أقلام وأراء

فاضل المناصفة: خطاب النصر فوق ركام غزة

فاضل المناصفة 7-12-2025: خطاب النصر فوق ركام غزة

فيما نقترب من الذكرى الثامنة والثلاثين لتأسيس حركة حماس، يعيش قطاع غزة مرحلة مفصلية هي الأكثر قسوة في تاريخ القضية الفلسطينية منذ عقود. فقد خلّفت الحرب الأخيرة دمارًا غير مسبوق، فاق في شدّته وكلفته مجمل ما شهدته الحروب السابقة مجتمعة، وترك الغزيين أمام معاناة تجاوزت كل التصورات. في هذا السياق، يصبح إحياء ذكرى التأسيس أمرًا معقّدًا، خاصة عندما يترافق مع خطاب يتحدث عن “النصر” و”الصمود” و”التضحيات” — وهي المصطلحات التي دأبت قيادة الحركة على توظيفها في بياناتها. هنا يبرز السؤال: هل يسمح الظرف الحالي بالترويج لسردية من الواضح تماما أنها لم تعد تعكس الواقع بأي صلة ؟

منذ سنوات، اعتادت حماس أن تُشيّد خطابها على فكرة “الصمود” و”الانجاز”، وأن تربط بين ذكرى التأسيس ومسارٍ طويل من المقاومة. لكن ما يبدو واضحًا اليوم هو أن هذا الخطاب، مهما تبدّل شكله، بقي أداة سياسية تُستخدم لإعادة تثبيت حضور الحركة داخل المشهد، لا مرآة تعكس حقيقة ما يعيشه الناس. فالإعلام التابع لها يصرّ على إحياء سردية الانتصار، حتى ولو جاء ذلك فوق أنقاض مدينة كاملة، وفوق آهات آلاف العائلات التي لم تعد تجد في يومها شيئًا يشبه الحياة.

ويمكن القول إن حماس، بوصفها حركة ذات أيديولوجيا مختلفة عن تلك التي تبنّتها منظمة التحرير الفلسطينية بعد تحوّلها الاستراتيجي نحو خيار التسوية، نجحت في ملء الفراغ الذي تركته المنظمة عندما غادرت مربع الكفاح المسلح إلى مربع العملية السياسية. غير أن هذا “الملء” لم يقدّم حلًّا، بل زاد المشهد الفلسطيني تعقيدًا، وفتح أمام الاحتلال أبوابًا واسعة للالتفاف على قرارات الشرعية الدولية وما نصّت عليه اتفاقيات أوسلو. فقد جاء صعود حماس في توقيت تقاطعت فيه الأجندات؛ فمن جهة، كانت إسرائيل تشهد صعود تيارات يمينية رافضة لمبدأ حل الدولتين، ومن جهة أخرى كانت الحركة تطرح مشروعًا راديكاليًا يقوم على التحرير الشامل وطرد الاحتلال، وهو خطاب وفّر ذريعة إضافية لإسرائيل كي تستثمر في وجود خصمٍ أيديولوجي يمكن توظيفه داخل المعادلة الفلسطينية.

سريعًا، أصبح هذا الوجود عنصرًا مساعدًا لإحداث شرخ في البيت الفلسطيني نفسه، إذ تحوّل الانقسام الأيديولوجي إلى انقسام سياسي، ثم إلى فصل جغرافي وكياني بين الضفة وغزة. ومع انفراد حماس بحكم القطاع، باتت الذريعة الإسرائيلية أكثر حضورًا: ما دامت المواجهات العسكرية تتكرر، فإن من السهل دفع المجتمع الدولي إلى القناعة بأن “لا شريك فلسطينيًا للسلام”، وبالتالي تصبح عملية نسف حل الدولتين أقرب إلى سياسة دولة لا إلى رغبة تيار.

ومع توالي الحروب، اعتاد الغزيون على الخراب والدمار كأنهما جزء من دورة حياتهم؛ كل مواجهة كانت تترك ندبة جديدة، حتى جاءت مواجهة السابع من أكتوبر لتأكل الأخضر واليابس، وتطيح بما تبقّى من قدرة القطاع على الاحتمال. في هذه اللحظة صار المشهد الإنساني في غزة الشاهد الأكثر وضوحًا على هذا المسار المنحرف

بعد كل ماحدث أصبحت مفردات الاحتفال عبئًا على أذن الغزي قبل أن تكون خطابًا سياسيًا. فكيف يمكن لمن لا يجد دواءً لابنه أن يتلقى حديثًا عن انتصار؟ وكيف لمن فقد بيته أو ابنه أو كرامته في رحلة نزوح أن يُطلب منه أن يشارك في مشهد رمزي لا يمسّ حياته بأي صورة؟ الفجوة بين الواقع والخطاب لم تعد فاصلة بسيطة يمكن ردمها بالمشاعر، بل تحوّلت إلى هاوية يتّسع مداها مع كل بيان جديد، وكل احتفالية تُنظّم لتأكيد استمرار المسار، وكأن المسار لا يمرّ فوق أجساد منهكة، ولا يقتطع من أرواح الناس ما لا يمكن تعويضه.

وإذا كان لكل حرب أثمان، فإن غزة اليوم تقف عند حدّ لا يستطيع أحد معه أن يطلب منها المزيد. استمرار الفجوة بين خطاب الحركة وواقع السكان لن ينتج إلا مزيدًا من الألم، ولن يفتح بابًا للخلاص. لهذا تبدو الحاجة ملحّة لمراجعة داخلية، وقفة صادقة تُعيد الأمور إلى سياقها الطبيعي: الناس أولًا، ثم السياسة، ثم كل شيء آخر. فالقضية التي يُفترض أنها تُحمل باسمهم، لا يمكن أن تستمر على حسابهم، ولا أن تستمد شرعيتها من شعارات لا تعيدُ لمدنهم حياتها ولا لقلوبهم طمأنينتها.

غزة ليست بحاجة إلى احتفالات بقدر حاجتها إلى من يرمّم ما تهدّم فيها، ومن يعترف أن كرامة الناس والحفاظ على دماءهم هي معيار النصر الحقيقي. وحين يُفهم ذلك جيدًا فقط عندها يمكن لأي حركة، أيًا كان اسمها أن تتحدث عن انتصار فوق ركام البيوت وسط خيم المشردين والثكالى .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى