#شؤون إسرائيلية

استراتيجية الجيش الإسرائيلي – تحليل الوثائق المنشورة بين 2002- 2018

عبد القادر بدوي *- 28/12/2020

شهد العقدان الأخيران عمليات نشر متزايدة لوثائق وأوراق خاصة بـ”استراتيجية الجيش الإسرائيلي”، وعلى الرغم من أن هذا النشر يتم في أغلب الأحيان داخل أروقة ومؤسسات الجيش- كما تُخبرنا التصريحات والتسريبات التي تُنشر حول ذلك- إلا أن بعض هذه الأوراق والوثائق- أو الجزء المسموح بنشره منها- يتم عرضه وتداوله عبر وسائل الإعلام والمؤسسات البحثية ذات الاختصاص. وعلى أهمية الجانب الدعائي والترويجي الذي تتضمّنه عملية النشر، ونظريات “كي الوعي” و”الجدار الحديدي” وما شابه كأُطر مناسبة يُمكن من خلالها تفسير هذا السلوك؛ إلا أن ذلك لا يمنع من بناء تصورات واستنتاجات عن العمليات التي تجري داخل مؤسسات وأجهزة الجيش، لا سيّما تلك المسؤولة عن إعداد هذه الوثائق “الاستراتيجيات”، والآلية التي يتم من خلالها إعدادها، والأهداف المرجوة من ذلك كما يتم طرحها ومناقشتها في الفضاء الأكاديمي- البحثي الإسرائيلي.

وتأتي الدراسة الجديدة الصادرة عن معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي لمائير فينكل [1] بعنوان “استراتيجية الجيش الإسرائيلي: تحليل الوثائق المنشورة من 2002-2018 ماذا تُخبرنا عن رؤساء هيئة الأركان والجيش؟” لتُقدّم قراءة في وثائق استراتيجية الجيش الإسرائيلي التي سُمح بنشرها خلال الفترة المذكورة (4 استراتيجيات، بالإضافة إلى تحديث غادي آيزنكوت في العام 2018) من حيث محتويات كل وثيقة من الوثائق المنشورة؛ الأهداف المرجوّة من هذا النشر؛ ما هي الآليات المُتبعة في إعداد هذه الاستراتيجيات ودرجة مُشاركة رئيس هيئة الأركان في ذلك، وأخيراً أهم التغييرات التي طرأت على الوثيقة بالنسبة لسابقاتها وتأثير ودور هذه الوثائق فيما يُطلق عليه الكاتب “مساحة الخطاب/ الحوار المفتوح” داخل الجيش الإسرائيلي. وسنعرض هنا أهم مفاصل هذه الدراسة، مع التنويه بأن الأفكار الواردة أدناه تُعبّر عن رأي كاتب الدراسة.

تفترض الدراسة، وقبل الخوض في تفاصيل الوثائق الخمس، وجود قواسم مشتركة بينها تتمثّل في تطرّق كل منها لنطاق التهديدات في البيئة الاستراتيجية وتحديده؛ مقاربات الجيش المبدئية للعمل في مواجهة هذه التهديدات؛ بالإضافة إلى القدرات التي يتعيّن على المستويات المختلفة في الجيش تطويرها خلال عملية بناء القوة بهدف تحقيق السيطرة. حيث أن هذه الوثائق، وهي سمة غالبة، لا تتضمّن تحليلاً مفصّلاً لعدو معين ولا رداً محدّداً عليه أيضاً؛ بل تميل لكونها “تصورات عملياتية” – كما تُطلق عليه الوثائق- لاستراتيجية عمل الجيش في منطقة ما (على سبيل المثال: التعامل مع النشاط/ التموضع الإيراني على الجبهة الشمالية)، فكاتب الدراسة لا يرى في أن الوثائق المنشورة هي في الواقع استراتيجية بالمعنى المألوف تتضمّن استجابة محدّدة لتحدٍ عسكري في سياق ملموس وقابلة للتطوير والتغيير حينما تتغير المشكلة أو السياق؛ بل هي وثائق تحدّد عالماً من المفاهيم التي تساعد في تطوير هذه الاستراتيجيات. القواسم المشتركة الأخرى تتمثّل في أن الوثائق جميعها تُمثّل الاحتياجات الداخلية للجيش، لذلك كُتبت بلغة عسكرية تحوي مفاهيم ليست مألوفة بالنسبة للسياسيين والجمهور غالباً، وأخيراً أن هذه الوثائق هي من إعداد قسم العمليات بشكل رئيس وبمشاركة شعبتي الاستخبارات والتخطيط في الجيش.

وثائق الاستراتيجيات كنتاج لعمليات تطوير المعرفة في الجيش

تدّعي الدراسة أن الوثائق المنشورة لاستراتيجيات الجيش تأتي كنتاج لدراسة أولية للبيئة العسكرية الاستراتيجية والاستجابة المتوقعة للجيش من حيث بناء القوة، تفعيل القوة، والتنظيم وما شابه ذلك. وعند الحديث عن المعرفة والتعلّم الخاص بالجيوش، تجدر الإشارة إلى أن هذه الظاهرة قد تم بحثها على نطاق واسع من حيث دروس الحرب الخاصة بالجيش؛ التعلّم من الجيوش الأجنبية (التقليد)، والابتكار القائم على الخبرة في تطوير القدرات الذاتية. بالنسبة للأخيرة، تصف الأدبيات البحثية المختصّة بالابتكار العسكري الجيش الإسرائيلي، وعلى وجه التحديد خلال تسعينيات القرن المنصرم والعقد الأول من القرن الحالي، بأنه منظومة تعتمد بشكل كبير على تجربتها الخاصة المُكتسبة من حروبها بدرجة أولى، يليها على الترتيب تبنّي الأفكار العسكرية الأميركية (على المستوى الإجرائي وليس في سياق المحتوى)؛ الميل الكبير للحلول التكنولوجية؛ تفضيل الأشخاص العمليين على المنظّرين؛ صعوبة تحديد رؤية طويلة الأمد بسبب أعباء النشاط الأمني الحالي.

من الناحية النظرية، فإن نمط تطوير المعرفة/ التعلّم المُتبع في تطوير وثائق استراتيجية الجيش الإسرائيلي لا يهدف إلى تطوير استراتيجية ملموسة ضد عدو أو مشكلة ما؛ بل العمل على بناء وتطوير بيئة من المفاهيم التي سيتم استخدامها لهذا الغرض (كيفية تحديد شخصية العدو، أنماط التفكير التي يتّبعها، أنماط المواجهة والعمل، التعريف الموضوعي لمفاهيم مثل الردع، الحسم، الانتصار أمام الخصم، وما شابه ذلك). لذلك، فإن هذه الوثائق وعلى الرغم من ظهور كلمة استراتيجية فيها، إلا أنها في الواقع أشبه بوثيقة عقائدية تضع “نظاما مفاهيميا تفسيريا” ذا صلة بفترة نشرها.

أوجه التشابه والاختلاف بين وثائق استراتيجية الجيش الإسرائيلي ونظيراتها في الولايات المتحدة وبريطانيا

تدّعي الدراسة في إطار المقارنة مع الولايات المتحدة وبريطانيا في هذا المجال، أن هناك مجموعة وثائق استراتيجية يتم نشرها في الولايات المتحدة الأميركية عملاً بتشريعات مختلفة؛ تشريع جولد ووتر- نيكولاس (1986) مثلاً، والذي ينصّ من ضمن أمور أخرى على ضرورة قيام وزير الدفاع بإعداد ونشر وثيقة سنوية تُحدّد الأهداف والسياسات المُتعلّقة بالأمن القومي، وترتيب أولويات المهام العسكرية والموارد المخصّصة للفترة المحدّدة بمساعدة رئيس هيئة الأركان المشتركة. ومنذ العام 2002 تمّت المصادقة على الوثائق التالية وإدخالها في التشريع: استراتيجية الأمن القومي التي يُصادق عليها الرئيس؛ استراتيجية الدفاع الوطني التي يُصادق عليها وزير الدفاع؛ الاستراتيجية العسكرية الوطنية التي يُصادق عليها رئيس هيئة الأركان المشتركة. على أن يتم إعداد الأخيرة من قِبل الجيش نفسه، ووفقاً للقانون فمن الضروري أن تتناول بالتفصيل كيفية استجابة القوات المسلّحة الأميركية للتهديدات الأمنية الرئيسة كما تظهر في وثائق الرئيس ووزير الدفاع.

أما في بريطانيا، فقد تمّ إصدار عدد من الوثائق من قِبل المستوى السياسي على مرّ السنين تحت عنوان “رؤية الدفاع”، ووفقاً لقانون صادر في العام 2010 يتعيّن على المستويات المختصّة تحديث هذه الوثيقة كل خمس سنوات.

في إسرائيل، لا توجد وثائق رسمية موازية للمذكورة أعلاه تقوم بنشرها القيادة السياسية، على الرغم من وجود محاولة مهمة لصياغة مثل هذه الوثائق بين السنوات 2004-2006 من قِبل “لجنة مريدور”، وعلى الرغم أيضاً من تسريبات أفادت بقيام رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بتحديث الرؤية الأمنية العام 2018 لكن أياً منها لم يظهر للعلن.

ما الذي يُمكن استنتاجه من نشر وثائق استراتيجية الجيش من قِبَل رؤساء هيئة الأركان

بعد إجراء تحليل عميق ومقارنة للوثائق المنشورة في الفترة الواقعة ما بين 2002-2018 على التوالي (استراتيجية الجيش الإسرائيلي 2002- شاؤول موفاز؛ تصوّر عمليات الجيش 2006- دان حالوتس؛ استراتيجية الجيش الإسرائيلي 2013- بيني غانتس؛ استراتيجية الجيش الإسرائيلي 2015 و2018- غادي آيزنكوت) من ناحية البنية المفاهيمية، التنظيمية، العملياتية، بالإضافة إلى أهم التحديثات الواردة في كلّ منها بالنسبة لسابقاتها، تذهب الدراسة إلى مجموعة من الاستنتاجات على النحو التالي:

أولاً: توجّه رؤساء هيئة الأركان لإصدار وثائق مكتوبة “استراتيجية الجيش” لا يُعبّر عن نزوات شخصية؛ أي لا يُمكن تفسير ذلك في إطار مسعى كل منهم لاستبدال ختم رئيس الأركان الذي سبقه أو الإعلان عن إنجازاته بمجرّد توليه منصبه (موشيه يعلون عمل على إعدادها طوال فترة ولايته ولم تُنجز وتظهر للعلن إلا في عهد حالوتس؛ وغابي أشكنازي لم ينشر أي وثيقة خلال فترة ولايته).

ثانياً: إن الجيش الإسرائيلي منظمة تستثمر موارد كبيرة في تحديث تصوراتها وخططها الحالية والمستقبلية؛ فإلى جانب وثائق استراتيجية الجيش، شهدت السنوات الأخيرة أيضاً توجها متزايدا نحو إعداد وثائق “تصور عملياتي” تسبق وثائق خطة الحرب.

ثالثاً: آثار حرب 1973 التي ألقت بظلالها على المستويات الأمنية والعسكرية كافة، إلى جانب الميل لإرفاق الخطط والبرامج بتصورات مكتوبة لتجنّب التعقيدات الإدراكية الناجمة عن التعقيد المتزايد لشن الحروب (تراجع التهديدات النابعة من الجيوش النظامية العربية على سبيل المثال وظهور تهديدات من نوع آخر).

رابعاً: التغيير المتسارع في البيئة الجيو- سياسية، الأمر الذي يحتّم على الجيش إعادة تفسير الواقع وتعريف التحدّيات الجديدة وسُبل مواجهتها (انتقال التركيز من التنظيمات الفلسطينية المسلحة في الضفة الغربية، الاستنزاف والعمليات أثناء الانتفاضة الثانية في عهد موفاز إلى التركيز على حزب الله وقدراته الصاروخية والقتالية منذ عهد آيزنكوت؛ القدرات الصاروخية المتنامية للفصائل الفلسطينية في قطاع غزة بعد العام 2008؛ والتركيز على النشاط الإيراني والمنظمات التابعة لإيران في المنطقة الشمالية…الخ)؛ بالإضافة إلى التركيز على الجوانب الجديدة التي تهمّ رئيس هيئة الأركان نفسه.

رابعاً: من المهم الإشارة إلى ما هو غير موجود في هذه الوثائق، حيث أن كل وثيقة من هذه الوثائق “الاستراتيجيات” تُركّز على التعقيدات والتحديات وأنماط عمل الجيش في الوقت الحاضر وليس على المدى المتوسط والبعيد. كما لا يُمكن اعتبار هذه الوثائق بمثابة تصورات مستقبلية لطبيعة المعارك الميدانية المستقبلية “ساحة المعركة” كما هي الحال عند نظيراتها الأميركية مثلاً.

تأثير وثائق “استراتيجيات” الجيش ودورها في “مساحة الحوار المفتوح” داخل الجيش

كما أشرت لذلك في البداية، تؤكد الدراسة مرة أخرى أن تأثير هذه الوثائق يتمثّل بالدرجة الأولى بصياغة وتنظيم عالم مفاهيمي خاص بفترة صدور الوثيقة وهذا هو نجاحها الأول؛ من حيث تمكّنها من إنتاج لغة مشتركة (نمط تفكير مشترك) داخل الجيش، وهو ما مهّد لصدور وثائق وتصورات جديدة. أما فيما يتعلّق بإسهام هذه الوثائق في توجيه بناء القوة العسكرية على المدى البعيد، فمن الصعب إجراء مقارنة بينها نظراً لأن كل وثيقة نُشرت في سياق مختلف ولأغراض مختلفة: وثيقة استراتيجية الجيش للعام 2002- شاؤول موفاز- تُحدّد التغييرات التي تم إجراؤها بالفعل خلال فترة ولاية الأخير؛ وثيقة يعلون- حالوتس للعام 2006 ليست عادية من حيث التغيير الذي افترضته وسعت إليه، لكن حرب تموز 2006 تسببّت في تجميد معظم مفاصلها، على الرغم من أن الربط الذي أقامته لجنة فينوغراد بين الوثيقة ونتائج الحرب كان أكبر بكثير من الصلة الفعلية؛ وثيقة استراتيجية الجيش للعام 2013- بيني غانتس- تُشبه كثيراً نظيرتها الصادرة في العام 2002- موفاز؛ من حيث صدورها في نهاية فترة ولاية رئيس هيئة الأركان، ثم إن المساهمة الأكبر لها كانت في الجانبين المفاهيمي والتنظيمي، والتركيز أقل على توجيه بناء القوة. أما وثيقة آيزنكوت فقد تميّزت بأنها محدّدة أكثر من سابقاتها؛ من حيث تركيزها على الرد المطلوب على حزب الله وحماس، إلى جانب توجيهات بناء القوة والتي تم تنفيذ جزء كبير منها مثل تعظيم القدرات/ وتوسيع نطاق الضربات الجوية؛ تطوير القدرات السيبرانية ووحدات الكوماندوز وغيرها.

تخلُص الدراسة بناءً على ما تقدّم، إلى أن ثقافة الجيش الإسرائيلي تؤكّد على أن النجاح والاختراق في الرؤى والتصورات لا يتحقّق غالباً من خلال الوثائق المكتوبة بقدر ما يأتي كنتاج لعملية التفاعل بين التصورات النظرية والتجربة الفعلية على الأرض المصحوبة بتقنية تكنولوجية أثناء التنفيذ. وإن التغيير الذي طرأ على الوثائق موضع الدراسة وإن كان نتيجة لتوصية سياسية أو نتيجة لإدراك قيادة الجيش للتغيرات الحاصلة في البيئة الاستراتيجية لا يُعتبر مهماً مقارنةً بأهمية الموضوع نفسه الذي تتناوله وتركّز عليه الوثيقة “الاستراتيجية”. والتغيير في المنطقة قد ألقى بظلاله على طريقة إعداد الوثائق الجديدة أيضاً (وثيقة رئيس الأركان أفيف كوخافي على سبيل المثال).

إجمالاً، سعت الدراسة لموضعة ظاهرة “نشر الوثائق الاستراتيجية” المُتبعة خلال العقدين الماضيين (نطاق الدراسة) ضمن التوجّه الإسرائيلي المزعوم لزيادة الشفافية وإطلاع الجمهور على المعلومات عملاً بمبدأ حقّ الجمهور في المعرفة، وهو ادّعاء يشوبه الكثير من الضعف وعدم الدقّة كون هذه الوثائق، وبإقرار الدراسة نفسها، لا تحتوي على تفاصيل مهمّة تقع في صلب تصوّر الجيش الإسرائيلي لطبيعة المواجهات المُقبلة أو سُبل التنفيذ بشكل واضح، وإنما تركيزها الأول والأساس يكمن في تحديد البيئة المفاهيمية العسكرية التي يُمكن من خلالها تطوير برامج واستراتيجيات “المواجهة” والجانب التنظيمي والعملياتي. إلى جانب ذلك، يظهر سعي كاتب الدراسة لإبراز الجيش الإسرائيلي كمنظمة تستثمر موارد كبيرة في سبيل تطوير نفسها وتصوراتها المستقبلية، وأن مثل هذه الوثائق الصادرة في فترات مختلفة لا تُعبّر عن طموح شخصي لرئيس هيئة الأركان بأي حال من الأحوال كما تفترض بعض النقاشات، بل إن هذه الوثائق لها دور كبير في تعزيز “مساحة الحوار المفتوح” داخل الجيش نفسه في ظل نقص وثائق “الأمن القومي الإسرائيلي” الرسمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى