أقلام وأراء

غانية ملحيس تكتب – الحرب المستعرة على الوعي أشد الحروب خطورة (2)

غانية ملحيس *- 15/8/2020

ما يحدث في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا من تدمير وقتل وتجويع وتهجير يخطط له الأعداء ويتطوع أهالي البلاد لتنفيذه، يعجز العقل عن فهمه ويستعصي على التصديق والاستيعاب.

وتشير كل الدلائل إلى اقتراب تكرار وقائعه في بقية الأقطار العربية والكيانات الأصيلة في عموم المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة. التي استبدل المستعمرون الغربيون مسماها الحضاري بمسمى جغرافي ” الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”. اذ يعتقدون بأن انتقال مركز القيادة العالمية للغرب الاستعماري – بفعل اختلال موازين القوى – يمنح المنتصرين حقا حصريا في اجتثاث الحضارات الأصيلة، وإعادة تشكيل الكون بعولمة حضارتهم الغربية.

ولتغيير مسمى المنطقة، أيضا، هدف استراتيجي آخر، وثيق الصلة بإنشاء كيان استعماري استيطاني صهيوني هجين، يتم تخليقه وزرعه في مركز الوصل والفصل الجغرافي والديموغرافي للمنطقة المستهدفة بالغاء هويتها الجامعة. وتفكيك مكوناتها الجغرافية والديموغرافية إلى دول وهويات قطرية يتعذر استقرارها دون دعم خارجي. وإعادة تركيبها بما يحفظ تفوق المركز الاستعماري الاستيطاني المستحدث، الغريب عن نسيج المنطقة والذي يشكل امتدادا حضاريا للغرب على عموم الإقليم ويؤهله لقيادتها. عبر تكريس تجزئتها وتفريق شعوبها باثارة الفتن بينها وداخل كل منها. وإشغالها بالاحتراب الداخلي وفقا للوصفة البريطانية التي لا تخيب ” فرق تسد “. والتي انتهجتها القوى الاستعمارية الغربية كافة، وأثبتت فاعليتها في جميع الدول التي استعمرتها. ومكنت الإمبراطورية البريطانية – الصغرى جغرافيا وديموغرافيا – من التحول إلى إمبراطورية عظمى لا تغيب عنها الشمس.

فليس هناك ما هو أفضل وأسرع وأجدى للانتصار على البلاد المأهولة المستهدف استعمارها، من استنزاف طاقات أصحابها الأصليين في صراعات بينية طويلة تقوض مرتكزاتهم المشتركة. وتعيد ترتيب أولوياتهم، فتنسيهم المتسبب الرئيس في خرابهم ودمارهم، وتدفعهم لتوجيه طاقاتهم وقواهم لمحاربة العدو الجديد الذي يتم تخليقه من شركائهم في الوطن والإقليم. فتدمر قدراتهم جميعا، وتعمق الشروخ بينهم، وتعطل فرص استعادة وحدتهم وتمنع نهوضهم، وتديم بذلك الهيمنة الاستعمارية على هذه المنطقة الجيو – استراتيجية الحيوية.

يذكر المشهد الراهن في المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة تكثيفا لذاك المشهد الذي ساد خلال حقبة الحرب العالمية الأولى. عندما نفذ صبر الشعوب من تسلط وبطش وفساد منظومة الحكم التي أرساها المركز العثماني. وسارع الزعماء المحليون المفتونون بالحضارة الغربية المادية الحديثة الصاعدة ” اللاحضارة “، والطامعون بنعيم السلطة وملذاتها الشخصية إلى الانخراط / بعضهم بوعي وبعضهم بدونه / في تنفيذ المشروع الاستعماري الغربي التوسعي، الساعي للاستيلاء على إرث الإمبراطورية العثمانية الآيلة للسقوط. فوظفوا أحلام شعوبهم بالحرية والاستقلال والعيش الكريم لتجنيدهم في تفكيك البلاد وتفريق أهلها وفقا للمخطط الغربي، الذي أرست مرتكزاته اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 ووعد بلفور عام 1917، واستكملت معاهدة فرساي عام 1919 تصميم خرائطه، وتولى النظام الدولي الذي أنشأته القوى المنتصرة في الحرب مهمة التنفيذ.

وتحت شعارات التحديث والتحرر والاستقلال التي أدرك سحرها المستشرقون الأوروبيون خلال مهماتهم الاستطلاعية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر تجول في البلاد المستهدف استعمارها. وجند – لاستكمال مهمتهم – الميسورون من أهالي البلاد الذين بدأوا بالتوافد عواصم الغرب. فانبهروا بسحر الحداثة المادية ونعيمها وتغربوا، وأعيدوا لتبشير شعوبهم بالمستقبل الواعد الذي يتيحه الالتحاق بركب الحضارة الغربية الحديثة، وإحلال منظومتها المتكاملة / القيمية والاخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية / محل مرتكزات حضارتهم القديمة، التي تعطل التقدم وتؤخر الشعوب في بلوغ المستقبل المنشود.

احتشدت شعوب المنطقة – المنهكة من وحشية أنظمة الإقطاع وويلات الحروب التي تخاض على أراضيها وتقودها القوى الدولية المتنافسة على التركة العثمانية – وراء الزعامات المحلية الصاعدة الواعدة بقيادتهم لتحقيق الاستقلال والرخاء.

وتجند الجميع في تثبيت الحدود القطرية الجديدة، وتقويض أواصر التكامل الراسخ عبر قرون بين شعوب الأمة، واستبداله بتكامل عمودي مع المراكز الاستعمارية الأوروبية الحديثة، التي انتدبت للإشراف المباشر على عملية تفكيك المنطقة لاجتثاث حضارتها الأصيلة وإعادة تركيبها لتسريع إحلال الحضارة الغربية مكانها وتأمين تسيدها.

استحضار التاريخ للاستدلال بنتائج الرؤى والسياسات والسلوكيات التي شكلت وقائع الحاضر – ليست غوصا في الماضي الذي انتهى زمانه وما عاد بالإمكان تغيير أحداثه.

وإنما لتنبيه شعوبنا المنكوبة بقادتها ونخبها إلى المخاطر الجسيمة التي ينطوي عليها السماح مجددا لورثة المنظومة – بتكرار ذات الرؤى والسياسات والسلوكيات التي باتت تجرف الأوطان والشعوب بتسارع غير مسبوق نحو مستقبل أشد ظلمة – وأدت إلى كوارث الحاضر. وتأهلت بشعارات أشد تأثيرا على الأجيال – التي أنهكتها النكبات والكوارث المتتالية التي جلبتها المنظومة التي توارت خلف الشعارات البراقة، تارة القومية الواعدة بالحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية. وتارة ثانية الاشتراكية المبشرة بالمساواة بين الطبقات. وتارة ثالثة بالدين باعتبار الإسلام هو الحل، الذي يتسع لإبداعات زعماء الطوائف والمذاهب في إعادة تفسير مرجعياته في الكتاب والسنة، وتأويله في خدمة الصراعات التنافسية على الثمثيل والقيادة. وأحدثها العلمانية بمحاكاة النموذج الغربي وتعميم قيمه المتصلة بالتسامح والقبول بحقائق الحاضر التي أفرزتها موازين القوى المختلة. والانطلاق منها للتاسيس للسلام المرتكز على معادلة العصر الجديد ” سلم تسلم “، او بتعبير لغة العصر الذي يقوده الثنائي الأمريكي – الصهيوني / ترامب نتانياهو / ” السلام مقابل السلام “. باعتباره السبيل الوحيد المؤهل لفتح الأبواب الموصدة في منطقتنا أمام الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان بتجلياتها المدنية القائمة على الحقوق الفردية واستثناء السياسية المتصلة بحقوق الجماعات القومية والوطنية في السيادة وتقرير المصير لشعوب المنطقة وعموم الأمة.

تختلط الرؤى وتتداخل الأفكار، ويتعذر تصديق واستيعاب ما نشاهد ونسمع في الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع وعبر وسائل التواصل الاجتماعي. ويثير الجدل والسجال المحتدم الذي ينخرط فيه الجميع على مدار الساعة، وتضج بأصدائه الساحتين الفلسطينية واللبنانية خصوصا، والعربية والإسلامية عموما. ويستنفر شكوكا حول الأهداف والمقاصد من حجم التحشيد الهائل الذي تشترك فيه تيارات متنامية فلسطينية ولبنانية وعربية وتركية وايرانية وكردية لإعادة الفرز بين المكونات الوطنية وتجييشها في مواجهة بعضها البعض. بالتزامن مع احتدام الصراع وسعي العدو الرئيس وحلفائه إلى فرض وقائع سياسية وجغرافية وديموغرافية جديدة في فلسطين وعموم المنطقة، يستكمل بها مشروعه الرئيس في استكمال استبدال فلسطين العربية باسراييل اليهودية، واستبدال شعبها العربي الأصيل الممتدة جذوره فيها لآلاف السنين، بالمستوطنين الأجانب من أتباع الديانة اليهودية، الذين يتم استجلابهم من مختلف البلاد والجنسيات للحلول مكان السكان الأصليين. وباستكمال تفتيت المنطقة العربية والاسلامية واستبدال الهوية الوطنية الجامعة لشعوبها الأصيلة بهويات جديدة عرقية وإثنية وطائفية ومذهبية متصادمة، تسلم بتفوق اسرائيل وتسيدها. وتؤهلها، بذلك، للقيادة الإقليمية كوكيل حصري للقوى الدولية المتنفذة، أيا كانت هويتها/ غربية أمريكية، أو شرقية صينية أو مختلطة روسية /. ودون استبعاد القبول بوكلاء فرعيين من القوى الإقليمية الفاعلة التركية والإيرانية بعد إنهاكها. والمؤكد أن العرب جميعا خارج الحسابات ومستثنون، لأنهم ارتضوا الاصطفاف فرادى وتوظيف شعوبهم في خدمة المحاور المتصارعة على تقاسم بلادهم.

يمكن فهم النقد الذي بات ينشط به المثقفون الفلسطينيون واللبنانيون والعرب والمسلمون لنصرة المحاور التي يصطفون وراءها، فالانتقاد تتوفر أدلته وموجباته.

لكن اللافت فيه استهداف فريق بعينه وتصويب السهام عليه في لحظة مفصلية، وأثناء صراعات داخلية يفجرها ويفرضها الأعداء المتربصون بالأوطان والشعوب، والإمعان بالبحث عن أدلة لا تقتصر حدود الاستعانة بها على توجيه انتقادات بسوء التصرف و السلوك – المدان بدون تحفظ -. لكنه يثير الشبهات ويدفع للتساؤل حول الغايات والمقاصد منه في هذا التوقيت. ويستثير الشكوك بماهية الرسائل التي يراد ان تلتقطها الاجيال الفتية من التشكيك والاشتراك في محاولات نزع الشرعية الوطنية عن كل من يستعصي على التطويع والخضوع والاستسلام لأعداء الوطن والأمة؟

فما الهدف المرتجى بلوغه من وراء الاستعانة بأمثلة مختارة بوعي، للمقارنة بين :

أعداد الضحايا التي يتسبب بها العدو الصهيوني وحلفاؤه الأمريكيون خصوصا، والغربيون عموما.

واعداد الضحايا التي تسقط في حروب التصدي لبسط هيمنتهم، والتوصل إلى خلاصات بأن العدو الصهيوني وحلفائه أكثر رأفة بشعوبنا ممن ما يزالون يستعصون على التطويع والخضوع لإملاءات الأسياد؟

فلسطين يا سادة مركز الصراع، ولبنان المقحم فيه قسرا بحكم الجغرافيا، باتا معا ساحته الأولى، ومآلات الصراع فيهما ستحدد مستقبل الصراع المستعر على عموم المنطقة وفي كل ركن منها. ووتائره التي بدأت بالتسارع منذ سيطرة القوى النيوليبرالية على مراكز القرار الأمريكي والغربي في ثمانينيات القرن الماضي، وسعيها الحثيث لاستكمال إعادة تشكيل المنطقة. الذي بدأ في مطلع القرن الماضي باتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور، واتاح انتهاء عصر الثنائية القطبية من النظام الدولي في ثمانينيات القرن الماضي وتفرد الولايات المتحدة الامريكية بالقيادة الدولية الفرصة للمضي قدما في استكمال إنجاز مشروع “الشرق أوسط الجديد “. الذي دعى بريجنسكي مستشار الامن القومي في عهد الرئيس كارتر إلى بلورة تفاصيله. وكلفت وزارة الدفاع الأميركية/ البنتاجون/، خبير التخطيط الاستراتيجي في الشرق الأوسط برنارد لويس، بتصميم خرائطه وعرض خلاصة مشروعه مرفقا بالخرائط التفصيلية في جلسة سرية للكونغرس الأمريكي عام 1983. وبات منذ اعتماده، الإطار المرجعي الملزم للإدارات الأمريكية كافة – الجمهورية والديموقراطية -، والموجه لعموم السياسة الغربية في المنطقة.

ويقضي ” القيام بتفكيك الدول العربية والإسلامية إلى دويلات عرقية وإثنية ودينية وطائفية ومذهبية، تتمحور حول الكيان الصهيوني، باعتباره الخط الأمامي للحضارة الغربية ( تقسيم كل من مصر والسودان وسوريا الى أربعة دول. ولبنان إلى ثماني كانتونات. والعراق إلى ثلاث دول. ودمج دول الخليج واليمن بالجزيرة العربية وتقسيمها إلى ثلاث دول على أساس مذهبي، وتفكيك ليبيا والجزائر والمغرب لإنشاء كيانات جديدة على أساس عرقي، وتقسيم ايران وباكستان وافغانستان الى عشر كيانات عرقية، واقتطاع جزء من تركيا لضمه لدولة كردية تقام على اراض في العراق وسوريا وإيران وبعض الاراضي السوفيتية سابقا، وتحويل شرق الأردن إلى وطن بديل للفلسطينيين ).

والمذهل أن الجميع يتجاهل ان المخططات الغربية للمنطقة، منذ بدء الغزو الاستعماري الغربي لها في أواخر القرن الثامن عشر منشورة في الوثائق، يوجهها هدف مركزي معلن رسميا يهدف إلى اجتثاث الحضارة الإسلامية، وإحلال الحضارة الغربية مكانها.

وان الخطط والمشاريع التنفيذية لبلوغ هذا الهدف الإستراتيجي منشورة، أيضا، في الوثائق الرسمية المتتابعة، و متاحة لاطلاع الجميع، وباتت متوفرة على الشبكة العنكبوتية بكل اللغات. وتلخصها وثائق رئيسة ثلاث :

اتفاقية سايكس – بيكو لعام 1916 والتعديلات التي أدخلت عليها. وضمنت صيغتها النهائية في معاهدة فرساي لعام 1919

وعد بلفور الصادر عام 1917، والمضمنة خطط مشروع الشرق اوسط الحديد تنفيذه تفصيليا في صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم عام 1923

مشروع الشرق أوسط الحديد المشار اليه أعلاه.

وكل ما عدا ذلك من مشاريع تم طرحها، أو قرارات تم إصدارها على مدى أكثر من قرن ليست سوى مناورات تستهدف التقاط الفرص لتسريع بلوغ هذا الهدف المركزي، أو لتبديد مخاطر قد تعرقل تحقيقه. وقد عبر عن ذلك برنارد لويس نفسه، بوضوح لا يقبل التأويل، في معرض تعليقة على مؤتمر أنابوليس للسلام في الشرق الأوسط بتاريخ 27/11/2007، الذي نظمته كونداليزا رايس صاحبة مشروع ” الفوضى الخلاقة “، والذي استهدف عقده، آنذاك، إعادة إطلاق مفاوضات التسوية السياسية الفلسطينية – الاسرائيلية، بقوله : أن هدف المؤتمر الرئيس هو “ تعزيز التحالف ضد الخطر الإيراني، وتسهيل تفكيك الدول العربية والإسلامية، ودفع الأتراك والأكراد والعرب والفلسطينيين والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضًا باستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها “.

والمرعب أن المثقفين لا يبذلون أي جهد في تبين الحقائق الدامغة، باكتمال تحقيق كافة الأهداف التي تضمنتها الوثيقة الأولى، واقتراب تحقق كامل الأهداف التي تضمنتها الوثيقة الثانية، والتقدم الملحوظ في تنفيذ أهداف الوثيقة الثالثة.

فلماذا تغيب كل هذه الوثائق التأسيسية عن كافة السجالات التي يقودها سياسيون مخضرمون – موالون لأنظمة الحكم ومعارضون -، ومثقفون واكاديميون متنورون، وناشطون من كافة الانتماءات العرقية والإثنية والسياسية والحزبية والعقائدية والدينية والطائفية والمذهبية. وبعضهم يصنفون انفسهم كمستقلين وتكنوقراط ؟؟

ويتسابقون جميعا على تقديم طروحات لبدائل وهمية لحل الصراع الذي تتفجر حلقاته بالتوازي وعلى التوالي في كامل المنطقة – بالتجزئة. كل حسب مكانه. ويدعمون مقترحاتهم برؤى ومرجعيات ذات علاقة بصراع متخيل لا علاقة له بما يجري على أرض الواقع. والعديد منهم يلهث وراء أوهام يعرف عدم صدقيتها لكنه يواظب على تصديقها وترويجها لصلتها الوثيقة بمصالح ضيقة بنيت حولها. وزعامة ونفوذ سياسي واجتماعي واقتصادي بات استمراره يرتبط بالإمساك بها ومواصلة الترويج لها، ما يسهم في تعميق التيه وتشويه الوعي الجمعي للشعوب.

والمرعب أكثر أنهم لا يتوانون عن استثمار دماء الضحايا وتوظيف عذابات شعوبهم الموجوعة، فيصعدون السجال في المراحل المفصلية التي تتيحها الحروب، والأزمات التي يفجرها انكشاف سراب الركض وراء خيارات وهمية.

فانسداد الآفاق الذي يولد الإحباط واليأس والحروب وما تلحقه من تدمير وقتل وما يرافقها من حصار وتجويع، كانا على مر التاريخ الوسيلة الأكثر فاعلية، التي توظفها القوى الكونية المتنفذة ووكلاؤها المحليون لتشويه الوعي الجمعي الضروري للتحكم باتجاه تطور حركة التاريخ. والذي لا يمكن تحقيقه بدون انخراط شعبي واسع في خلق الوقائع التي تفضي للمسار المستهدف.

ما يجري على الساحة اللبنانية منذ تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب الجاري، نموذج بالغ الدلالة لتوظيف الوعي الحسي والغضب الذي تبلوره الكوارث للتحكم بوعي الضحايا المعرفي الذي يوجه قرارهم وسلوكهم، ويسهل تجنيدهم في صراعات بينية تضطلع بمهمة التفكيك الذاتي وإنهاء ما تبقى من القواسم المشتركة بين الشعوب. وتعيد تموضعهم جغرافيا وديموغرافيا وفقا للاختلافات الإثنية والدينية والطائفية والمذهبية وتؤججها.

فتقوض، بذلك، البنى المجتمعية الهشة التي خلفها الاستعمار، وتفعل أدوات الاستنزاف الذاتي، وتعطل أية محاولة لتفكيك المنظومة المرتبطة به، وتعزز حضور القوى الجاهزة لمواجهة أي تمرد عليه.

وما لم يحتكم المتساجلون إلى مرجعيات واضحة يحددون مواقفهم في ضوئها، فسيواصلون تعميق التيه الذي يفاقم المآزق ويؤسس لمزيد من التردي والانهيار.

وفي ظل استمرار غياب مشروع نهضوي تحرري جامع. لا مناص من الاعتماد في تحديد المواقف وقياس مدى صوابها الوطني، بمدى إسهامها في منع العدو من تحقيق أهدافه ومشاريعه المعلنة، والتي لا يصعب الاستدلال عليها، فهو لا يخفيها، ويعلنها قادته في الأدبيات والقوانين والقرارات والمشاريع السياسية والانتخابية، ويدللون عليها ميدانيا بالسلوكيات.

وأحدثها الموتمر الصحفي الذي عقده رييس الوزراء نتانياهو عشية الثالث عشر من آب الجاري، في معرض الإعلان لشعب الاسرائيلي عن “الإتفاق التاريخي” الذي افتتحه الثلاثي الأمريكي الاسرائيلي الإماراتي باتفاق السلام الاسرائيلي- الاماراتي ورحبت به دول عربية، والذي ستتوالى فصوله الجديدة العربية والإسلامية تباعا في القريب العاجل. فكذب دواعي التوصل إليه بالغاء فرض السيادة الاسرائيلية على الضفة الغربية، وأشار الى التمسك. الأمريكي – الاسرائيلي بذات المسار السابق الذي اعترف بالسيادة الاسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة، واجل الاعلان على فرضها على كامل فلسطين بحدودها الانتدابية من البحر الى النهر. لحين استكمال الاتفاقات الجاري إنضاجها مع الدول العربية والإسلامية، وفقا لمبدأ ” سلم تسلم ” او بتعبيره الملطف ” السلام مقابل السلام “.

وبدون وجود معيار واضح نحتكم إليه ونقيس به صدقية مواقفنا، سنجد أنفسنا في صف واحد مع أعدائنا المتربصين بأوطاننا وشعوبنا، بدعوى الاحتكام إلى مبادىء جميعها محقة تتصل بالعدالة والحرية وحقوق الانسان والنزاهة والديموقراطية، وظفها الأعداء بكفاءة فاخترقوا الأوطان وابادوا وهجروا الشعوب الحالمة بتحقيقها بالاستقواء باعداء الخارج في مواجهة خصوم الداخل، وحولوا جميع دولنا الى دول فاشلة تستقوي على شعوبها التي باتت. تترحم على الماضي الذي. ثارت عليه.

فهل نتعظ ؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى