أقلام وأراء

فتحي كليب: لا نحتاج برامج سياسية جديدة بل ارادة على المواجهة

فتحي كليب 2023-01-18: لا نحتاج برامج سياسية جديدة بل ارادة على المواجهة

منذ اقرار البرنامج الوطني المرحلي عام 1974 وما تلاه من انجازات سياسية ووطنية ظلت حاضرة لأكثر من سبعة اعوام، لم يشهد الوضع الداخلي الفلسطيني اجماعا او توافقا جديا على قضية ما، رغم عديد التحديات التي مرت بها القضية الفلسطينية، وفي كل مفصل او تطور ما يعود البعض سنوات الى الخلف ليناقش في البرنامج السياسي والمرجعية الجديدة.

ويمكن لأي مراقب الملاحظة ان كثيرا من العناوين التي كانت تعتبر ثوابت وبديهيات وطنية وخطوط حمراء لا يجوز العبث بها، لم تعد كذلك في نظر البعض، الذي بات يميل في تعاطيه مع المشاريع والبرامج السياسية كما تميل الاشجار امام العواصف العاتية، وليعود بعد كل هذه التضحيات العظيمة التي قدمها الشعب الفلسطيني والانجازات الكبرى التي حققها ليطرح اي برنامج سياسي نريد..؟ وكأن الخيارات الوطنية تتحدد بالنكايات وبقرارات ارتجالية، لا وفقا لموازين قوى متعددة يجب النضال من اجل تغييرها..

ان المشروع الوطني الفلسطيني، بما هو مشروع الدولة الوطنية المستقلة، السيدة الحرة، والعودة وتقرير المصير، وبما هو تعبير عن مشروع يصارع المشروع الصهيوني الذي ظل وحده حاضرا في ميدان السياستين الاقليمية والدولية حتى منتصف السبعينات.. ما زال يعبر عن مصالح وتطلعات الشعب الفلسطيني بجميع تياراته وفئاته اصدق تعبير، وبامكاننا الجزم ان ليس هناك من مشروع او برنامج سياسي آخر في الساحة الفلسطينية تقدم، حتى الآن، في نسبة التأييد له على البرنامج المرحلي الذي ما زال يحظى بثقة وقبول الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، وهذا ينم عن ادراك عميق لدى هذا الشعب ووعي متقدم في صياغة خياراته الوطنية..

وكل ما يطرح من مشاريع ومواقف ليست سوى مزايدات داخلية ورسائل لهذا الطرف الاقليمي او ذاك.. وبالتالي فكل من ارتد عن المشروع الوطني، تنازلا واقعيا او تطرفا لفظيا، فهو من يتحمل مسؤولية سياساته، وليس البرنامج المرحلي الذي ما زال يؤكد راهنيته وواقعيته في كل تفصيل من تفاصيل صراعنا مع المشروع الصهيوني.

ان بعض التيارات السياسية الفلسطينية لا تطرح مواقفها ومشاريعها كبدائل تصارع المشروع الصهيوني بقدر ما تطرحه في مواجهة المشروع الوطني الفلسطيني. ورغم ان تعدد المشاريع السياسية دليل عافية في البلدان والانظمة المستقرة، الا انها في حالتنا الفلسطينية دليل على العجز الذي وصلته الحركة الوطنية الفلسطينية في اجتراح حلول ثورية تخرج الحالة الفلسطينية من ازمتها، وتأكيد ايضا على حالة التفكك والشرذمة والانقسام الذي باتت تغذيه مصالح فئوية فصائلية هنا وهناك وتعمل على ادامته تحقيقا لبقاء امتيازاتها.. واذا كان من حق كل فصيل او فرد ان ينحاز الى اي برنامج سياسي يعتقد انه يلبي طموحاته الوطنية، فليس من حق من وافق وصوت واستفاد دهرا من البرنامج المرحلي ان يخرج عليه بسياسات يفهم الجميع دوافعها والاطار الذي تتحرك داخله..

اليوم ومع اشتداد الصراع الدولي والاقليمي وتعمق التدخلات الخارجية في الشأن الفلسطيني، يمكن لأي مراقب ان يلاحظ مسألة نادرة الحدوث وهي ان يجمع الشعب الفلسطيني على قضية، كما اجتمع على تحديد مخاطر الحكومة الاسرائيلية الحالية بقيادة الثلاثي: نتنياهو، بن غفير وسموترتش الذين توافقوا فيما بينهم على الفلسفة العامة لسياستهم التي ستقود حكومتهم منذ الآن والى حين ..

وهي فلسفة اقل ما يقال فيها انها اعلان حرب على الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية.. لكن لا يكفي ان نجمع كفلسطينيين بأن الحكومة الاسرائيلية الحالية هي اسوأ حكومة في تاريخ الكيان، بل الأهم هو ان نكون بقدر التحدي الذي تشكله هذه الحكومة والتي تراهن على انقسام فلسطيني يحقق لاسرائيل ما عجزت عن تحقيقه بجبروت وغطرسة القوة.

وبعيدا عن المخاطر التي تطرحها الاوضاع داخل اسرائيل، سواء تعلق الامر بسلسلة القوانين العنصرية التي اتخذها الكنيست، او قوانين اعدام الاسرى واسقاط الجنسية ورفع العلم او تلك التي يعتزم اتخاذها كمشروع قانون يجري تداوله بشأن استعادة ما يسمى “اموال اليهود في الضفة الغربية”، او لجهة تطبيقات ميدانية للمشروع الصهيوني كالضغط الاقتصادي وضم اجزاء من الضفة وتغيير نمط التعاطي مع مناطق “ج”. كل هذه التحديات تطرح مجموعة من الاسئلة يقع في مقدمتها:

– لماذا يميل المجتمع الصهيوني في اسرائيل نحو المزيد من التطرف؟ وهل اعددنا العدة الداخلية لمواجهة ما تطرحه التطورات داخل اسرائيل من تحديات، خاصة ان الجميع يتحدث عن مرحلة صعبة في التعاطي مع الحكومة الاسرائيلية بتلاوينها العنصرية، الدينية والفاشية المتطرفة، لكن لا احد يتحدث كيف سنواجه هذه الحكومة وبأية ادوات؟

– اليس معيبا على الحركة الوطنية الفلسطينية التي زاد عمرها عن القرن وتصارع المشروع الصهيوني منذ تلك الفترة، بينما بعض مكوناتها ما زال في طور البحث عن اي برنامج سياسي ونضالي نريد؟

– رغم ان اسرائيل، ومن معها، يراهنون على ان استمرار حالة التشرذم الفلسطينية من شأنها ان تساعد في تحقيق ما تطمح اليه اسرائيل، الا ان بعض القوى الفلسطينية تسعد وتعمل يوميا على استمرار وادامة عمر الإنقسام، وكأن اوضاعنا لا تستحق عناء التضحية من اجل وضعها في الاطار الوطني السليم..

– لا يستقيم الوضع بين مواجهة ما ينتظرنا من مخاطر وبين استمرار التنسيق الامني، ولا يستقيم الوضع بين دعوات للمواجهة واستمرار حالة الكراهية والحقد على المستوى الداخلي الفلسطيني بل واحيانا في الاطار الواحد…

يسلم الجميع بأن من شروط انتصارنا، او اقله افشال بعض تطبيقات المشروع الصهيوني، هو وحدتنا، وهذه بديهية لا يختلف عليها اثنان. لكن رغم ذلك، يبدو ان الرهان على حرب عالمية ثالثة او على تغيير اقليمي كبير او ربما على انقلاب عسكري يحدث في اسرائيل بات اسهل من الرهان على انهاء الانقسام.. وما يأسف له اي وطني شريف ان بعضهم بات يتحدث عن فضائل الانقسام، ويعتبر ان الشعب الفلسطيني ومقاومته انتصروا في اكثر من مناسبة في ظل هذا الانقسام.. بينما الواقع على الارض وفي الميدان يقول ان كافة الانتصارات التي تحققت سواء في قطاع غزه او خلال معركة القدس، وبسبب تلك العقليات العفنة، لم نتمكن، وبقرار مقصود وواع، من استثمارها سياسة وطنية لصالح لكل الفلسطيني..

تحتاج الحالة الفلسطينية الى قليل من مراجعة تاريخنا الوطني القريب، لنستفيد من تجاربنا قبل تجارب غيرنا. فمهما حاول البعض ان يقدم نفسه بنسخة جديدة قد ترضي الواقع وبعض اصحابه، فان العودة الى التاريخ تؤكد ان البرنامج الوطني المرحلي كان اهم انجاز قدمته الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأتها. فهو الذي وفر الغطاء السياسي للمقاومة المسلحة التي اصبحت مسيجة ببرنامج سياسي توحد حوله الشعب الفلسطيني في كافة تجمعاته، التي كانت تئن تحت وطأة مشاكل وهموم وضغوط متعددة، وهو الذي هيأ الاوضاع الداخلية لحرب تحرير شعبية (الانتفاضة الشاملة)، وخاطب العالم بلغة الحق الفلسطيني والعدالة والانسانية، ولهذه الاسباب ربما، وغيرها كان الاجتياح الاسرائيلي للبنان الذي فتح صفحة جديدة قادت لاحقا الى الانقلاب على كل ما تحقق من انجازات سياسية كبرى، ولندخل بعد ذلك في دهاليز المساومات التي قادت تدريجيا الى مربع الانهيار السياسي على مستوى التفريط بكافة عناصر القوة الفلسطينية..

ان ما يحدث في اسرائيل من ميل جارف نحو الفاشية لا يمكن اعتباره ظاهرة عابرة، كما يعتقد بعضهم، بل ان التدقيق في النتائج الحالية، والسابقة، للانتخابات الاسرائيلية يشير الى ان صعود الفاشية في اسرائيل اخذت تتزايد بالتزامن مع استمرار العملية السياسية التي كانت تسير في ظل اجراءات ميدانية اسرائيلية على الارض. وكان واضحا ان احزاب اليمين المتطرف واحزاب الصهيونية الدينية كانت تستهدف فئتين هما فئة الشباب وفئة الجنود على حساب ما يسمى “احزاب اليسار” التي باتت بحكم المنتهية الصلاحية او معدومة التأثير..

كثيرة هي الاسباب التي قادت الى مثل هذا التطور، الا ان الحالة الفلسطينية السياسية والفصائلية تتحمل جزءا من المسؤولية، سواء بالانشغال الداخلي بالانقسام وتركيز كل طرف اولوياته على المكاسب والمصالح، او في شكل التعاطي مع تطورات القضية الفلسطينية واعتبار ان الشعب الفلسطيني في حالة دفاعية، قد تتطور بشكل بطيء جدا الى ما هو ارقى، في ظل المراهنة على تغيير اقليمي ودولي لم ولن يأتي. وبالتالي تكرس شعور لدى المجتمع الصهيوني بأن ميله نحو التطرف لن يرتب عليه اية تداعيات او اثمان سياسية ومادية، والتي عادة تترجم بعبارة “رفع تكلفة الاحتلال” وجعله احتلالا ذات كلفة باهظة، كما هو الحال بالنسبة للشعب الفلسطيني الذي يعاني من تداعيات السياسات الاسرائيلية، سواء ما تعلق منها بسرقة الارض ونهبها لاغراض الاستيطان وغيره، او عمليات الاعتقال والقتل اليومي او الاوضاع الاقتصادية والامنية التي تزداد تأزما…

تجربة العقود الماضية، منذ التوقيع على اتفاق اوسلو وما تلاها من اتفاقات، اكدت بأن التغيير لن يتأتى الا من خلال ارادة سياسية وشعبية صادقة واتخاذ سياسات تصادمية مع السياسات والممارسات الاسرائيلية، وان الخيارات السياسية لا يجب ان تحددها اهواء ومصالح هذا الفصيل او هذه الجماعة، بل ان تجارب حركات التحرر العالمية تقول ان العملية الثورية هي حصيلة تضافر مجموعة عوامل داخلية واقليمية ودولية، وحين تختل الموازين القائمة، تصبح مهمة الحركات الثورية اجتراح المعالجات لتعديل هذه الموازين في اطار المشروع السياسي المتوافق عليه وطنيا، وليس التخلي عن الثوابت والمبادئ العامة، وهذا ما يحتاج الى ان تبقى قنوات الحوار والنقاش مفتوحة بشكل دائم..

كما ان الرهان على ضمير عالمي او على منظمات دولية او ضغوط هنا وهناك ثبت بالملموس انها رهانات فاشلة ما لم تترافق مع فعل فلسطيني اولا وعلى قاعدة ان المواقف العربية والدولية وحتى الاسرائيلية تتأسس على قوة وصلابة الموقف الفلسطيني. لذلك ليس غريبا ان تتقدم القوى الدينية والفاشية لتحتل صدارة المشهد في اسرائيل في ظل تغطية كاملة من قبل الادارة الامريكية التي باتت تقترب من الشراكة الكاملة في كل ما تفعله اسرائيل كـ “دولة واحزاب ومجتمع ديني ويميني متطرف”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى