منوعات
فراس الطيراوي: الحوار المجتمعي الفلسطيني: الطريق الصعب نحو وحدة الإرادة

فراس الطيراوي 3-11-2025: الحوار المجتمعي الفلسطيني: الطريق الصعب نحو وحدة الإرادة
استكمالًا لمقالنا السابق «الانقسام المجتمعي الفلسطيني»، الذي تناول ملامح الشرخ العميق في الجسد الفلسطيني..سياسيًا واجتماعيًا ووجدانيًا.. نواصل اليوم الحديث عن الحوار المجتمعي بوصفه طوق النجاة الأخير، والطريق الصعب،وربما الوحيد نحو استعادة وحدة الإرادة والهوية الوطنية.
لقد أثبتت التجارب أن أي مشروع وطني يفتقر إلى قاعدة اجتماعية متماسكة سيبقى هشًّا مهما تعالت الشعارات وتأنّقت الخطابات.
من هنا، فإن الحوار المجتمعي ليس ترفًا سياسيًا ولا مبادرة رمزية، بل ضرورة وطنية وإنسانية لإعادة تعريف الانتماء الفلسطيني وترميم الوعي الجمعي الذي وحده قادر على تحويل الجراح إلى أمل، والمأساة إلى مشروع نهوض.
أولًا: من الانقسام إلى الوعي المشترك
يُعرّف الحوار المجتمعي بأنه عملية تواصل شاملة بين مختلف مكوّنات الشعب الفلسطيني من النخب الفكرية والسياسية، إلى الشباب والمرأة والمخيمات والشتات، هدفها تعزيز التفاهم وصياغة رؤية وطنية جامعة.
فبعد أكثر من سبعة عشر عامًا من الانقسام، لم يعد الشرخ الفلسطيني مجرد خلاف سياسي، بل تحوّل إلى فجوة ثقافية ونفسية أعادت إنتاج الانقسام في تفاصيل الحياة اليومية، وأضعفت الإحساس بـ«النحن» لصالح الولاءات الحزبية والمناطقية.
إن الحوار، في جوهره، ليس ساحة لتقاسم النفوذ، بل مصالحة مع الذات الوطنية ومحاولة جادة لإحياء الروح الفلسطينية الجامعة التي تاهت بين الجغرافيا والانتماءات الضيقة.
ثانيًا: لماذا الحوار الآن؟
يعيش الفلسطينيون اليوم مرحلة هي الأخطر في تاريخهم المعاصر، حيث تتقاطع التحديات الكبرى:
• تصاعد العدوان والاستيطان والتهجير القسري.
• تآكل الثقة بين المواطن ومؤسسات الحكم.
• تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تُنهك الفقراء والشباب.
في ظل هذا الواقع، لا صوت يعلو فوق نداء الوحدة، ولا مقاومة قادرة على الصمود وسط الانقسام.
فالحوار هو السبيل الأوحد لإعادة بناء الجسور بين غزة والضفة، وبين الداخل والشتات، وصولًا إلى صياغة مشروع وطني جديد يقوم على المشاركة والمساءلة، لا على الغلبة أو الهيمنة.
ثالثًا: التحديات أمام الحوار
الطريق إلى الحوار الحقيقي محفوفٌ بالأشواك، فثمة عقبات كبرى ما تزال تعيق انطلاقته:
1.الاستقطاب الإعلامي الذي يغذّي الكراهية بدل الوعي.
2.الفساد المؤسسي والسياسي الذي بدّد ثقة الناس بالحكم والإدارة.
3.الانقسام الجغرافي والسياسي بين غزة والضفة والشتات.
4.الإرهاق الشعبي من مبادرات الحوار التي تنتهي بلا نتائج.
ورغم ذلك، تبقى الشعوب التي تُحوّل أزماتها إلى وعي قادرة على تحويل جراحها إلى قوة. وكما قال المفكر الفلسطيني إبراهيم أبو لغد:“ما نحتاجه ليس فقط أن نعترف بحقّنا في تقرير المصير، بل أن نعترف بمنطق الآخر حتى نخلق أرضية مشتركة.”
رابعًا: أسس نجاح الحوار
لنجاح أي حوار مجتمعي، لا بد من منظومة قيم ومبادئ تضمن استمراره وفاعليته:
• الاعتراف المتبادل بحق كل طرف في الرأي والموقف.
• الشفافية والصدق في النوايا والطرح.
• الحياد والعدالة في إدارة الحوار.
• شمولية التمثيل بحيث لا يُقصى أحد.
• تحويل المخرجات إلى فعلٍ ملموس ينعكس على حياة الناس.
كما يذكّرنا الناشط الفلسطيني علي أبو عوّاد، أحد رواد المسار اللاعنفي، بقوله: “حين لا نحاور من نختلف معه، كيف نصل إلى حلول؟ إنّ الاعتراف بالآخر هو أول خطوة نحو التحرّر من الخوف.”
خامسًا: الإعلام ودوره في صناعة الحوار
يتحمّل الإعلام الفلسطيني الرسمي والمستقل مسؤولية محورية في ترسيخ ثقافة الحوار بدل التحريض.
فبدلاً من أن يكون منبرًا لتبادل الاتهامات، يجب أن يتحوّل إلى منصة وعيٍ وطني تعيد بناء صورة الفلسطيني الجامع لا الفصيل الضيّق.
الإعلام الحقيقي هو من يضيء الطريق لا من يبرّر الانقسام، من يُحفّز على التفكير النقدي والمساءلة البنّاءة، لا من يكرّس الانغلاق والانقسام.
ختاما: نحو ثقافة الحوار الدائمة
إن الحوار المجتمعي الفلسطيني ليس رفاهية فكرية، بل شكل من أشكال المقاومة مقاومة التمزّق واليأس واللامبالاة.
فلا يمكن لشعبٍ يناضل من أجل الحرية أن يبقى أسير خلافاته، ولا تُصان دماء الشهداء إذا ظلت تُستثمر في خطاب التخوين والفرقة.
آن الأوان لأن يتحوّل الحوار من شعارٍ يُرفع في المناسبات إلى ثقافة حياة تُمارس في المدرسة والجامعة والمخيم والمسجد.
آن الأوان لأن نحاور لا لنتغلب على بعضنا، بل لننهض معًا.
فمن دون الحوار لا وحدة، ومن دون الوحدة لا حرية.
إن فلسطين اليوم لا تحتاج إلى مزيدٍ من الخطب، بل إلى صوتٍ عاقلٍ يوحّد ولا يُفرّق، يؤمن بأن الوطن أكبر من الفصيل، وأن المستقبل لا يُكتب إلا بأيدٍ متصالحة، قادرة على البناء والمقاومة معًا.
*ناشط سياسي وكاتب عربي فلسطيني عضو الامانة العامة للشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام.



