ترجمات أجنبية

فورين أفيرز: فراغ في السلطة بالشرق الأوسط

منطقة لا يتولى أحد القيادة فيها

فورين أفيرز 3-2024، غريغ كارلستروم *: فراغ في السلطة بالشرق الأوسط

غريغ كارلستروم

الحروب قادرة على تبديد الغموض تارة وزيادته طوراً، ويشير الرأي السائد حول حرب الأيام الستة عام 1967 إلى أن إسرائيل تمكنت من القضاء بسرعة على موجة القومية العربية التي كانت تجتاح الشرق الأوسط وتطيح بالأنظمة الملكية.

وبحسب الرواية التي تدور حول حرب عام 2006 في لبنان، فقد حارب “حزب الله” إسرائيل إلى أن انتهى الصراع من دون فوز واضح لأي من الطرفين، ونجح في تحطيم صورة الجيش الذي لا يقهر في وقت كانت فيه الجيوش العربية قد تخلت منذ فترة طويلة عن القتال ضد إسرائيل. وفي كثير من الأحيان بدا أن الصراعات العربية – الإسرائيلية توضح الأحداث، وفي الواقع تسهم أيام الحرب في إعادة تشكيل أفكار كانت راسخة لعقود من الزمن.

لكن القصص التي تنشأ عن هذه الحروب تكون أحياناً أشبه بنسج حكايات واختلاق أساطير من نوع خاص، فقصة عام 1967، على رغم أنها صحيحة جزئياً، إلا أنها مبتذلة وتفتقر إلى العمق. وينطبق الشيء نفسه على حرب عام 2006 ضد “حزب الله”، فلم تكن هذه هي الهزيمة العسكرية الأولى التي منيت بها إسرائيل، وخير شاهد على ذلك هو احتلالها الطويل جنوب لبنان الذي انتهى قبل ستة أعوام من حرب 2006 بانسحاب أحادي مهين وانهيار فوري لـ “جيش لبنان الجنوبي”، وهو قوة عميلة حاربت هناك بالوكالة عن إسرائيل.

وفي الواقع لم تكتسب إسرائيل سمعة الدولة التي لا تقهر إلا لأن أخطر خصومها كانوا قد استسلموا، لكن الحرب كانت تشهد تغيراً، أقله في الشرق الأوسط، حيث حلت حملات الاستنزاف ضد الجهات غير الحكومية محل المعارك بين الجيوش، وكانت إسرائيل، مثل الولايات المتحدة، تحاول جاهدة تكييف التكتيكات التقليدية لمواجهة تهديد غير تقليدي.

ومن السابق لأوانه أن نستخلص من الحرب العربية – الإسرائيلية الأخيرة قائمة كاملة من الاستنتاجات، لكن خمسة أشهر من القتال بين إسرائيل وحماس دحضت [كشفت زيف] بعض الأفكار الكبرى التي ادعت أن القضية الفلسطينية ماتت، وأن التحالف الإسرائيلي – الخليجي الناشئ سيوفر ثقلاً موازناً ضد إيران، وأن المنطقة التي أنهكها الصراع ستعطي الأولوية لوقف التصعيد والنمو الاقتصادي، وأن شرق أوسط جديد سيظهر في مرحلة ما بعد أميركا [شرق أوسط لم يعد بحاجة إلى تدخل أميركي].

باتت الرؤية واضحة الآن

وحتى السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بدت إستراتيجية فرق تسد التي اتبعتها إسرائيل منذ فترة طويلة تجاه الفلسطينيين ناجحة، فلقد بذل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كل ما في وسعه لتقويض السلطة الفلسطينية، حتى عندما كان يعقد صفقات مع حركة “حماس” ويسهل تحويل مليارات الدولارات إلى حكومتها في قطاع غزة، ثم ادعى أن إسرائيل ليس لديها على الجانب الفلسطيني أي شريك تتفاوض معه لأن “حماس” هي الطرف الأقوى.

وبين الفينة والأخرى كانت تندلع جولة من القتال تستمر أسبوعاً في غزة أو موجة من هجمات الذئاب المنفردة في القدس والضفة الغربية، لكن الرأي السائد أشار إلى أن الفلسطينيين كانوا مضطهدين ومنقسمين للغاية لدرجة تمنعهم من فعل أكثر من ذلك، وكان العالم قد فقد الاهتمام بقضيتهم، ولم تعد الولايات المتحدة ترغب في لعب دور الوسيط، فيما ركزت الصين والهند على أولويات أخرى، حتى إن بعض الدول العربية كانت مهتمة بعقد صفقات مع شركات التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلية أكثر من اهتمامها بالحض على إقامة دولة فلسطينية، ولم يكن هناك أي ضغط على إسرائيل لإنهاء احتلالها الذي بدا وكأنه يستطيع الاستمرار إلى أجل غير مسمى بكلفة قليلة.

كانت هذه وجهة نظر نتنياهو ولكن شاركه فيها كثيرون غيره، فاعتقد الإسرائيليون من مختلف الأطياف أن بإمكانهم تجنب القضية الفلسطينية، وقبل عقد من الزمان عندما كان إسحاق هرتسوغ (الرئيس الإسرائيلي الحالي) المنتمي إلى يسار الوسط هو المنافس الرئيس لنتنياهو على منصب رئيس الوزراء، كان الوقت الذي يمضيه في الحديث عن الطاقة الشمسية أطول من الوقت المخصص لتناول الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وأظهرت استطلاعات الرأي أن غالبية اليهود الإسرائيليين يفضلون الحفاظ على الوضع الراهن عوضاً عن السعي إلى حل الدولتين.

وبالطبع كان منظور نتنياهو خاطئاً بشكل كبير، وقد تفاجأ كثيرون بحقيقة أن الشرارة وراء تجدد الصراع جاءت من غزة التي بدت هادئة نسبياً، وليس من الضفة الغربية التي كانت (ولا تزال) بمثابة قنبلة موقوتة.

واعتقدت إسرائيل أن “حماس” لم تعد مهتمة بصراع واسع النطاق، فقبل عام واحد وحسب، عندما أطلقت حركة “الجهاد الإسلامي”، وهي جماعة فلسطينية مسلحة، مئات الصواريخ عبر الحدود، بقيت “حماس” على الحياد وبدا أنها تركز على تعزيز حكمها في غزة. وكان من المفاجئ، ربما حتى بالنسبة إلى “حماس” نفسها، أن يتمكن الإرهابيون الذين هاجموا إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023 من التسبب في هذا الحجم من الضرر، لكن عودة أطول صراع غير محلول في المنطقة للحياة في نهاية المطاف، لم يكن من المفترض أن يشكل صدمة لأحد.

ونظراً إلى أن واشنطن كانت تسعى إلى مغادرة الشرق الأوسط فقد رأت في ذلك فرصة، فإذا تمكنت إسرائيل ودول الخليج من تولي مهمة احتواء إيران ووكلائها فستكون هناك حاجة أقل للقوات الأميركية، ولكن على رغم ذلك تُقاتل إسرائيل والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وكلاء إيران في خمسة أماكن في الوقت الحاضر، هي غزة والعراق ولبنان وسوريا واليمن، في غياب تام لدول الخليج التي عملت عوضاً عن ذلك على مضاعفة جهودها الرامية إلى تحقيق الوفاق مع إيران.

وكانت الولايات المتحدة مشتتة بسبب الحرب في أوكرانيا والمنافسة مع الصين والسياسة الداخلية المضطربة، وكان يُنظر إليها على أنها شريك مخيب للآمال وعرضة لتقلبات غير متوقعة في السياسة، وفي المقابل أثبتت روسيا أنها حليف موثوق وفعال حين هبت لإنقاذ الديكتاتور السوري بشار الأسد عام 2015 عندما تدخلت نيابة عن الحكومة في الحرب الأهلية السورية.

أما الصين فلم تكن قد تحولت بعد لقوة عسكرية في الشرق الأوسط، لكنها كانت على ما يبدو تمثل مصدراً لا ينضب للاستثمار وتقدم إمدادات متزايدة من الأسلحة والتكنولوجيا، وهكذا لم تعد الولايات المتحدة دولة لا غنى عنها.

ولكن في خضم أسوأ أزمة تشهدها المنطقة منذ عقود فبالكاد يمكن رؤية روسيا والصين على الساحة [فإن مشاركة كل من الصين وروسيا بالكاد كانت ملحوظة]، ولقد استخدمتا الصراع لتسليط الضوء على ما ينظر إليه على أنه نفاق غربي، وهي تهمة لاقت جمهوراً متجاوباً في الشرق الأوسط، لكن لم يتطلع أحد إلى موسكو أو بكين لممارسة الدبلوماسية أو تقديم المساعدات أو دعم الأمن الإقليمي، وحتى عندما تكون مصالحهما الخاصة على المحك فهما لا تستطيعان (أو لا تنويان) الاضطلاع بدور مهم.

واستكمالاً يتعين على الصين أن تولي اهتماماً للهجوم الذي يشنه الحوثيون على السفن في البحر الأحمر منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، إذ إنه يعرض التجارة مع أوروبا للخطر، لكن الصين لم ترسل سفناً حربية إلى المنطقة، وعلى رغم أنها أكبر شريك تجاري لإيران إلا أن بكين لم تستخدم نفوذها لإقناع النظام في طهران بكبح جماح الحوثيين، بل اكتفت عوضاً عن ذلك بالتوسل من أجل السماح للسفن الصينية بعبور البحر الأحمر من دون التعرض لمضايقات.

ومرة أخرى كان من المفترض أن يكون هذا واضحاً قبل السابع من أكتوبر 2023، فعندما نسترجع الأحداث الماضية نرى بوضوح أن تدخل روسيا في سوريا شكل ذروة نفوذها في المنطقة، وبعد ثلاثة أعوام حاولت روسيا مساعدة أمير الحرب الليبي خليفة حفتر في الاستيلاء على طرابلس، بيد أن هجومه أُحبط بالطائرات المسيرة التركية.

وعلاوة على ذلك أدى غزو أوكرانيا إلى تقويض نفوذ روسيا بشكل أكبر، فأصبح لديها عدد أقل من الأسلحة لبيعها في الشرق الأوسط، وأموال أقل للاستثمار في المنطقة، وبسبب انشغالها في أوروبا تولي موسكو اهتماماً أقل حتى لأقرب حلفائها في الشرق الأوسط، وفق ما قاله لي مسؤول إسرائيلي في يناير، شرط عدم الكشف عن هويته لأنه لم يكن مخولاً بالتحدث مع الصحافيين، “إنهم يخسرون سوريا لمصلحة إيران”.

وفي الوقت نفسه كان الإنجاز الدبلوماسي الوحيد الملحوظ الذي حققته الصين في المنطقة هو دورها في تسهيل التقارب الإيراني – السعودي العام الماضي، إلا أن غالبية الجهود المضنية بذلتها جهات أخرى، وكان من المفترض أن يكون هذا التقارب مؤشراً على حقبة جديدة من الهدوء الإقليمي.

وقبل السابع من أكتوبر 2023 أثبتت الحقبة الجديدة من الود الإقليمي أنها قصيرة الأجل مع انزلاق السودان إلى حرب أهلية مروعة بعد أسابيع وحسب من الاتفاق الإيراني – السعودي، وتبين أن المنطقة المليئة بدول منهارة ومتداعية وصراعات غير محلولة لا تشكل تربة خصبة لأفكار أو مبادرات جديدة.

لا قوة مهيمنة في المنطقة

يمكن للأساطير أن توفر رؤى قيمة حتى لو كانت غير صحيحة، ولقد روج بعض المسؤولين الخليجيين لفكرة عالم متعدد الأقطاب لأنهم كانوا غاضبين حقاً من الولايات المتحدة، بينما فعل آخرون ذلك على أمل إقناع الولايات المتحدة بالبقاء في الشرق الأوسط، وعلقت واشنطن آمالها على بنية أمنية جديدة لأنها أرادت المغادرة، فيما آمن الإسرائيليون باحتلال لا نهاية له ومنخفض الكلفة لأن القوى الكبرى في المنطقة أشارت إلى أن ذلك سيكون مقبولاً، وبعبارة أخرى فإن الشرق الأوسط يشهد تغيراً حتى لو أخطأ صناع القرار السياسي في تقييمهم لتلك التغييرات.

لا شك في أن نفوذ الولايات المتحدة يتضاءل، لكن الصين وروسيا لم تتحولا بعد إلى قوتين كبيرتين في الشرق الأوسط، ولا تستطيع واشنطن إقناع إسرائيل بتأييد حل الدولتين أو عودة السلطة الفلسطينية لغزة، وفي حين أنها تمتلك قوة كافية لإرسال مجموعتين من حاملات الطائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط ونشر قاذفات قنابل من طراز (B-1) لتحلق مسافات طويلة جداً لضرب الحوثيين والميليشيات العراقية، فهي تفتقر إلى القدرة على ردع تلك الميليشيات عن مهاجمة السفن التجارية أو القوات الأميركية، وعلى رغم أن الولايات المتحدة أسهمت في تجنب الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” خلال الأيام التي تلت السابع من أكتوبر 2023، وربما تكون ضرباتها على الحوثيين قد أدت إلى إتلاف مخزونهم من الصواريخ المضادة للسفن بشكل موقت، إلا أن جهودها الدبلوماسية والعسكرية الشاملة في الأشهر الخمسة الماضية أسفرت عن نتائج محدودة، وحتى عندما تتولى دوراً أكثر نشاطاً في المنطقة فهي ضعيفة وغير فعالة، إذ إنها تستخدم إستراتيجية “ضرب رأس الخلد” للرد على وكلاء إيران [الاستجابة بطريقة فورية وعشوائية مع المشكلات عند ظهورها من دون إيجاد حلول جذرية]، وتتوسل إلى حكومة إسرائيلية غير متعاونة.

وإذا كانت الآمال الأميركية المعقودة على بناء تحالف مناهض لإيران غير واقعية، فالتحالفات الإيرانية تواجه صعوبات أيضاً، ففي المقابلات التي أجريت خلال الأشهر الأربعة الماضية قد يكون الشيء الوحيد الذي اتفق عليه المسؤولون الأميركيون والعرب والأوروبيون والإيرانيون والإسرائيليون هو أن “حماس” وجهت ضربة إلى إسرائيل من دون استشارة رعاتها في طهران، ومنذ ذلك الحين رفض النظام الإيراني إطلاق العنان لوكيله الأقوى “حزب الله” الذي يتعرض لضغوط في لبنان بمن في ذلك من ناخبيه الشيعة، خوفاً من أن يجر البلاد إلى حرب مع إسرائيل.

وبطريقة موازية تشعر إيران بالقلق إزاء تصرفات وكلائها في العراق واليمن، فالهدف من “محور المقاومة” كان إبعاد الصراعات عن حدود إيران، لكن استخدام هذا المحور الآن يعني المخاطرة بتفاقم التوترات في البلاد.

في الواقع تمر المنطقة حالياً بمرحلة انتقالية، ودعونا ننسى الحديث عن الأحادية القطبية أو التعددية القطبية، فالشرق الأوسط منطقة “غير قطبية” [لا يدور في فلك قوة راجحة] ولا ترجح فيه كفة قوة مهيمنة، فالولايات المتحدة التي كانت في الماضي زعيمة قوية أصبحت غير مهتمة وغير فعالة، وبالمثل يكافح منافسوها من القوى العظمى لتأكيد نفوذهم بشكل فعال، والدول العربية، تماماً مثل إسرائيل، غير قادرة على ملء هذا الفراغ ولا يمكن لإيران إلا أن تلعب دور المفسد ومثير المتاعب، والجميع يقفون متفرجين ويواجهون المشكلات الاقتصادية وأزمات وكان هذا الواقع قائماً قبل السابع من أكتوبر 2023 حتى، وكل ما فعلته الحرب هو تبديد الأوهام.

*غريغ كارلستروم هو مراسل مجلة “ذي إيكونوميست” في الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى