شؤون اقليمية

في استراتيجية الانتظار الامريكية.. ماذا عن دور تركيا؟

بقلم  د. نهى خلف  *- 17/3/2021

من الواضح ان سياسة بايدن الخارجية واستراتيجيته الكبرى تجاه العالم لم ترسم حتى الآن، وان هناك محاولات بحثية عديدة عند المحللين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة لاستعادة بناء قوة امريكا في العالم وترميم ما ينظرون اليه كخراب اصاب عظمتهم في العالم في فترة ادارة ترامب، والتي يعتبرونها عاصفة قد مرت في الافق، تاركة دمارا عظيما في المصالح والهيبة الامريكية، وبالتالي تنتظر ادارة بايدن القيام بلملمة آثارهذه العاصفة لكي تتمكن من اعادة تركيب استراتيجيتها العظمى وتبييض الوجه الامريكي المنافق للسيطرة على العالم مرة اخرى.

وبينما تشيركل التصورات السياسية ان الولايات المتحدة لا يمكن ان تقبل بالتخلي عن دورها كالرجل الاول في االعالم، الا ان سياسة الادارة الجديدة لا تزال مرتبكة وغامضة وغير قادرة على الربط ما بين المتغيرات الجديدة على الصعيد العالمي، وخاصة في الشرق الاوسط، حيث قد تغيرت ملامح موازين القوى الاقليمية منذ فترة عمل بايدن في ادارة أوباما. ومن اهم هذه المتغيرات الايجابية بالنسبة لمنطقتنا  تزايد ونجاح قوى محور المقاومة المعارضة لاسرائيل في مواجهة التطورات السلبية الناتجة عن “صفقة القرن” الترامبية، وما آلت اليه من الزيادة في التطبيع مع الكيان الصهيوني، مما أدى بالسيد جاريد كوشنر، والذي يبدو انه لا يزال متمسكا بملف الشرق الاوسط،  الى القول ان الصراع العربي الاسرائيلي قد انتهى، لأن مزيدا من الدول العربية ستلتحق بقطار التطبيع لتصبح جزءا من الاستراتيجية الصهيونية، مما سيؤدي إلى نهاية القضية الفلسطينية.

فالسؤال الذي نبحث عن اجابته  اليوم، هو كيف ستقوم ادارة بايدن باعادة بناء استراتيجيتها العظمى؟ وما هي المنهجية التي سيتبعها؟ فهل سيقسم المفكرين الاستراتيجيين العالم على اساس مناطق جغرافية  متفاوتة لبناء سياسات متنوعة تتطابق مع كل منطقة؟ مما يعني التعامل مع العالم بالقطعة، ليصبح المشهد اكثر تعقيدا؟ او هل ستكون هذه الاستراتيجية عالموية بحيث انها ستتبع نفس المقاييس في معالجة معظم القضايا حسب المصالح الاقتصادية المتشابكة؟ وإلى أي مدى ستلعب مواقف واستعدادات الحلفاء المختلفين للتعاون مع الولايات المتحدة دورا في اعادة بناء الاستراتيجية الكبرى؟

وهل الارباك والصمت الذي يعم الفكر السياسي الامريكي بعد العاصفة الترامبية سينتهي مؤديا إلى عواصف جديدة؟ ام هل سيستمر صناع الٌقرار الاميركيين في الدوران بحلقات مفرغة حتى يتمكنوا من صياغة استراتيجيتهم النيرة الجديدة؟

ان امريكا اذن في مرحلة انتظار وتفرج وغربلة لمصالحها من اجل لملمة حلفائها ووضعهم قيد الاختبار، فقد فتحت سوقها للمناقصات التجارية والعروض والرسائل السياسية التي ستصلها منهم. فمثلا، اليوم بعد ان بدأ وزير الخارجيىة الامريكي جولة إلى اليابان لاعادة بناء تحالفاته ضد الصين في آسيا، (في نفس الوقت الذي تقوم به الولايات المتحدة بمناورات عسكرية مشتركة مع كوريا الجنوبية، حيث لا يزال يتواجد 28 ألف و500 عسكري امريكي) وصلت رسالة طريفة وهامة من كوريا الشمالية  لبايدن على لسان اخت “كيم يونغ ان”، تحذر فيها الولايات المتحدة قائلة: “اذا ارادتم ان تناموا بسلام خلال الاربعة أعوام القادمة، فعليكم ألا تفعلوا شيئا يعكنن صفاء نومكم”، وذلك لان كوريا الشمالية تعتبر ان المناورات المشتركة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة بالاضافة الى عدد العسكريين الامريكيين المرابطين في جنوب كوريا كعبارة عن “استعداد للحرب”.

وبما ان هذا المقال يهدف التركيز بشكل خاص على الرسائل التي سيوجهها الحلفاء وبالاضافة إلى الاعداء تجاه الادارة الجديدة، يجب الاشارة الى الرسالة الجديدة التي ارسلها الرئيس التركي أردوغان إلى  حليفه الامريكي بمناسبة مرور عشر سنوات على الحرب السورية تحمل عدة دلالات وفحواها:

“على إدارة بايدن الوفاء بوعودها والعمل معنا لإنهاء المأساة في سوريا” مضيفا أن الشعب التركي يؤمن بأن إقامة نظام سياسي قادر على تمثيل جميع السوريين ضروري لإحلال السلام والاستقرار مجددا., موضحا ان إعادة تأسيس السلام والاستقرار في المنطقة (سوريا) مرتبط بالدعم الغربي الأمين لتركيا.

“أقولها بكل فخر الموقف التركي لم يتغير منذ بدء الحرب الداخلية في سوريا إلى أن الوضع الإنساني في سوريا سيكون المقياس النهائي لصدق مواقف الدول، سيما أن الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية باتت متداولة بكثرة في الآونة الأخيرة”. ثم أكد أردوغان رفض بلاده كل المخططات التي لا تلبي المطالب الأساسية للشعب السوري، مبينا أن ذلك لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة. وأردف قائلا: “ينبغي على الغرب أولا أن يتخذ موقفا واضحا من تنظيم “ي. ب. ك” الإرهابي الذي يعتدي على المناطق الآمنة (في سوريا) ويساند النظام الدموي”. كما أوضح أردوغان أن المناطق الآمنة التي أسستها تركيا مع العناصر السورية المحلية، دليل على التزام أنقرة بمستقبل الجارة سوريا، وشدد على أن الحل السلمي والدائم لن يكون ممكنا إلا “باحترام وحدة أراضي سوريا ووحدتها السياسية”.

ان هذه الرسالة التي وجهت الى بايدن بعد تجاهله لاردوغان الذي كان ينتظر ان يتصل به الحليف الاكبر، منذ استلامه الرئاسة تعبر عن تخوف واضح وشديد من قبل اردوغان من غضب هذه الادارة عليه، على عكس اسلوب الصداقة الذي كان يمارسه ترامب مع حلفائه الصغار. كما تعبر عن خوفه من أي حل في المنطقة دون لعبه دورا والحظي على حصة هامة.

ولذلك قام اردغان باستخدام شعارات الحزب الديمقراطي الامريكي مثل حقوق الانسان والسلام ووحدة الأراضي والشعوب، بشكل كاريكاتوري، لارضاء الحليف الاكبر والانصياع امامه.  ولكن الرسالة تعبر ايضا عن تخوف على الوضع الداخلي التركي وخاصة من التنظيم الكردي وتهديده للحدود التركية.

فبعد ان فضحت ادارة بايدن الجريمة التي تمت ضد الخاشقجي في اسطنبول، وادعاء بايدن بانه اتخذ موقفا  متصلبا ضد ولي العهد السعودي، ازداد تخوف اردوغان من بايدين لان محاولة الانقلاب الكبرى المدعومة امريكيا التي اجريت ضد اردوغان خلال فترة ادارة اوباما في عام 2016 وهي نفس الفترة التي كان بايدن فيها الرجل الثاني في هذه الإدارة والتي يقال انه كان من يدير خلالها الازمة التركية، تشير ان بايدن يفهم جيدا ما يحدث في تركيا بعيدا عن المشاعر العاطفية. وقد أدى هذا التخوف الى قيام اردوغان بسلسلة من التبديلات الادارية للشخصيات السياسية التي لا يودها بايدن، كما ان بايدن لم يستجب إلى محاولات تركيا لاعادة المفاوضات من أجل إزالة العوائق امام برنامج صفقة طائرات الـ”اف 35″ بعدما كان الرئيس ترامب قد انهى دور تركيا في الشراكة بصنع هذه الطائرات بناء على رفض اردوغان الغاء صفقة شراء الصواريخ الروسية “اس 400”.

فرغم عرض اردوغان العودة إلى الوضع السابق في هذا الملف الا ان  بايدن استمر في تجاهله واستمر بخطة ترامب بعزل تركيا من برنامج الاسلحة وبمعاملته بفوقية واستعلاء اكثر من ترامب نفسه الذي كان  يقال عنه انه كان يعامل كل الرؤساء الآخرين من الصف الثاني امثال اردوغان وبوتين ونتنياهو، وكانهم زملاء. كما ان ازداد تخوف اردوغان بسبب القضية االمرفوعة ضد البنك  التركي “هالكبانك” التابع للحكومة التركية والجلسة القضائية التي ستعقد في هذا الشهر في جنوب نيو يورك بتاء على التهمة الموجهة ضد هذاالبنك لانه كان يسمح لايران بتحويل مليارات الدولارات، نقدا وذهبا ونفطا، عبر تركيا لتفادي العقوبات الامريكية، وذلك تحت حماية حلفاء اردوغان المقربين.

كل ذلك قد دعى اردوغان ان يتملق للحصول على رضاء بايدن  لتفادي الغرامة التي ستفرض على البنك، والتي قد تصل الى مليارات من الدولارات، وبينما كان يبدو للاتراك ان ترامب سيتغاضى عن هذا الموضوع اثبت بايدن انه مهتم بجدية في الأمر.

وقد أصبح اذن من الواضح ان ادارة بايدن تتخذ موقفا قاسيا تجاه تركيا في كل المجالات حيث عبر احد العاملين في ادارة بايدن عن ذلك قائلا: “نحن لسنا في موقع نستطيع عبره الاعتماد على تركيا مثل السابق او مثل ما يمكننا الاعتماد على حلفاء آخرين في حلف الناتو”، كما قال احد اعضاء البرلمان التركي السابق ان “العلاقات التركية الأمريكية تمر الآن بأسوأ أوقاتها”.

ومن الهام الاشارة انه قد برزت مؤخرا بعض المقالات التركية الاستراتيجية التي تتطرق الى مفهوم لم يكن شائعا تماما في قاموس المفكرين الاستراتيجيين وهو مفهوم “الدولة المتوسطة ذات الاستراتيجية المرنة” لوصف وضع الدولة التركية، بدلا من وصفها كقوة اقليمية وتوسعية. ويشير هذا المصطلح الذي ينطبق على دولة مثل تركيا ان سياساتها ليست ناتجة عن نيتها بالتفوق والتوسع  السيطرة، بل فقط لضمان الاستمرار بدورها كلاعب ضمن الحدود المفروضة على ملعبها السياسي مما يعني ايضا تأمين “كوريدور” او ممر امني حول حدودها، والاستمرار بتأمين دور لها كوسيط على الساحة الدوليه بسبب وضعها الجعرافي والتاريخي والاقتصادي.

كما قد بينت بعض الابحاث الاستراتجية ان تركيا لم تنشر يوما ما، وثيقة استراتيجية أو عقيدة رسمية بالمعنى الأكاديمي للمفهوم، بالرغم من أن بعض إصداراتها المختلفة مثل وثيقة سياسة الأمن القومي السرية وغير المنشورة تحتوي على مؤشرات لوجود استراتيجية خاصة بها، بالاضافة ان ليس لدى وزارة الخارجية التركية ووزارة الدفاع الوطني تقليدا لمشاركة توجهات سياستهما مع الجمهور، بالاضافة ان التقلبات الادارية ما بين الوزراء الذين لا يستمرون الا لفترات قصيرة في مناصبهم، قد عرقلت من تطوير رؤية سياسية واضحة، بالاضافة الى عدم وجود ممارسات وتقاليد للدولة التركية بالإعلان عن عقائدها الاستراتيجية الغامضة في مجالات السياسة الخارجية والأمنية، مما يسمح لها بالتقلب في سياساتها.

هناك امور اخرى تلعب دورا هاما في تحديد مكانة تركيا الاقليمية ومن اهمها انتمائها للحلف الاطلسي ولعبها دور الوسيط بين الشمال والجنوب والشرق والغرب في هذا المجال. وفقط بعد انتهاء مرحلة الانتظار للادارة الامريكية الجديدة، وبناء على تطورات عديدة في كل الاتجاهات، أكان على صعيد سياسات الدول الكبرى او الدول المتوسطة او الصغرى ستتوضح اللوحة اكثر فاكثر حول الأدوار المطلوبة من كل اللاعبين.

* كاتبة وباحثة فلسطينية في الشؤون الاستراتيجية والدولية- بيروت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى