ترجمات أجنبية

كاونتربنتش – بقلم لورانس دافيدسون – القانون الدولي مقابل “التكرار الأبدي”

كاونتربنتش – بقلم لورانس دافيدسون* –  14/12/2020

قد يكون القرن الحادي والعشرين حاسمًا لكل من الجنس البشري والكوكب على حد سواء. وبنيما تحتاج البيئة إلى إنفاذ اللوائح التي تقلل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وغيرها من الملوثات، يحتاج الجنس البشري إلى إعادة تنشيط وإنفاذ القانون الدولي.

ثمة احتمالات جيدة لأن تحظى البيئة بمزيد من الاهتمام الآن، بينما يتم إخراج منظمي الولايات المتحدة المتمركزين حول الذات والمصابين بقصر النظر (المعروفين باسم مديري ترامب) من مناصبهم. وقد أصبحت اتفاقية باريس للمناخ التي وقعتها 195 دولة قيد التطبيق مسبقاً، وتعهدت إدارة بايدن المقبلة بأن تعاود الولايات المتحدة الانضمام إلى الاتفاقية.

لكن الأمور تبدو أكثر قتامة عندما يتعلق الأمر بمستقبل القانون الدولي. فالأحداث التي أنجبت المظاهر الحالية لهذا القانون كانت الحروب وأعمال الإبادة الجماعية في النصف الأول من القرن العشرين، ولا سيما الهولوكوست النازي الذي كان موجهاً في المقام الأول ضد يهود أوروبا. وانتهى هذا الحدث الكارثي في العام 1945. وكان ما تلا ذلك قلقًا متزايدًا بشأن حقوق الإنسان، والذي انعكس في وسائل الحظر التي تفرضها المعاهدات على الجرائم ضد الإنسانية، من بين أمور أخرى.

استمرّت الذكريات المفيدة عن هذه الحروب وحملات الإبادة الجماعية، والدوافع التنظيمية التقدمية التي ولّدتها، أقل من جيلين. وهي الآن في انحسار، بينما نشهد في مكانها عودة للقومية العدوانية، والحصرية العرقية، والإجرام الذي ترعاه الدولة -والذي عزز كله الكثير من الرعب في القرن العشرين في المقام الأول. فهل كانت هذا نتيجة قصر مدى الذاكرة المزمن للإنسانية، والذي يؤدي، على المدى الطويل، إلى تجاهل دروس التاريخ؟ أم أننا عالقون فيما أسماه الفيلسوف فريدريك نيتشه “التكرار الأبدي” -تكرار الشيء اللعين نفسه، مرة تلو الأخرى؟

التجاهل الأخير للقانون الدولي

كيفما أردت أن تشرح ذلك، فإن التجاهل الأخير للقانون الدولي أظهر مرة أخرى كم أصبحت اللياقة الإنسانية مهزوزة على مستوى الدولة. خذ، على سبيل المثال، صعود الإرهاب الذي ترعاه الدولة والمتمثل في الاغتيالات والتخريب. ربما تكون قد فكرت بأن هذا النوع من السلوك الإجرامي كان من اختصاص تنظيم القاعدة أو تنظيم “داعش” سيئ السمعة. لكن الأمر ليس كذلك. من بين آخرين، تتصرف الولايات المتحدة الآن بهذه الطريقة، وكذلك إسرائيل.

على سبيل المثال، خذ المعاملة التي تمارسها الدول الغربية ووكيلتها في الشرق الأوسط؛ إسرائيل، تجاه الأمة الشيعية في إيران. بغض النظر عما قد يظنه المرء بشأن الحكومة الدينية الحالية في إيران (والتي يمكنها بالتأكيد تحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان)، وعلى الرغم من المزاعم التي لا نهاية لها عن العدوانة الإيرانية، القادمة من مصادر غربية وصهيونية، فإن السياسات العسكرية الإيرانية المعاصرة عكست منذ فترة طويلة موقفًا دفاعيًا بشكل أساسي. وهكذا، كانت تدخلاتها المشفوعة بدعوة من الدولة في سورية والعراق تهدف إلى هزيمة “داعش”. وعلى عكس الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول الأخرى مثل روسيا، لم تهاجم إيران جيرانها أبدًا أو تقوم بغزو دولة أخرى أو تتآمر للإطاحة بحكومة شرعية أخرى. لكن هذا لم يمنع الصهاينة والمحافظين الغربيين من تصوير إيران على أنها خطر وجودي، وهندسة سياسات عقابية ضد طهران.

حدث هذا مؤخرًا في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020. ففي ذلك اليوم، قام عملاء إسرائيليون، أو يتلقون الأموال من النظام الصهيوني، باغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده. وكان فخري زاده عالمًا نوويًا رفيعاً متقاعدًا من الأبحاث النشطة منذ أن أغلقت إيران برنامجها النووي العسكري في العام 2003. ولن يكون لوفاته، وهي واحدة في سلسلة طويلة من الاغتيالات المماثلة، أي تأثير يُذكر على البرنامج النووي للبلاد. وإذن، لماذا تم قتله؟ قد يكون هناك سببان: (1) كان موته العنيف رسالة إلى الباحثين الإيرانيين الآخرين تنصحهم بتجنب العمل في البرامج النووية الحكومية، خشية أن يُقتلوا هم أيضًا، و(2) كان أيضًا محاولة لإغراء إيران بالقيام برد عنيف مماثل، والذي يكون من شأنه أن يؤدي بدوره إلى تعقيد أي جهد قد تبذله إدارة بايدن المقبلة لإحياء الاتفاق النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة) للعام 2015.

عند انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة في العام 2016، قام دونالد ترامب، بدعوة من إسرائيل وبعض حلفاء أميركا في المنطقة، بتخريب تلك الاتفاقية. ولا يبدو أن أيًا من المتورطين في هذا التخريب يهتم بحقيقة أن خطة العمل الشاملة المشتركة كانت معاهدة نموذجية جعلت العالم مكانًا أكثر أمانًا حقاً.

مصدر الكثير من المعاناة

عندما يتعلق الأمر بالتاريخ الحديث على الأقل، عانى الشرق الأوسط بأكمله بسبب قوة اللوبي الإسرائيلي والسلوك العدواني للولايات المتحدة في المنطقة. في العام 2003، قررت إدارة جورج دبليو بوش غزو العراق بناءً على “أدلة” ملفقة تفيد بأن البلد كان يسعى إلى امتلاك أسلحة نووية. وقام بحثّ بوش في البداية عراقيون مخادعون ممن يعيشون في المنفى، لكن إسرائيل رأت أيضًا فرصة لدفع واشنطن إلى تدمير نظام تعتبره معاديًا.

لم تكن لدى المواطن الأميركي العادي طريقة للحكم على سوية “الأدلة” التي كانت إدارة بوش تروجها، وقبِل معظمهم كلمة الرئيس فقط -على الرغم من حقيقة أن جورج دبليو كان شخصًا لا يستطيع التمييز بين آرائه الخاصة وبين الحقائق. كان بوش محاطًا بالمتملقين والمروجين للحرب، ومضى قدمًا فقتل أو جرح، وفي بعض الحالات عذب، أكثر من مليون عراقي، بينما فتح البلد في الوقت نفسه لنشوب حرب أهلية. وبموجب القانون الدولي، فإن جورج دبليو بوش كان ينبغي أن يواجه بالتأكيد اتهامات جنائية. لكن هذا لم يحدث، بطبيعة الحال.

في أذهان قادة إسرائيل، وربما بعض القادة العرب أيضًا، أصبح المصير الذي لقيه العراق سابقة لما يريدون أن يتم فعله بإيران -وباستخدام المنهجية نفسها: عقوبات بهدف التجويع، والتي يأتي في أعقابها غزو عسكري أميركي. وإليكم ما قاله الباحث في شؤون الشرق الأوسط خوان كول: “لا تعتقد إسرائيل (وبعض العرب) أن إيران ليس لديها طموحات نووية عسكرية، وهم يعتبرونها عدوًا جيوسياسيًا يرغبون في أن تقوم الولايات المتحدة بسحقه لصالحهم وأن تبقيه ضعيفاً، تماماً كما قامت إدارة بوش بكسر أرجل العراق”.

مع رئاسة دونالد ترامب -وهو أيضاً شخص لا يستطيع تمييز الرأي عن الحقيقة- بدا أن إيران ستلاقي بالفعل مصير العراق نفسه. فقد سحب ترامب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، وفرض عقوبات على البلد بهدف التجويع. ولم يقم بغزو إيران، لكنه ساعد بالتأكيد السياسة غير المعلنة القائمة على التخريب والاغتيال.

وهكذا، مرة أخرى، كان العالم مُبتلىً بزعيم أميركي لا يقيم أي اعتبار للقانون الدولي أو للممارسة الدبلوماسية الراسخة. ولم يكن أي منهما يناسب شخصيته المعيبة -شخصية المتنمر في فناء المدرسة.

الآن نحن في كانون الأول (ديسمبر) 2020، ولدينا رئيس منتخب جديد، جوزيف بايدن. وهو يقول إنه يريد إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، لكنه يتحدث أيضًا عن دفع إيران إلى القبول بالمزيد من القيود على الأسلحة. وهذا يعكس القلق المتأصل في النظرة الصهيونية للعالَم. يجب حماية إسرائيل، بصفتها “مجتمعاً غربياً”، من جميع الأعداء، الحقيقيين أو المتخيلين. ولطالما تم إيصال هذا القلق إلى القادة السياسيين الأميركيين من خلال اللوبي الصهيوني. ومع ذلك، فإن شعور إسرائيل المريض بالضعف والقلق الذي يولده هذا الشعور لا يعكس الواقع. بل إنه يشكل في الحقيقة عقبة، إذا كان ما يهمنا هو تأمين الأمن القومي من خلال تطبيق القانون الدولي.

في الحقيقة، ليست إيران هي المعتدي في هذه الحالة. إنها ضحية للعدوان. وإذا كان بايدن يريد الترويج لعالم أكثر أمانًا وإنسانية في ظل حكم القانون، فعليه أن يوجه انتباهه إلى القاتل وليس الذي يتعرض للاغتيال؛ إلى المخرب وليس الذين يعانون من التخريب؛ إلى إسرائيل، وفي هذه الحالة، إلى السياسة الخارجية لدولته في الشرق الأوسط في الحقيقة، وليس إلى إيران.

الصهاينة يتباكون ويستنجدون

الإسرائيليون وأنصارهم الصهاينة في أماكن أخرى حساسون للغاية بشأن توجيه أصابع الاتهام إليهم. وأود أن أعتقد بأن هذه الحساسية تأتي من شعور ضميرهم الجماعي بالذنب، ولكن لا توجد طريقة للتأكد من ذلك. وما هو مؤكد هو أن الصهاينة، مثل كثير من الآخرين، جيدون في تبرير سلوكهم.

ولديهم رد قياسي عندما يلقي النقاد باللوم، كما فعلت للتو، على عتبة بابهم. ويأتي الرد في شكل ادعاء بازدواجية المعايير -حيث يقوم المنتقتدون بتوجيه اللوم إلى إسرائيل بينما يتجاهلون الجناة الآخرين. وهو دفاع غريب –حتى كان ذلك فقط لأنه ينطوي على الاعتراف بوجود ذنب مشترك.

في حين أنه من الصحيح أن إسرائيل وداعميها ليسوا هم المنتهكون الوحيدون للقانون الدولي في العالم، فمن الصحيح أيضًا، بالنسبة لأولئك في الغرب، وبالنسبة لليهود على وجه الخصوص، أن الدولة الصهيونية مذنبة بشكل واضح. كيف ذلك؟ عملت جماعات الضغط الصهيونية، التي تلعب دور الوكيل لدولة إسرائيل، على مدى عقود، وبنجاح كبير، على ترتيب الدعم الأميركي والغربي الآخر للسياسات والممارسات الإسرائيلية التوسعية العنصرية وغير القانونية (لدى إسرائيل الآن ذلك التمييز بأنها تدير أطول احتلال في العالم منذ الحرب العالمية الثانية). وكما تقترح ميشيل غولدبيرغ من صحيفة “نيويورك تايمز”، فإن النتيجة هي فساد “القيم الأميركية (وغيرها من القيم الغربية) الأساسية”. وينطبق هذا بشكل خاص على القيم التي تم غرسها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية -وهي قيم تدعم القانون الدولي وحقوق الإنسان. ولما كان الأمر كذلك، فإن إسرائيل تستحق “تمحيصًا خاصًا”.

خاتمة

من اللافت للنظر مدى السرعة التي انزلق بها مفهوم القانون الدولي من الوعي الغربي. ولو نظرنا إلى الولايات المتحدة وحدها، فقد وصف اثنان فقط من الأميركيين البارزين اغتيال محسن فخري زاده علانية بأنه انتهاك للقانون الدولي: رئيس وكالة المخابرات المركزية السابق جون برينان الذي أشار، بينما لم يذكر إسرائيل بالاسم على أنها الجاني، إلى أن “مثل هذا العمل من الإرهاب الذي ترعاه الدولة ينتهك القانون الدولي ويشجع الحكومات الأخرى على تنفيذ هجمات مميتة ضد المسؤولين الأجانب”؛ والنائبة في الكونغرس إلهان عمر التي أشارت إلى أن “التحدث علنًا عن انتهاكات القانون الدولي وانتقادها ليس قضية حزبية، كما أنه ليس وقوفاً إلى جانب إيران. إن الأمر يتعلق بالتوازن وليس إغراق العالم في فوضى أكثر من التي نحن فيها مسبقاً”.

هذه الحالة الفوضوية التي يمر بها العالم تشير إلى حقيقة أن القومية المدمرة لم تستنفد نفسها بعد. وعلى خلفية القومية العدوانية، غالبًا ما يُفسَّر القانون الدولي والنظرة العالمية لحقوق الإنسان على أنهما تدخل أجنبي في مصالح هذه الدولة ذات السيادة أو تلك. وحتى أولئك اليهود العالقون الآن في هويتهم القومية (الصهيونية) يفشلون في رؤية قيمة أشكال القانون الدولي التي تم استلهامها في الأصل لمنع الأهوال القاتلة التي تنطوي عليها الإبادة الجماعية.

يبدو أن تدخلاً تنظيمياً أصبح مطلوباً الآن، كما هو الحال مع أزمتنا البيئية. وهو، في هذه الحالة، تنظيم قائم على القانون الدولي وعلى مفهوم عالمي لحقوق الإنسان. وسيكون اتباع مثل هذا المسار هو ردنا النهائي الوحيد على تاريخ مليء بالرعب المتكرر، ما لم نكن نرغب، بطبيعة الحال، في الإذعان لنظام “التكرار الأبدي” -القبول بأننا محكومون بتكرار الأحداث والأخطاء نفسها. فهل هذا هو قدرنا؟ من أجل مصالحنا الخاصة، وبالتأكيد من أجل جميع الإيرانيين، دعونا نأمل بأن لا يكون كذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى