فورين أفيرز: عام ترمب الحافل بالأخطار، كيف تعيد الولاية الثانية للرئيس الأميركي تشكيل الولايات المتحدة والعالم
كيف تعيد الولاية الثانية للرئيس الأميركي تشكيل الولايات المتحدة والعالم

فورين أفيرز 12-11-2025، بيتر د. فيفر: عام ترمب الحافل بالأخطار، كيف تعيد الولاية الثانية للرئيس الأميركي تشكيل الولايات المتحدة والعالم

يتفق مؤيدو الرئيس الأميركي دونالد ترمب كما منتقدوه على أن سنته الأولى من ولايته الرئاسية الثانية، كانت بالغة الاضطراب على نحو استثنائي. إلا أن هذه الاضطرابات على رغم أهميتها، لم تكن على الإطلاق غير متوقعة. فحتى أثناء الفرز النهائي لأصوات الناخبين، كان هناك ما يكفي من معلومات عن نيات لدى ترمب تسمح بوضع توقعات واثقة نسبياً في شأن شكل ولايته الرئاسية الثانية، تماماً كما كانت مجلة “فورين أفيرز” فعلت قبل نحو عام. وبدأ كثير من تلك التوقعات يتحقق بالفعل. فعلى سبيل المثال، جاء اختيار كبار مستشاريه – كما كان قد تعهد – بناء على مبدأ الولاء الشخصي له، وقدرة هؤلاء على حشد قاعدته الشعبية. ومع وجود بعض الاستثناءات البارزة – مثل وزير الخارجية ماركو روبيو ووزير الخزانة سكوت بيسنت اللذين كانا لينسجما مع تركيبة حكومة ترمب الأولى – فإن الموظفين الذين يقودون الآن جهاز السياسة في ولايته الثانية، هم في الغالب ممن يعرفون بـ”وكلاء الفوضى” الذين كان متوقعاً وصولهم بعد الانتخابات.
ويميل ترمب على نحو أكبر إلى التصرف بصورة أحادية الجانب، وهو مسار كان متوقعاً بالنظر إلى أنه تولى منصبه هذه المرة من دون كثير من القيود الجيوسياسية التي كبلته سابقاً. فعام 2017، على سبيل المثال، ورث حربين ائتلافيتين تشارك فيهما قوات أميركية (أفغانستان وحملة مكافحة تنظيم “داعش”)، وكانت يداه مقيدتين تجاه إيران بسبب النهج الدبلوماسي الائتلافي المجسد في خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015. وبالمثل، فإن قيود النظام التجاري العالمي التي كانت إدارة ترمب الأولى قد سعت أصلاً إلى تقليصها، تقلصت أكثر خلال السنوات اللاحقة بفعل الجهود المبذولة بعد جائحة كورونا لتعزيز المرونة. وعلى المستوى الاقتصادي، كانت يد ترمب أكثر تحرراً بكثير عام 2025، مما أتاح له المضي في نهجه التصاعدي المتطرف لجهة فرض الرسوم الجمركية.
وكان من الممكن أيضاً توقع أن تكون العلاقات المدنية – العسكرية أكثر وعورة هذه المرة. فقد أمضى ترمب جزءاً كبيراً من ولايته الأولى محاطاً بقيادات عسكرية متقاعدة، لكن خلال الأشهر الستة الأخيرة من تلك الولاية، ومع ازدياد تباعد نصائحهم عن تفضيلات ترمب وانتقاد قاعدته له بدعوى رضوخه لمخاوفهم، خلص ترمب إلى أن المؤسسة العسكرية جزء من “الدولة العميقة” التي تسعى إلى إعاقته. وأوضح ترمب وممثلون عنه أنهم ينوون “تنظيف البيت” عند عودتهم. وعلى رغم أن قراره بإقالة ما لا يقل عن 15 ضابطاً رفيعاً – كثير منهم نساء أو من غير البيض – من دون الإشارة إلى حالات محددة من التقصير كان مقلقاً، فإنه لم يكُن مفاجئاً تماماً.
ومع ذلك، وعلى رغم أن ما حدث في مستهل ولايته كان قابلاً للتوقع، فإن عدداً من التطورات مضى أبعد وأسرع مما تخيله معظم المراقبين. فقد نجح ترمب فعلاً في إحداث صدمة على ثلاثة محاور رئيسة: نشره القوات العسكرية داخل الولايات المتحدة؛ وتحويله بوصلة السياسة الخارجية نحو نصف الكرة الغربي ليصبح ساحة التحرك الرئيسة، مما وضع الصين عملياً في مرتبة ثانوية؛ وقدرته على إخضاع الكونغرس ودفعه إلى التنازل عن صلاحياته ومسؤولياته. وتشير دلالة هذه المفاجآت في سنته الأولى، وربما طابعها المستدام، إلى أنها قد تترك أثراً يتجاوز حجمها على إرثه في الأمن القومي والسياسة الخارجية. كما أنها قد تخلق ظروفاً لتحول حاد في الاتجاه مستقبلاً، حين يحاول رؤساء لاحقون المبالغة في التصحيح أو، على العكس، استغلال الحدود الجديدة التي أرساها ترمب للمضي في أجنداتهم الخاصة.
معضلة نشر القوات
بالنظر إلى القدر الكبير الذي ركز به ترمب حملته على قضية الهجرة، لم يكُن سراً أنه، بعد عودته للمنصب، سيتجه إلى الداخل متبنياً موقفاً صارماً تجاه المهاجرين غير الشرعيين. فخلال خطاباته الانتخابية، طرح فكرة إشراك الحرس الوطني في جهود الترحيل – وهي امتداد للطريقة التي استخدم بها وحدات عسكرية في تسيير دوريات على الحدود الجنوبية مع المكسيك خلال ولايته الأولى. وكرر تأكيده على أن أجهزة إنفاذ القانون المحلية تعاني إرهاقاً مزمناً، وهو استنتاج توصل إليه خلال احتجاجات “حياة السود مهمة” عام 2020.
ومع ذلك، فإن قليلاً مما حدث أثناء ولايته الأولى أو ضمن حملته الانتخابية كان ينبئ بنوع عمليات الانتشار العسكري الداخلي التي أمر بها في ولايته الثانية. فأرسل ترمب آلاف الجنود من الحرس الوطني إلى مدن أميركية كبرى مثل شيكاغو ولوس أنجليس وممفيس وبورتلاند وواشنطن العاصمة، وفي معظم الحالات كان ذلك على رغم اعتراض السلطات المحلية. وفي لوس أنجليس، أجاز ترمب أيضاً نشر عناصر من مشاة البحرية النظاميين، متذرعاً بأن الاحتجاجات المحلية التي اندلعت بسبب المداهمات العنيفة التي نفذتها وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك –خرجت عن السيطرة. وتحدث ترمب ومستشاروه مراراً عن احتمال تفعيل “قانون العصيان” الذي يمنح الرئيس صلاحية نشر قوة عسكرية كبيرة تعمل كذراع لإنفاذ القانون ومواجهة مع ما يعدّه حال طوارئ داخلية.
ليس ترمب، بأية حال من الأحوال، أول رئيس أميركي يضع الحرس الوطني تحت السلطة الفيدرالية أو ينشر قوات في الخدمة الفعلية للتعامل مع مشكلات داخلية. لكن غالبية عمليات الانتشار داخل البلاد تأتي عادة كاستجابة لكوارث طبيعية مثل “إعصار كاترينا” عام 2005، أو لتقديم الدعم في فعاليات كبرى كـ”نهائي دوري كرة القدم الأميركية ” أو حفلات تنصيب الرئيس. وبالمثل، لا يعد استخدام الجيش في تسيير دوريات على الحدود مهمة مستغربة. وحتى منتقدو لجوء ترمب إلى الجيش لمهمات الدوريات الحدودية خلال ولايته الأولى لم يشككوا في شرعية الانتشار بحد ذاته، بل تساءلوا عما إذا كان ذلك استخداماً فاعلاً أو مناسباً لموارد الجيش وتدريبه.
في المقابل، كان واضحاً أن استخدام ترمب للقوات العسكرية داخلياً خلال العام الماضي تجاوز الحد، إذ وضع مؤسسة يفترض أن تكون غير مسيسة في قلب صراعات حزبية. فجرى إرسال عناصر عسكرية أحياناً للتعامل مع احتجاجات سلمية على سياسات ترمب، وفي أحيان أخرى للتصدي لمعدلات الجريمة المرتفعة المزمنة. وفي بعض الحالات، أرسلوا من دون سبب واضح سوى استفزاز المدن ذات الغالبية الديمقراطية أو تهديدها. وصحيح أن رؤساء سابقين نشروا الجيش داخلياً في مهمات خلافية قدموها على أنها دفاع عن الدستور – ولا سيما خلال حقبة الحقوق المدنية، حين لم يكُن من الممكن الوثوق بأجهزة إنفاذ القانون المحلية لضمان حقوق جميع المواطنين. وكانت تلك العمليات مثار جدل سياسي في حينه، خصوصاً لدى سكان الجنوب الذين أرادوا الحفاظ على نظام الفصل العنصري المعروف بـ”جيم كرو” (الذي طبق من أواخر القرن الـ19 حتى منتصف ستينيات القرن الـ20، وبموجبه حرم الأميركيون السود من المساواة والحقوق المدنية). لكن التاريخ في نهاية المطاف برر تلك القرارات، وربما يعتقد ترمب بأن التاريخ سينصفه هو أيضاً. لكن الهوة الواسعة بين ضخامـة القوة العسكرية المستخدمة وهشاشة التهديدات المحلية في الوقت الراهن تثير احتمال أن تُحكم على عمليات الانتشار التي أمر بها ترمب، ليس بوصفها انتصاراً للدفاع عن الدستور، بل كوسيلة لتعزيز أجندة سياسية حزبية بصورة مباشرة.
وليس مفاجئاً أن الجيش امتثل لكل أوامر ترمب حتى الآن. فالجيش يؤدي دوراً استشارياً فقط في النظام الأميركي، إذ يقدم رأيه في مداولات الرئيس، لكنه لا يملك صلاحية تقييم ما إذا كان قرار الرئيس صائباً أو لا. أما الجانب المدهش في عمليات الانتشار فهو نية ترمب نفسها. فلا يزال من غير الواضح لماذا يرى ترمب أنها ضرورية أو حكيمة. وفي غياب تفسيرات واضحة ومقنعة من إدارته حول هدف هذه العمليات، يميل كثير من المنتقدين إلى وضع أسوأ السيناريوهات. فهم يفترضون، على سبيل المثال، أن ما يجري هو بمثابة تمهيد لعمليات انتشار أكثر عدوانية تنفذ في توقيت يهدف إلى التأثير في انتخابات 2026 [النصفية] و2028، إن لم يكُن التدخل فيها مباشرة. وإن صح ذلك ولو جزئياً، فإن تصعيداً بهذا الحجم سيقوض الثقة بنزاهة النتائج الانتخابية ويضع الجيش في موضع الملام على ما ستؤول إليه الأمور. وسيصعب ذلك على المؤسسة العسكرية أن تبقى جهة غير حزبية تعتمد عليها كل إدارة. كما سيحول الجيش إلى طرف غير موثوق في حماية الدستور.
العودة للداخل
ربما يكون من البديهي أن يعتزم رئيس يرفع شعار “أميركا أولاً” توجيه قدر أكبر من اهتمامه إلى نصف الكرة الغربي، لكن ما يبعث على الدهشة هو مدى إصرار إدارة ترمب الثانية على رفع مكانة هذا النصف إلى ما فوق منطقة المحيطين الهندي والهادئ في مقاربتها للسياسة الخارجية. فاستناداً إلى نموذج إدارة ترمب الأولى التي حشدت عملياً مختلف أجهزة الحكومة الفيدرالية لاعتماد موقف أكثر تشدداً تجاه الصين، كان من المتوقع أن تشكل منطقة المحيطين الهندي والهادئ أولوية في ولايته الثانية. وإن الرسائل الصادرة عن حملة ترمب الثانية وعدت هي الأخرى بإنهاء “الانشغالات” في غزة وأوكرانيا من أجل، كما قال نائب الرئيس جي دي فانس، “التركيز على القضية الحقيقية، وهي الصين”. كما أن معالجة التنافس مع الصين هي أيضاً المجال الوحيد الذي يحظى بإجماع واسع بين الحزبين.
لكن وعلى رغم أن الإدارة الأميركية لم تتجاهل منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فإنها فاجأت كثرٍ- وربما بكين قبل الجميع – بمدى التراجع الواضح في خصوصية ملف الصين في رؤية ترمب خلال ولايته الثانية، إذ يبدو أن ترمب يتعامل مع الصين من زاوية ضيقة تقتصر على الصفقات التجارية، لا من خلال استراتيجية شاملة توظف مختلف أدوات القوة الوطنية في إطار منافسة كبرى. وتواجه الصين حالياً رسوماً جمركية أعلى من معظم الدول الأخرى، لكن ترمب أبدى بوضوح استعداده لخفض هذه الرسوم إلى مستويات مماثلة لتلك المفروضة على دول أخرى، مقابل تعليق بكين قيودها على وصول الولايات المتحدة إلى المعادن النادرة. وبعد لقاء ترمب مع الرئيس الصيني شي جينبينغ في كوريا الجنوبية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أكد وجود إمكان لتقليص بعض الرسوم الأميركية على الصين، أو حتى تعليقها تماماً.
وتتعمق المفاجأة مع الطريقة غير المتوقعة التي يتعامل بها ترمب مع نصف الكرة الغربي، حيث برزت فجأة أهداف خارجية واسعة ونقاشات حول احتمال استخدام القوة. فحديثه عن توسيع الأراضي الأميركية لتشمل كندا وغرينلاند، واستعادة السيطرة على قناة بنما – وهو حديث عُد في البداية مجرد مزاح – يبدو اليوم أقرب إلى أنه أهداف فعلية ضمن سياسته الخارجية. وكرر ترمب هذه التهديدات مراراً، بما في ذلك عبر تصريحات مباشرة على منصات التواصل الاجتماعي.
وحول الرئيس “الحرب على المخدرات” من تعبير مجازي إلى برنامج فعلي. فهدد مراراً باستخدام القوة العسكرية لضرب عصابات المخدرات في المكسيك من دون تعاون الحكومة المكسيكية، مما سيُعد عملاً عدائياً ضد الجار الجنوبي للولايات المتحدة – وأول عملية عسكرية كبيرة هناك منذ أن أجاز الرئيس الأميركي وودرو ويلسون “الحملة التأديبية” لاعتقال الثوري المكسيكي بانشو فيا على هامش الحرب العالمية الأولى. وفي الوقت نفسه، يرفع ترمب بصورة كبيرة وتيرة العمليات العسكرية العدوانية والدبلوماسية القسرية ضد نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا، عبر ضربات متكررة وقاتلة تستهدف سفناً يقول إنها تنقل المخدرات في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ.
وعلى امتداد هذه المرحلة، قدمت إدارة ترمب كل ما يدل على أنها تسعى إلى تغيير النظام في فنزويلا، بما في ذلك تأكيد ترمب أخيراً أنه أجاز اتخاذ وكالة الاستخبارات المركزية إجراءات سرية هناك. وترمب نفسه كان قد اشتهر بانتقاده لاستراتيجية تغيير الأنظمة عام 2016، مما ساعد في جعله مرشحاً رئاسياً قابلاً للفوز منذ البداية. بالتالي فإن تحوله من منتقد لتغيير الأنظمة إلى داعم له هو من أكثر التطورات إدهاشاً حتى الآن. ويبدو سعي ترمب إلى الدفع نحو الانهيار العنيف لدولة في أميركا الجنوبية مفارقاً للسخرية، نظراً إلى أن ذلك قد يزيد بصورة مباشرة تدفق المهاجرين عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة – وهو الملف الذي خاض ترمب حملته بشراسة متعهداً بحله.
ويُعد تحول دونالد ترمب من الصين إلى نصف الكرة الغربي – من جميع الجوانب – بعداً غير متوقع إلى حد كبير في ولايته الثانية. وإذا استمر هذا التحول، فقد تكون له تداعيات عالمية واسعة، وربما يؤدي إلى تغيير ميزان القوى بما يصب بصورة حاسمة في مصلحة الصين، مع تراجع أكبر لنفوذ الولايات المتحدة على المستوى الدولي.
شيكات على بياض واختلالات
من الطبيعي إلى حد ما أن ينطلق الرؤساء الأميركيون خلال ولايتهم الثانية بطموحات كبيرة، تتجاوز حدود الواقع. فهم يتولون مناصبهم معتقدين بأن لديهم تفويضاً واضحاً من الناخبين، ولا يحتاجون إلى فترة التمرس نفسها التي يحتاج إليها الرؤساء أثناء ولايتهم الأولى. كما أنهم يسعون إلى الانطلاق بقوة لأنهم، حتماً، سيصلون إلى مرحلة “البطة العرجاء” [مرحلة نهاية الولاية التي يتضاءل فيها النفوذ] في رئاستهم.
لكن وعلى رغم إمكان التنبؤ بهذا النمط السياسي، فإن قدرة ترمب اللافتة على إحكام السيطرة على قاعدته وحزبه تُعد تطوراً جديداً. فحتى مع تذبذب أجندته على نحو واسع بين سياسات متناقضة وتراجعه عن وعود انتخابية – تسليح أوكرانيا مقابل عدم تسليحها، والتشدد مع الصين مقابل عقد صفقة معها، وإنهاء الحروب التي لا تنتهي مقابل ضرب الخصوم في ميادين متعددة – يواصل ترمب التباهي بمستويات مذهلة من الشعبية، مع نيل أكثر من 90 في المئة من تأييد الجمهوريين. وبالنسبة إلى نحو 43 في المئة من الأشخاص المستطلعة آراؤهم الذين يعرّفون أنفسهم بأنهم “جمهوريون” أو يميلون إلى الحزب “الجمهوري”، فإن المعيار الحاسم يكمن في الولاء التام لأجندة ترمب.
لكن ما هو أكثر إثارة للدهشة من استمرار ترمب في إحكام سيطرته على قاعدته هو الهيمنة الصادمة التي تمكن من فرضها على السلطة التشريعية. فكل رئيس حديث حلم بتجاوز الكونغرس وانتزاع بعض صلاحياته مثل السيطرة على أدوات الإنفاق، لكن ما من رئيس، منذ فرانكلين روزفلت، تمكن من فعل ذلك بالفاعلية نفسها التي حققها ترمب. ويزداد هذا الأمر إدهاشاً بالنظر إلى الغالبية الهامشية التي يتمتع بها الجمهوريون في الكونغرس الحالي، إذ يكفي أن ينشق عدد قليل من الجمهوريين نحو الديمقراطيين لإحباط بعض سياسات ترمب الأكثر راديكالية، لكنهم أبدوا تردداً لافتاً في القيام بذلك. أما القلة التي فكرت في تحدي الرئيس، فشهدت بسرعة تراجعاً في حظوظها الانتخابية. والأكثر إدهاشاً أن الأعضاء الذين أعلنوا تقاعدهم – بالتالي ليس لديهم ما يخشونه انتخابياً – لا يزالون مترددين في التصويت مع الديمقراطيين لكبح إدارة ترمب بأية صورة مؤثرة.
ومع الاكتساح الديمقراطي الكبير في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، قد يشعر الجمهوريون القلقون من سياسات ترمب بجرأة أكبر لممارسة أدوات الرقابة التشريعية. لكن حتى الآن، السمة الأبرز في ولاية ترمب الثانية هي حجم خضوع الكونغرس للسلطة التنفيذية، في وقت يتغوّل ترمب على الصلاحيات المستقلة للسلطة التشريعية.
وعلى سبيل المثال، تجاهل الرئيس الأميركي تعليمات الكونغرس الصريحة في ما يتعلق بالمساعدات الخارجية، وقوض مؤسسات السياسة الخارجية شبه المستقلة التي أنشأها الكونغرس. وهمش “مكتب المحاسبة الحكومية” والمفتشين العامين. وقلص في المقابل جلسات الإحاطة التي يقدمها مسؤولو السلطة التنفيذية إلى الكونغرس في مجالي الأمن القومي والسياسة الخارجية. وتجاوز رقابة الكونغرس على مبيعات الأسلحة إلى الشرق الأوسط والمساعدات الأمنية لأوكرانيا، حتى عندما قام الكونغرس نفسه بتخصيص هذه الموارد. وعلى رغم جميع هذه الانتهاكات الصارخة، لم يبذل المشرعون الأميركيون أي جهد حقيقي يذكر لاستعادة دورهم التقليدي في صنع السياسات.
وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد يتغير النظام الدستوري في الولايات المتحدة بصورة حاسمة. فكاتبو الدستور الأميركي وضعوا رئيساً يتمتع بسلطات واسعة لأنهم افترضوا وجود سلطتين تشريعية وقضائية قويتين تعملان كقوتين موازنتين. أما إذا تخلت هاتان السلطتان طوعاً عن مسؤولية فرض الضوابط على السلطة التنفيذية، فسيغدو القيد الوحيد على اندفاعات الرئيس هو مقدار الانضباط الذي يوفره مسار المداولات الداخلية داخل الإدارة.
غد ترمب
بعد عام على إعادة انتخاب ترمب، يكمن الجانب الأكثر غموضاً في المدة التي قد يستمر فيها كل ذلك. فخطوات ترمب – سواء المتوقعة منها أو المفاجئة – تفتح المجال أمام فرص هائلة للتغيير، ومن المؤكد أن الفاعلين الداخليين والخارجيين سيتفاعلون معها. فعلى الصعيد الداخلي، على سبيل المثال، زعزع ترمب توازنات دقيقة تشكل ركائز مهمة للعلاقات المدنية–العسكرية ولمنظومة الضوابط والتوازنات الدستورية. وبذلك، أثار أسئلة مقلقة حول مستقبل النظام الدستوري. ومع ذلك، فإن الاتجاهات الداخلية ليست قدراً لا يمكن عكسه. فإذا استعاد الكونغرس حماسته لحماية صلاحياته التشريعية وممارسة رقابة صارمة على السلطة التنفيذية، فقد يسلك ما بقي من ولاية ترمب الثانية مساراً مختلفاً تماماً عما شهده العام الأول. وإذا فاز الديمقراطيون بأحد مجلسي الكونغرس أو كليهما في الانتخابات النصفية عام 2026، فمن المرجح أن تعود القيود المفروضة على الرئيس لمعاييرها التاريخية – وربما حتى لدرجة الحزم التي عرفها الكونغرس خلال مرحلة ما بعد فضيحة “ووترغيت” مباشرة.
أما إذا أبقى “الجمهوريون” سيطرتهم على الكونغرس، أو حتى عززوا غالبيتهم فيه، فسيكون من الصعب توقع الآفاق المستقبلية. عندها، قد يبدو ترمب أكثر فأكثر كبطة عرجاء، وقد يرى “جمهوريون” طموحون بعض المزايا في النأي بأنفسهم عن سياسات ترمب الأكثر إثارة للجدل أثناء ولايته الثانية. ومن ناحية أخرى، ربما تمكن مثل هذه النتيجة الانتخابية التي تتحدى التاريخ، الإدارة من القيام بكل ما يلزم لترسيخ إرث دونالد ترمب كأكثر الرؤساء تأثيراً في العصر الحديث.
وعلى الصعيد الدولي، اعتمدت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة على نفوذها وقوتها في العالم اللذين بنتهما في مرحلة ما بعد “الحرب الباردة” للحفاظ على سلام القوى العظمى. لكن ترمب يستنزف هذه الاحتياطات، ومع مرور الوقت، ستنهار المؤسسات التي تعتمد عليها الولايات المتحدة لبناء قوتها وإدارة النظام العالمي. أما المستقبل فيبقى مجهولاً. وفي هذا الإطار، أوضحت الصين، وهي المنافس الرئيس للولايات المتحدة على الزعامة العالمية، أنها غير معنية بتعزيز النظام الذي بنته الولايات المتحدة. وهي تسعى بدلاً من ذلك إلى بناء نظام بديل يخدم مصالحها بصورة محددة ومباشرة. وفي الوقت الراهن، قد تستفيد بكين من انشغال ترمب بنصف الكرة الغربي، إذ يتيح لها ذلك فرصة متابعة تعزيز أجندتها في آسيا، المنطقة التي ستصبح الأكثر أهمية اقتصادياً في المستقبل.
في الوقت نفسه، لا يبدو أن أي اندماج متوقع لشركاء الولايات المتحدة وحلفائها قادر على استبدال القيادة الأميركية على الساحة الدولية. فالشركاء الأوروبيون والآسيويون، على رغم حرصهم على التعاون مع واشنطن لمواجهة التحديات الجيوسياسية، غير قادرين على إنتاج حلول دائمة ومجدية من دون أن تتحمل واشنطن نصيبها من الأعباء. وإذا استمر المسار الراهن من دون تغيير، فقد يؤدي استنزاف ترمب للنفوذ الأميركي إلى ظهور نظام جيوسياسي جديد – نظام تهيمن فيه القوى العظمى المعادية أو في أحسن الأحوال، غير المبالية بمصالح الولايات المتحدة، على مناطق نفوذ واسعة. ومع تصاعد الاحتكاكات بين هذه المناطق، ستزداد احتمالات التفكك الجيوسياسي وتصاعد خطر حرب بين القوى العظمى.
في النهاية، إن دونالد ترمب ومؤيديه محقون عندما يتفاخرون بالتأثير الاستثنائي الذي أحدثته الإدارة الثانية منذ توليها مقاليد السلطة في الولايات المتحدة. فقد كان العام الأول من ولايته حاسماً بمقدار أي عام أول لرئيس آخر منذ عهد روزفلت. وكثير من خطوات ترمب كان متوقعاً، بما في ذلك تقلباته المعتادة، إلا أن المفاجآت الحقيقية هي تلك التي يرجح أن تستمر آثارها لأعوام مقبلة. وهذه المفاجآت هي نفسها التي تجعل التوقعات طويلة الأجل أكثر صعوبة في التمييز.
بيتر دوغلاس فيفر هو أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة في “جامعة ديوك” الأميركية، ومؤلف كتاب “شكراً لخدمتكم: أسباب وعواقب ثقة الجمهور بالجيش الأميركي” Thanks for Your Service: The Causes and Consequences of Public Confidence in the U.S. Military. تولى ما بين عامي 2005 و2007 منصب المستشار الخاص للتخطيط الاستراتيجي والإصلاح المؤسسي في “مجلس الأمن القومي الأميركي”



