ترجمات أجنبية

فيتالي نعومكين: شريط «موبيوس» للسياسة العالمية

فيتالي نعومكين * 1-2-2023: شريط «موبيوس» للسياسة العالمية

شريط موبيوس المتعارف عليه، هو أبسط شكل هندسي في علم الطوبولوجيا. ويمكن صنع نموذج منه بسهولة عن طريق أخذ شريط ورقي طويل ولصق طرفيه في حلقة بعد قلب أحدهما رأساً على عقب. حينها، ستكون الحركة على أحد الجانبين بلا نهاية، مع الانتقال المستمر إلى الجانب الآخر. بكلمات بسيطة، دون الخوض في الرياضيات، يبدو أنك تغيّر الجانب الذي تتحرك عليه، لكنك مرة أخرى تعود إلى المكان نفسه.

 

يبدو أن الوضع في سياسة العالم الحديث مشابه للوضع الموصوف أعلاه؛ إذ يبدو أن القدرة على المضي قدماً قد فُقدت في الحياة السياسية للعالم الحديث «المنهار»، كما يصفه مجموعة من زملائي من نادي «فالداي» الدولي للحوار. وعلى وجه الخصوص، فُقدت في العديد من النزاعات الإقليمية التي تمزق العالم منذ عقود، الديناميكيات الإيجابية التي من شأنها أن تسمح لنا بالأمل في حل هذه النزاعات، بينما تعيدنا بعض التغييرات نحو الأفضل، والتي نشهدها من وقت إلى آخر، مرة أخرى إلى الوضع السابق.

فمن ناحية، يبدو أن الوضع قد تغير، ولكن من ناحية أخرى، بقي جوهره كما هو. وعلاوة على ذلك تفاقمت المشكلة.

وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك، وأشهرها القضية الفلسطينية. فمنذ أن برزت أمام العالم قبل ثلاثة أرباع قرن من الزمان، كانت ولا تزال من دون حل، والأمل في أن يجد المجتمع الدولي طريقة للحل تلبي الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، يتلاشى أمام أعيننا.

أود هنا أن أتطرق إلى نزاع آخر طويل الأمد، ألا وهو الصراع الأرمني – الأذربيجاني، أو (قره باغ)، أي الصراع حول ناغورني قره باغ. إذ يبدو أن منطقة هذا الصراع تقع خارج حدود الشرق الأوسط، لكنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً به من خلال العديد من الخيوط.

أولاً، إن أحد الأطراف المتصارعة هم الأذربيجانيون، وهم شعب يعتنق الإسلام، وعرقياً قريب جداً من الأتراك، على الرغم من أن قسماً كبيراً منهم يعيشون في إيران، ويصل عددهم حسب بعض التقديرات إلى ثلث سكانها. ففي طهران وحدها يشكل الأذربيجانيون ما يقرب نصف السكان (على وجه الخصوص، المرشد الأعلى للبلاد وفقاً لعقيدة ولاية الفقيه، خامنئي نفسه، هو من الإثنية الأذربيجانية).

ثانياً، الطرف الآخر في الصراع هم الأرمن، وجزء من الشعب الأرمني يعيش، على الأقل لعقود عديدة، في الشرق الأوسط، وقبل كل شيء في الدول العربية. وقد انتقل الكثير منهم إلى هناك مع انهيار الإمبراطورية العثمانية؛ هرباً من الاضطهاد. لكن بعض أسلاف الأرمن عاشوا هناك حتى في زمن الخلافة العربية، ولعب بعضهم دوراً مهماً في بيزنطة، وقاتل البعض الآخر مع العرب ضد البيزنطيين. وبطريقة أو بأخرى، في عام 1918، كان يعيش 142 ألف أرمني في سوريا، منهم 60 ألفاً في حلب.

وثالثاً، على الرغم من أن الصراع في هذه المنطقة التاريخية من جنوب القوقاز ليس ذا طبيعة طائفية، دعونا لا ننسى أن المسلمين والمسيحيين يقفون على جانبي الجبهة. ومن المؤكد أن تطور الوضع في منطقة الصراع سيكون له تأثير على مستقبل العلاقات بين هاتين الطائفتين الدينيتين الأكثر أهمية.

لكن، ما الذي يحدث الآن في هذه المنطقة من شريط موبيوس الأبدي؟

بالطبع، يفسر ممثلو كل طرف ما يحدث بطريقتهم الخاصة. بيد أنه يوحدهم في الفترة الأخيرة شعور متزايد بعدم الرضا عن الوضع الذي يتطور حول هذا الصراع، حيث يوجد العديد من الجهات الفاعلة، العالمية والإقليمية، المنخرطة في محاولات البحث عن تسوية له. وفي الوقت نفسه، لا يوجد إجماع حتى بين الخبراء الدوليين. وقد أعطاني أحدهم، بشرط عدم الكشف عن هويته، تقييمه لتطور الأحداث، وأشار إلى التوتر المتزايد في منطقة الصراع، حيث يعتقد أن السبب الرئيسي يكمن في عدم قدرة يريفان على الاستجابة بمرونة وعقلانية للوضع المتغير. وهكذا، تسبب حصار ممر لاتشين في إرباك دوائر صانعي السياسة، الذين لا يهتمون إلا بمستقبلهم السياسي. وستكون النهاية المنطقية لصمتهم قرار الجانب الأذربيجاني بفتح الممر بشكل مستقل وباستخدام القوة بين ستيباكيرت، عاصمة ناغورني قره باغ، وباكو عاصمة أذربيجان؛ ما سيؤدي إلى إزالة قضية قره باغ من جدول الأعمال.

آمال الأرمن في الحصول على دعم من واشنطن وباريس بالكاد تكون مبررة. بالطبع، وعدوا رئيس الوزراء الأرمني نيقول باشينيان بإرسال بعثة مراقبة أوروبية ثانية إلى المنطقة في أقرب وقت ممكن، لكن من غير المرجح أن يساعد ذلك في حال انتقل الصراع على الحدود إلى المرحلة المسلحة. وفي أفضل الأحوال بالنسبة للأرمن، سيدين الغرب تصرفات باكو. لكن، بما أن أذربيجان الآن هي أحد الموردين الرئيسيين للغاز الطبيعي لدول الاتحاد الأوروبي، فلن تفرض بروكسل عقوبات عليها بهدف التضامن مع أرمينيا، ما يمكن أن يحدّ من استيراد هذا المورد المهم استراتيجياً.

ويجب ألا ننسى أن تركيا تقف خلف باكو، ولا يريد الاتحاد الأوروبي ولا الولايات المتحدة إفساد العلاقات معها. فالخلافات الحالية مع أنقرة، من دون ذلك، تكفي. بالإضافة إلى أنه، في حال فتحت أذربيجان، بدعم من أنقرة، بشكل مستقل الممر التي هي في أشد الحاجة إليه، فسيكون حينها الأتراك قادرين على السيطرة على تصرفات إيران على طول الحدود الإيرانية – الأذربيجانية، وهو ما يصبّ في مصلحة الأميركيين. ويعتقد الخبير المذكور أن الوضع على المسار الأرمني – الأذربيجاني قريب من طريق مسدودة: يريفان تخشى فقدان شرعيتها، وبالتالي تحاول جاهدة تجنب الحوار، بينما لا تظهر باكو استعدادها للتسوية على الإطلاق. وبعد شهرين أو ثلاثة أشهر على هذه الحال، ستقوم أذربيجان بعملية عسكرية تؤدي إلى إحكام سيطرتها على قره باغ. لكن المسؤولية عن ذلك ستقع على عاتق موسكو، وهي النتيجة التي يتوق الغرب إليها حقا كي يظهر للجميع فشل روسيا كضامن للأمن.

لكن مع ذلك، أعتقد أنه سيكون لدى موسكو ما يكفي من الوسائل لدرء هذا التهديد. وفي الوقت نفسه، بطريقة أو بأخرى، سيتعين عليها تولي مهام حفظ السلام لاستعادة النظام في جنوب القوقاز، كما حدث منذ فترة مضت في كازاخستان. والمستقبل سيكشف هل الأمر كذلك أم لا.

في ظل هذه الظروف، من المهم بالنسبة لموسكو منع وقوع اشتباكات جديدة بين أرمينيا وأذربيجان، يمكن أن تتطور بسهولة إلى نزاع مسلح شامل. في الوقت نفسه، فإن موسكو وباريس هما الفاعلتان العالميتان اللتان ستكون يريفان مستعدة للاستماع إلى رأيهما. لكن، من غير المتوقع أن تكون باريس، حتى في هذا الاتجاه، مستعدة للتعاون بصدق مع موسكو. بالإضافة إلى ذلك، وفقاً لمحلل من باكو اشترط عدم الكشف عن هويته، فإن منصة بروكسل، بمشاركة فرنسا، قد فقدت مصداقيتها في نظر القيادة الأذربيجانية بتصريحات وقرارات متحيزة تدين باكو، ويتعين على الأوروبيين اتخاذ خطوات جادة في هذا الإطار كي تسمح أذربيجان بقبول مشاركتهم مرة أخرى في عملية التفاوض.

ولكن، كيف يمكن القيام بذلك إذا تبنى البرلمان الأوروبي قراراً مؤيداً للأرمن ومعادياً لروسيا في موعد أقصاه 18 فبراير (شباط) 2023؟ فعلى وجه الخصوص، طالب أعضاء البرلمان الأوروبي باستبدال قوات حفظ السلام الروسية، التي تتمتع بثقة جميع الأطراف في هذه المنطقة، بقوات حفظ سلام تابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

في الوضع الحالي، تعمل واشنطن بشكل أكثر فاعلية على تعزيز خدمات الوساطة التي تقدمها. ويبدو أن باكو ستحاول استخدام الإمكانات الأميركية أيضاً. فإذا فشلت باكو في استخدام هذه الفرصة الأخيرة لحل النزاع، كما عبّر عن ذلك الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، والتوقيع على معاهدة سلام (من أجل القفز والخروج في النهاية من هذا الشريط اللعين)، فما الذي يمكن أن ننتظره إذن؟ هل باستخدام القوة لقضية قره باغ؟

*رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى