غانية ملحيس: استعادة المشهد: من خارطة الطريق إلى خطة ترامب إعادة إنتاج العطب البنيوي الفلسطيني في خطاب الإصلاح والسلام

غانية ملحيس 17-10-2025: استعادة المشهد: من خارطة الطريق إلى خطة ترامب إعادة إنتاج العطب البنيوي الفلسطيني في خطاب الإصلاح والسلام
إنعاش الذاكرة قبل الحماس
إنعاش الذاكرة ليس استدعاءً للماضي، بل فعل وعيٍ للمستقبل.
فالشعوب التي تُصاب بفقدان ذاكرتها التاريخية تُقاد بسهولة إلى تكرار مأساتها في صيَغٍ جديدة.
واليوم، وقبل اندفاع الحماس الفلسطيني نحو انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة، تبدو العودة إلى الذاكرة السياسية القريبة واجبة، لا بهدف اجترار الجراح، بل لتفكيك البنية التي أنتجت الهزيمة، والتي يجري استعادتها اليوم بأدوات وشعارات مختلفة.
أولًا: من كامب ديفيد إلى انتفاضة الأقصى – لحظة الانفجار المؤسِّس
بعد أسابيع قليلة من فشل مفاوضات كامب ديفيد (تموز /يوليو 2000)، حمّلت الولايات المتحدة والغرب، بل وبعض الأصوات العربية والفلسطينية، الرئيس ياسر عرفات مسؤولية الفشل، لرفضه التنازل عن القدس وحق العودة.
وفي 28 أيلول/ سبتمبر 2000، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون بزيارة استفزازية إلى الحرم القدسي الشريف تحت حراسة 3000 جندي مسلح، ما أدى إلى مواجهات عنيفة استُشهد فيها خلال الأيام الثلاثة الأولى 26 فلسطينيًا وجُرح 1173، لتندلع إثرها انتفاضة الأقصى التي عمّت المدن والمخيمات الفلسطينية، ورافقتها مواجهات مسلحة شاملة.
هذه اللحظة شكّلت الانفجار الشعبي ضد منطق المساومة الذي فرضته عملية أوسلو، وأعادت تعريف الصراع باعتباره مواجهةً مع منظومة استعمارية لا تسعى إلى “سلام”، بل إلى إخضاع طويل الأمد.
ثانيا: قمة بيروت ومبادرة السلام العربية – تكريس الوعي الإذعاني العربي
في محاولة لاحتواء تداعيات الانتفاضة، عقدت القمة العربية العادية في بيروت (27-28 آذار/مارس 2002)، وأُطلقت فيها مبادرة السلام العربية التي اقترحت “السلام الشامل” مقابل انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
جاءت المبادرة في سياق إقصاء عرفات – إذ مُنع إسرائيليا من السفر لحضور القمة، وعربيا من بث كلمته المسجلة في القمة – فكانت إشارة إلى بدء عزله سياسيا.
اللافت أن المبادرة منحت الشرعية لوجود إسرائيل على 78% من أرض فلسطين الانتدابية، مقابل وعد بدولة على الـ 22% المتبقية.
هكذا تحوّلت المبادرة إلى تكريس نص تأسيسي لمرحلة الإذعان الرسمي العربي، جرى التمهيد له على مدارعقود، وأعاد صياغة القضية الفلسطينية في لغة “التسوية” لا “التحرر”.
ثالثًا: من خطاب بوش إلى خارطة الطريق – صناعة القيادة البديلة
في اليوم التالي مباشرة، 29 آذار/ مارس 2002، اجتاحت القوات الإسرائيلية مناطق الحكم الذاتي، وحاصرت مقر عرفات في رام الله.
ثم جاء خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن (24 حزيران/يونيو 2002) ليعلن أن قيام دولة فلسطينية مرهون بظهور قيادة فلسطينية جديدة “قادرة على إنهاء العنف وبناء مؤسسات ديمقراطية”، مؤكدًا أن الدعم الأمريكي مشروط بتنفيذ هذه المتطلبات.
وبعد أشهر، في كانون الأول/ ديسمبر 2002، أُعلن عن تشكيل الرباعية الدولية للسلام (الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، وروسيا)، لتكون الجهة المشرفة على ما سُمّي بـ“خارطة الطريق” – الإطار الرسمي الجديد لتحقيق الدولة الفلسطينية على مراحل، بوصاية دولية مباشرة.
هكذا، أُعيد بناء النظام السياسي الفلسطيني لا بوصفه تعبيرًا عن إرادة التحرر، بل كمختبر للإصلاح الموجّه دوليًا، تحت شعار “الديمقراطية والمؤسسات والشفافية”.
رابعا: الانتقال من التحرر إلى الإدارة
تحت ضغوط أمريكية وعربية مكثفة، فُرض على عرفات تعديل النظام السياسي الفلسطيني واستحداث منصب رئيس الوزراء لتقليص صلاحياته، وفي 19 آذار/ مارس 2003 تم تكليف محمود عباس (أبو مازن) بتشكيل الحكومة.
كانت المهمة المعلنة هي تنفيذ “الإصلاحات السياسية والأمنية”، أي عمليًا إعادة هيكلة السلطة لتكون شريكًا أمنيًا لإسرائيل.
وفي 3 حزيران/ يونيو 2003، انعقدت قمة شرم الشيخ بمشاركة الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن، والرئيس المصري حسني مبارك، وولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، والملك الأردني عبد الله الثاني، وملك البحرين حمد بن عيسى، والرئيس اليمني علي عبد الله صالح، ورئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس.
أكدت القمة دعم “خارطة الطريق”، ورفض “العنف والإرهاب من أي طرف”، ودعت إلى “وقف الانتهاكات وتحسين الوضع الإنساني”، وشددت على دعم السلطة الفلسطينية في “فرض سيطرتها الأمنية”.
وفي اليوم التالي، 4 حزيران/ يونيو 2003، عُقدت قمة العقبة بمشاركة بوش وشارون وعبد الله الثاني ومحمود عباس، حيث أُطلقت خارطة الطريق رسميًا، وتعهدت السلطة بوقف العنف المسلح، بينما أعلنت إسرائيل التزامها بإزالة البؤر الاستيطانية غير المرخصة. وبتحسين الظروف الإنسانية، وتعهد بوش بدعم قيام دولة فلسطينية بحلول عام 2005 إذا تم تنفيذ الالتزامات.
لكن جوهر المشروع لم يكن بناء دولة، بل ضبط المجتمع الفلسطيني وإعادة صياغة وعيه السياسي وفق المعايير الأمريكية – الإسرائيلية.
خامسًا: أزمة النظام وإزاحة عرفات
في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2003، قدّم محمود عباس استقالته من رئاسة الوزراء بسبب خلافات مع عرفات حول إدارة السلطة وتنفيذ “الإصلاحات”، ليُكلف أحمد قريع بتشكيل الحكومة.
أصبحت الأزمة السياسية علنية، وبدأت الدوائر الأمريكية والإسرائيلية والعربية وبعض الفلسطينية، تعتبر عرفات “عقبة أمام السلام”.
ووفق ما ورد في تقارير ومذكرات دبلوماسية، قال شارون لبوش: “الله يحتاج إلى المساعدة”، في إشارة إلى التخلص من عرفات.
في أواخرتشرين الأول / أكتوبر 2004 تدهورت صحته بشكل مفاجئ، ونُقل إلى باريس للعلاج، ثم توفي في 11 نوفمبر 2004 متأثرًا بمادة مشعة (البولونيوم-210)، كما أثبتت الفحوص اللاحقة.
تولّى روحي فتوح الرئاسة مؤقتًا، وتم التحضير لانتخابات رئاسية فاز فيها محمود عباس بنسبة 62% في 9 كانون الثاني/ يناير 2005، وتسلّم مهامه رسميًا في 15 كانون الثاني /يناير 2005.
سادسًا: مؤتمر لندن تكريس “الإصلاح” كبديل للتحرر
في 1 آذار/ مارس 2005، عُقد مؤتمر لندن بدعوة من رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، وبمشاركة: كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية، وكيث دايتون، الذي كان يشرف على تدريب وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، والرئيس الفلسطيني عباس ووزير المالية سلام فياض، وممثلين دوليين وعرب (مصر والأردن والسعودية والإمارات والامين العام لجامعة الدول العربية).
قدم الرئيس محمود عباس في المؤتمر خطة للإصلاح شملت إصلاحات في مجالات الأمن، والحوكمة، والاقتصاد، والبنية التحتية، وطلب دعما ماليا لتنفيذها يصل إلى 3.8 مليار دولار أمريكي.
تضمن البيان الختامي للمؤتمر: إدانة أعمال العنف من أي طرف والتشديد على الالتزام بخارطة الطريق، وتأييد خطة الإصلاح الفلسطينية، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وتوفير تمويل لإصلاحها 1.2 مليار دولار، والتزام بدعم برامج الحوكمة، الأمن، والتنمية الاقتصادية وسيادة القانون، وتشجيع الاستثمار الخاص وبناء بنية مالية وإدارية شفافة ومكافحة الفساد كشرط للدعم. وأكد على هدف الدولة الفلسطينية ضمن حلّ الدولتين مشروط بتنفيذ الاصلاحات.
في الواقع، كان المؤتمر محطة تأسيسية لربط السلطة الفلسطينية بالمنظومة الأمنية الإسرائيلية والغربية، مشروطة بإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وإصلاح الاقتصاد والإدارة.
في السياق ذاته، أعلن شارون قراره الانسحاب الأحادي من قطاع غزة دون تنسيق مع السلطة، مع فرض قيود صارمة على الحركة بين غزة والضفة، لتتحول غزة إلى كيان محاصر ومنفصل، يخدم منطق “إدارة النزاع لا حله”.
سابعًا: انتخابات 2006 والانقسام – انهيار البنية من الداخل
تحت ضغوط داخلية وعربية ودولية، أُجريت الانتخابات التشريعية في كانون الثاني/ يناير 2006، رغم إدراك الجميع أن حركة حماس، المعارضة لاتفاق أوسلو، مرشحة للفوز.
سمح الاحتلال بإجراء الانتخابات في القدس، لتفويت الفرصة على عباس للتهرب من إجرائها، وسهّل المراقبة الدولية بقيادة جيمي كارتر الذي أشاد بنزاهتها.
فازت حركة حماس بالأغلبية، لكن فوزها لم يكن أيديولوجيًا، بل عقابيًا ضد حركة فتح التي أدارت السلطة منذ عقد دون نجاح في إدارة الصراع ومواجهة تسارع التوسع الاستيطاني جغرافيا وديموغرافيا، أو في ادارة شؤون الشعب الفلسطيني وبناء مؤسسات عامة كفوءة وفعالة.
رفض الغرب والأنظمة العربية الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية الجديدة، التي ترأستها حركة حماس، ففُرض الحصار السياسي والمالي، ووضعت العراقيل الفلسطينية، وانهارت حكومة الوحدة الوطنية، ليتحول الصراع إلى مواجهات دامية انتهت بسيطرة حماس على قطاع غزة، وفتح على الضفة الغربية.
منذ ذلك الحين، انقسم النظام السياسي الفلسطيني إلى سلطتين، تموّلهما الأطراف الدولية والعربية ذاتها، في إدارة مقصودة للانقسام لا لإنهائه.
ثامنًا: بنية العطب – من الإصلاح إلى الاستلاب
كل ما سبق لا يمكن قراءته كوقائع سياسية فحسب، بل كبنية معرفية مهيمنة.
لقد أُنتج النظام السياسي الفلسطيني داخل المنطق الأداتي للحداثة الغربية، الذي يرى في “الإصلاح” وسيلة للضبط لا للتحرر.
وهكذا تحوّل المشروع الوطني إلى منظومة إدارية – أمنية مرتهنة، تتلقى شرعيتها من الخارج، وتفقد ارتباطها بالتحرر الوطني وبالشعب الفلسطيني.
هذا ما يجعل من “العطب البنيوي” في النظام الفلسطيني نتاجا معرفيا واستلابا فكريا، لا مجرد خلل في الأداء أو الفساد، بل نتيجة لتبني منطق الحداثة الغربية العنصرية التي تمنح الحقوق للغرب وتحجبها عن المستعمَرين.
تاسعًا: المشهد الراهن (2025) – استعادة الأدوات وتحديث الخطاب
اليوم، يتكرر المشهد ذاته بوجوه جديدة.
فـ“خطة ترامب للسلام” هي الامتداد الطبيعي لخارطة الطريق، و “قمة شرم الشيخ (13 أكتوبر 2025)” هي النسخة الثانية من قمة العقبة 2003، بينما “التحالف الإبراهيمي” هو النسخة المحدثة من “السلام الشامل”. تم استدعاء “رموز فلسطينية بديلة” تحت عنوان “الإصلاح” ذاته، وعاد طوني بلير إلى المسرح، لا كقائد سياسي، بل كمساعد تنفيذي لويتكوف وكوشنر، وأُلقى الرئيس الأمريكي خطابا في الكنيست (13/10/2025) معلنًا التزام واشنطن المطلق بإسرائيل وقيادتها الإقليمية ضمن ما يسمى “السلام الإبراهيمي”. وفي اليوم ذاته، انعقدت قمة شرم الشيخ الجديدة لحشد الدعم العربي والدولي لخطة ترامب.
حين تُصبح الذاكرة شرط النجاة
إن استعادة هذه الوقائع ليست تمرينًا في التاريخ، بل فعل مقاومة معرفية ضد الاستلاب المتجدد. فما تبدّل هو اللغة، لا البنية:
الاستعمار القديم يعود بأدوات “الإصلاح” والديمقراطية، و ”السلام” يُعاد إنتاجه كغطاء للهيمنة الأمريكية – الإسرائيلية المشتركة.
إن لم يقرأ الفلسطينيون والعرب هذه البنية في عمقها، فسيُعاد إنتاج مشهد 2005 – 2006 في كل دورة جديدة من “الإصلاح” و“الانتخابات”.
فالتحرر يبدأ من الوعي، لا من الصناديق التي تمولها ذات القوى التي تصادر القرار.
والذاكرة – في هذا السياق – ليست حنينا إلى الماضي، بل شرط الوعي والنجاة من تكرار الهزيمة.