئيس للبنان “المستقل” بشارة الخوري بـِ “الجبلي الدخيل على بيروت” وبِـ “الجبلي الغشيم”، علمًا أن أصل آل إدّة كلهم من حوران، وهم نزحوا من تلك المنطقة الريفية المعروفة والمهمة جدًا في تاريخ بلاد الشام إلى نواحي جبيل في ما عُرف لاحقًا بلبنان، ومنها انساحوا إلى بيروت، وخلعوا أثواب الريف وصاروا متمدنين.

يصف كريمسكي في رسالة مؤرخّة في 16/11/1896 إحدى العائلات البيروتية الأرثوذكسية بالتالي: “راقبت بيوت الأغنياء من آل طراد. أفراد العائلة يرتدون الملابس الأوروبية، وكلهم يتحدّثون بالفرنسية في ما بينهم (…)، وفي المساء يجتمعون ويردّدون الأغاني المصرية” (أنظر نص الرسالة في : مسعود ضاهر، بيروت وجبل لبنان على مشارف القرن العشرين، بيروت: دار المدى، 1985). وفي أثناء الحملة الانتخابية للبرلمان اللبناني في سنة 2018 سُئل مرشح يُدعى ملحم طوق عن معنى اسمه، فزعم، بكل جرأة، أن أصل اسمه يعود إلى الإمبراطور الألماني فلهلم، وإن فلهلم صار ملحم بالعربية، وكان قصده أن يجد وشيجةً لاسمه بالغرب حتى لو كانت وسيلته إلى ذلك ساذجة وجاهلة ومبتذلة مثل هذه الوسيلة. والحقيقة أنْ لا علاقة البتة بين فلهلم وملحم، لأن ملحم اسم عربي خالص يعني كثير اللحم، وهو على وزن متعب ومنعم ومسلط ومقرن ومجحم. أما الإمبراطور فلهلم فقد عُرف لدى سكان سورية (بما في ذلك لبنان وفلسطين) باسم غليوم، وأخذوا عنه طريقة الشوارب المعقوفة.

الحَذاقة المركنتلية انتهت

يروي اسكندر رياشي أن الفرنسيين وأنصار الملك فيصل الأول في دمشق لم يستغربوا أو يُدهشوا البتة من أن “أسعد بك حيدر عضو في المؤتمر السوري ونجله عضو في اللجنة الاستشارية للبنان. وبالطريقة نفسها كان يوسف نموّر عضوًا في المؤتمر السوري، وشقيقه موسى بك نمور متربعًا عند الفرنسيين في بيروت، وعاملًا لهم في البقاع. وكان محمد سعيد حمادة، سيد الهرمل، عضوًا في المؤتمر السوري، وحفيده صبري بك حمادة يتدبّر أموره مع الفرنسيين. وجاء الإنكليز باسكندر بك عمّون على ظهر طرّاد، وجعلوه عاملًا سياسيًا لهم في لبنان، وجعل مقرّه العام في لوكندة السنترال على [ساحة] البرج، وعلى حساب صاحبة الجلالة طبعًا. وجاء الفرنسيون بأخيه داود بك عمّون عاملًا سياسيًا لهم، وجعل مقرّه العام في لوكندة نجّوم على الزيتونة، وعلى حساب الجمهورية الفرنسية الحسناء طبعًا” (راجع: اسكندر رياشي، قبل وبعد ورؤساء لبنان كما عرفتهم، دمشق: دار أطلس، 2006، ص 24 و25). والمؤتمر السوري العام، كما هو معروف، عقده في سنة 1920 أعيان من سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن، وانتخبوا الأمير فيصل ملكًا دستوريًا على سورية. أما اللجنة الاستشارية للبنان فكانت، في معظم أعضائها، معاديةً لفكرة الوحدة السورية. وعلى هذا المنوال، صاغ مجلس إدارة متصرّفية جبل لبنان الذي ألغاه جمال باشا، فور اندلاع الحرب العالمية الأولى، عريضة في مايو/ أيار 1919 يطالب فيها ببسط الحماية الفرنسية على جبل لبنان. ومجلس الإدارة هذا الذي عاد إلى الحياة غداة هزيمة تركيا في الحرب لم يلبث أن انقلب على مواقفه في 10/7/1920 ليتخذ قرارًا معاكسًا تمامًا ينصّ على استقلال لبنان عن فرنسا، والانضمام إلى المملكة العربية السورية، مع المحافظة على الامتيازات التي تمتع بها جبل لبنان إبّان عهد المتصرفية. ويكشف اسكندر رياشي أن ذلك الانقلاب في موقف مجلس إدارة جبل لبنان حدث بعد أن اشترى رياض الصلح عشرة من أعضاء المجلس الاثني عشر لمصلحة الملك فيصل بمبالغ ذهبية طائلة، دفعها إلى الوجيه البيروتي عارف النعماني، ليتولى بدوره تغيير مواقف أعضاء مجلس الإدارة، ونقض طلب الحماية الفرنسية، ومناصرة الوحدة السورية (راجع: اسكندر رياشي، المصدر السابق، ص28). وليست مستغربةً قط انقلابات الأعيان اللبنانيين بعد رَنِّ الفلوس، لكن المستغرب آنذاك، وما عاد مستغربًا اليوم، مواقف رياض الصلح الذي تولى والده رضا الصلح وزارة الداخلية في الحكومة الفيصلية الأولى في دمشق، وكان ابنه رياض عضوًا في حزب الاستقلال العربي، وهو الذي جعلته دمشق زعيمًا في لبنان. فقد انقلب رياض الصلح بدوره على مواقفه القومية، وصار من دعاة الكيانية. وفي هذا الميدان، يقول خالد العظم: “إن تمت الوحدة السياسية وانضم لبنان إلى سورية، فمَن يضمن لرياض الصلح رئاسة الحكومة في الدولة الموحدة؟ ومَن يؤمّن له فيها ما يتمتع به من نفوذ في لبنان؟ تلك هي العوامل التي جعلت من رياض الصلح زعيمًا لانفصال لبنان عن سورية بعد أن كان في جملة المنادين بوحدة البلاد العربية، والعاملين في سبيل تحقيقها” (مذكّرات خالد العظم، الدار المتحدة للنشر، بيروت، 1973، المجلد الثاني، ص 13).

تلك الحذاقة المركنتلية الموروثة من زمن حنون القرطاجني الخرافية انتهت مفاعيلها منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في سنة 1975. ومع ذلك، ما برحت تلك المركنتلية الذليلة تعيش بقوة الاستمرار، كالسيارة في الطريق المنحدرة. لكن، منذ سنة 2005 فصاعدًا، راحت أحوال لبنان تكشف نفسها، وتكشف المخبوء بالتدريج، وما عاد ستر الحقائق ينفع في حجب الوقائع، ولا في إخفاء الطعام تحت الأرائك. واكتشفنا في عام 2019، بصورةٍ لا يمكن دحضها على الإطلاق، أن لبنان لم يكن، في أيٍّ من مراحل تاريخه، منذ تأسيسه في سنة 1920 حتى خرابه في سنة 2020، دولة جديّة، بل دولة لها وظيفة، أي مساحة من الأرض تقيم عليها طوائف متناحرة حينًا ومتآلفة حينًا آخر؛ يتسالمون في حقب الازدهار ويتهارشون في حقب القحط؛ إنها حال “اللادولة” في أفصح صُورها. ويلوح لي أن اللادولة هي الحال الفضلى لإيران، ليكون لها نفوذ يتزايد بالتدريج. وهو نفوذٌ انصرف، في البداية، إلى فئاتٍ واسعةٍ من الشيعة الذين تطوّعوا لخدمة إيران لأسبابٍ عقيدية بالدرجة الأولى، أو لأسبابٍ سياسية، أو إلى كثيرين ممن التحقوا بخدمتها طلبًا لخيراتها. و”اللادولة” هي الطراز الأمثل لقوى سياسية لبنانية أخرى كثيرة ما برحت تعتقد أن لبنان إما أن يكون لها أو تحرقه. وتلك القوى المنحطّة لا تتردّد في خدمة دول، عربية وأجنبية، لا يهمها إذا انحلّ لبنان أو اندثر، خصوصًا بعدما ركدت ريحُه وخَبَتْ مصابيحه. لقد هرب إبليس من لبنان لأن طوائفه وأحزابه الطائفية وزعماءه الطائفيين وجماهيره الطائفية لم يتركوا له أي شيء كي يفعله، وجعلوا وطنهم “لا دولة”.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى