فورين أفيرز: إسرائيل والتفوق الجوي الجديد، الدروس المستخلصة من الضربات على إيران

فورين أفيرز 11-8-2025م، ديفيد ديبتولا: إسرائيل والتفوق الجوي الجديد، الدروس المستخلصة من الضربات على إيران

طوال أعوام، جادل المنظرون العسكريون وعلماء السياسة بأن القوة الجوية مبالغ في تقديرها، وقد عفا عليها الزمن في بعض النواحي. ويشير البعض إلى انتشار الطائرات المسيّرة الصغيرة غير المأهولة والرخيصة كدليل على أن التفوق الجوي التقليدي، أي القدرة على السيطرة على الأجواء، قد أصبح بالياً. ووفقاً لهذا الرأي، فإن الابتكار التكنولوجي جعل “الحرمان الجوي” [منع الوصول إلى المجال الجوي]، أي مجرد تقييد قدرة الخصم على العمل بحرية في الجو، بديلاً كافياً.
ويستشهد آخرون بما يسمى “فخ القنبلة الذكية”، وهي فكرة أن القادة قد أصبحوا واثقين بشكل مفرط من قدرة الضربات الجوية الدقيقة على إجبار الدول على الخضوع والاستسلام. ويرى هؤلاء النقاد أن القوة الجوية وحدها لا يمكن أن تحقق الأهداف السياسية، بل إنها غالباً ما تؤدي إلى حملات قصف لا نهاية لها وعديمة الجدوى. فعلى سبيل المثال، أكد عالم السياسة روبرت بيب عام 1996 أن “حملات القصف الإستراتيجي لم تحقق يوماً نتائج حاسمة”. وتكمن تحت هذه الانتقادات رسالة واضحة: القوة الجوية محدودة جداً، ومكلفة جداً، أو تعتمد بشكل مفرط على وعود الابتكارات التكنولوجية، بحيث لا يكون لها أثر كبير أو أهمية فعلية.
ثم، في يونيو (حزيران) الماضي، شنّت إسرائيل عملية “الأسد الصاعد”، وهي حملة جوية ضد إيران. وعلى مدى فترة لا تتعدى 12 يوماً، نفذت القوات الجوية الإسرائيلية نحو 1500 طلعة جوية قتالية، وأجرت أكثر من 600 عملية تزود بالوقود جواً، وضربت أكثر من 900 هدف إيراني، من بينها منشآت نووية محصّنة، وبطاريات صواريخ، ومراكز قيادة عسكرية. وكانت النتائج حاسمة: فقد أعيقَ البرنامج النووي الإيراني بشكل كبير، ودُمّرت عناصر رئيسة من شبكة الدفاع الجوي الإيراني، وتلقّت القيادة العسكرية الإيرانية ضربات موجعة. وكل ذلك من دون أن تخسر إسرائيل طائرة مأهولة واحدة.
وعلى رغم أن إسرائيل لم تقضِ تماماً على القدرات النووية الإيرانية، فإن حملتها الجوية أخّرت وأضعفت وردعت طموحات إيران، وأسهمت في تغيير المشهد السياسي في الشرق. لقد مثّلت عملية “الأسد الصاعد” عرضاً مذهلاً لما يمكن أن يحققه سلاح جو حديث، مدعوم بإستراتيجية سليمة وعزيمة سياسية. وأعادت تأكيد قدرة القوة الجوية على تحقيق نتائج سياسية ملموسة من دون خوض حرب برية طويلة الأمد.
إخلاء الأجواء
لقد أرست الحملة الجوية التي قادتها الولايات المتحدة في عملية “عاصفة الصحراء” عام 1991 مبادئ الحرب الجوية الحديثة: وهي تحقيق التفوق الجوي، وضرب مراكز ثقل العدو الأساسية بشكل متزامن، واستخدام التخفي والدقة، وإعطاء الأولوية لتحقيق الآثار المرجوة بدلاً من التركيز على استنزاف القوات وإنهاكها. وقد طبّقت إسرائيل تلك الدروس. فقد استخدم سلاح الجو الإسرائيلي مقاتلات الشبح من طراز “أف-35آي” F-35I لتدمير بطاريات صواريخ أرض-جو الإيرانية. ووفرت هذه الطائرات معلومات استهداف آنية لمقاتلات “أف-15آي” F-15I و”أف-16آي” F-16I غير الشبحية، التي نفذت ضربات دقيقة على أهداف إضافية. وقامت الطائرات المسيّرة بجمع المعلومات الاستخباراتية، والتشويش على الاتصالات، وسمحت لإسرائيل بإطلاق مزيد من الذخائر الموجهة بدقة.
هذا المزيج المدمر من التخفي والدقة والمراقبة المستمرة سمح لإسرائيل بتحقيق التفوق الجوي بسرعة والحفاظ عليه. ومن خلال إضعاف الدفاعات الإيرانية، مهدت إسرائيل الطريق لعملية “مطرقة منتصف الليل” الأميركية، التي استهدفت فيها قاذفات الشبح “بي-2” B-2 المنشآت النووية العميقة التحصين في فوردو ونطنز، التي لا يمكن الوصول إليها إلا باستخدام القنابل الأميركية الضخمة الخارقة للمنشآت.
وقد أشار بعض النقاد إلى أن الحملة فشلت في تدمير كامل البنية التحتية النووية الإيرانية. لكن هدف إسرائيل من عملية “الأسد الصاعد” كان تعطيل برنامج إيران النووي وتأخيره مع الاحتفاظ بالقدرة على شن هجوم جديد، وليس القضاء عليه نهائياً. ووفقاً لهذه المعايير، حققت عملية “الأسد الصاعد” نجاحاً مدوياً. فمن خلال شل مواقع التخصيب والدعم العسكري الرئيسة، والقضاء على الكوادر العسكرية والعلمية الرفيعة المستوى، وتحقيق التفوق الجوي فوق إيران، فرضت إسرائيل إستراتيجية الحرمان من خلال التأخير أي منع الخصم من تحقيق أهدافه ليس من خلال إبطاء تقدمه وتأجيل تحقيقه أهدافه إلى أقصى حد ممكن]، وذلك كله من دون إرسال قوات برية إلى إيران أو الانجرار إلى صراع طويل الأمد. في الواقع، فإن أية جهود إيرانية مستقبلية لتخصيب اليورانيوم أو إعادة بناء المنشآت ستجري الآن تحت تهديد الضربات الجوية الإسرائيلية الدقيقة.
والأهم من ذلك، أن إسرائيل حققت جميع أهدافها بكفاءة وفعالية. فقد نالت تفوقاً جوياً على رغم آلاف الأميال التي تفصلها عن إيران، في غضون 12 يوماً فقط ومن دون تكبّد أية خسائر بشرية. ولم يكن بالإمكان تحقيق هذه النتائج إلا من خلال القوة الجوية، إذ إن أية حملة برية ما كانت لتتمكن من ضرب هذه المنشآت بهذه السرعة والدقة والشدة، ومن دون وقوع أية خسائر بشرية.
من المؤكد أن عملية “الأسد الصاعد” لم تكن حملة جوية وحسب، بل عملية متكاملة ومتعددة المجالات. فالعمليات السيبرانية عطّلت منظومة القيادة والسيطرة الإيرانية، في حين وفرت منصات الاستخبارات، والمراقبة، والاستطلاع، سواء الفضائية أو الجوية، بيانات استهداف شبه فورية. وساعدت الحرب الإلكترونية في تعطيل رادارات العدو. أما الفرق البرية السرية داخل إيران، فقد استخدمت طائرات مسيّرة صغيرة لكبح الدفاعات ونقل الإحداثيات. وإلى جانب ذلك، فإن مجموعة واسعة من العمليات العسكرية التي جرت على مدى أعوام في غزة ولبنان وسوريا كانت قد أضعفت بصورة كبيرة وكلاء إيران في المنطقة، مما حدّ من قدرة طهران على الرد.
هذه العناصر مجتمعةً منحت إسرائيل تفوقاً ساحقاً. لكن القوة الجوية هي التي لعبت الدور الأكبر، إذ وفّرت السرعة والمدى والضربة الحاسمة التي جعلت من عملية “الأسد الصاعد” نجاحاً مطلقاً لا لبس فيه.
أدوات جديدة والدرس ذاته
لقد تحسّنت قدرات القوة الجوية المتقدمة بشكل ملحوظ منذ عملية “عاصفة الصحراء”، حين كانت الطائرات تفتقر إلى تقنيات الاستشعار الدقيقة، والاتصال الفوري، والذخائر القابلة للاستخدام في جميع الأحوال الجوية. أما اليوم، فإن مقاتلات الجيل الخامس، مثل “أف-35” F-35، قادرة على دمج البيانات من مجموعة متنوعة من أجهزة الاستشعار الموجودة على متنها، وتحويلها إلى معلومات استهداف دقيقة، ومشاركتها مع الطائرات الأخرى. تعمل طائرات “أف-35” كمزيج متكامل من أجهزة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع القادرة على الاستشعار والاستهداف، مما يمنح مستخدميها كماً أكبر من المعلومات واتصالاً رقمياً يمكّنهم من ضرب الأهداف بدقة فور كشفها. كذلك فإن تقنية التخفي تتيح لها العمل داخل المجالات الجوية المتنازع عليها. بفضل هذه الابتكارات، يلزم عدد أقل من طائرات الجيل الخامس لتحقيق ما كان يتطلب في السابق عشرات الطائرات غير الشبحية الأقل كفاءة.
مع ذلك، لا يقتصر التقدم التكنولوجي على الطائرات المقاتلة الحديثة وحدها، إذ أصبحت الدفاعات الجوية أقل ثمناً وأكثر قدرة على التكيّف من أي وقت مضى. فالذكاء الاصطناعي، وأنظمة الأسلحة الذاتية التشغيل، وتقنيات دمج المعلومات المتقدمة، كلها تغيّر طبيعة الحرب. ففي صراع ناغورنو قره باغ عام 2020، على سبيل المثال، استخدمت أذربيجان شبكة من طائرات بيرقدار “تي بي 2″TB2 المسيّرة، ومسيّرات انتحارية، وبيانات استهداف آنية، لإلحاق أضرار مدمرة بالقوات الأرمينية. لكن حتى في مواجهة أساليب الحرب المتطورة، تبقى المزايا الجوهرية للقوة الجوية قائمة. فلا يزال بإمكان القوة الجوية تغيير سلوك الخصوم، وفرض الخطوط الحمراء الإستراتيجية، وإعادة تشكيل التوازن العسكري الإقليمي، كل ذلك من دون استنزاف خزينة الدولة أو تعريض أبنائها وبناتها لأخطار مفرطة. في الواقع، فإن فشل روسيا في تحقيق التفوق الجوي على أوكرانيا حوّل ما اعتقد الكرملين أنه سيكون غزواً سريعاً وبسيطاً إلى حرب استنزاف طاحنة. على النقيض من ذلك، استخدمت إسرائيل القوة الجوية الحديثة لتجنب مثل هذا الفخ. فهي لم تُشرك قوات برية كبيرة، ومن ثم تفادت الانجرار إلى حرب لا نهاية لها، كما كان مصير واشنطن في أفغانستان والعراق.
كل هذا لا يعني أن الحملات الجوية وحدها قادرة على تحقيق كل شيء: فالعمليات في أي مجال لا تحقق النصر بمفردها. لكن منتقدي القوة الجوية يغفلون عن أن هذه القوة لا تقتصر وظيفتها على تمكين استخدام أنواع أخرى من العمليات، بل هي أداة فريدة من أدوات النفوذ الإستراتيجي. في العصر الحديث، لم يعد التفوق الجوي مجرد شرط سابق لنجاح العمليات المشتركة، بل قد يكون العامل الحاسم. وبعبارة أخرى، فإن الحملة الجوية الإسرائيلية لم تُعِق برنامج إيران النووي وحسب، بل أكدت من جديد أن القوة الجوية يمكن أن تكون أساس النجاح العسكري الحديث. وينبغي على مخططي الدفاع الأميركيين الانتباه إلى هذا الأمر. فالاستثمار في التفوق الجوي ليس خياراً ثانوياً بالنسبة إلى الأمن الأميركي، بل هو ضرورة حتمية.
* ديفيد ديبتولا هو عميد معهد ميتشل للدراسات الجوية والفضائية، وباحث بارز في أكاديمية القوات الجوية الأميركية، وقد خدم برتبة فريق أول في سلاح الجو الأميركي.