أقلام وأراء

عيسى قراقع يكتب – الدولة الديمقراطية الاشتراكية المستقلة في سجون الاحتلال بين الماضي والحاضر

بقلم عيسى قراقع – 21/12/2020

لأول مرة في التاريخ الفلسطيني المعاصر تقوم دولة فلسطينية مستقلة وذلك خلف قضبان سجون الاحتلال، تنتزع شرعيتها من براثن السجانين وتشكل حكومتها ومؤسساتها من جيش الثوار، تمتد مساحتها على كل فلسطين الانتدابية، سكانها هم الأسرى من كل فئات الشعب الفلسطيني الصغير والكبير الرجل والمراة، ومن كل الطبقات والطوائف الدينية والأحزاب والتنظيمات السياسية، دولة ذات بعد قومي وانساني عالمي، شارك في تأسيسها أسرى عرب وأسرى أجانب من حركات تحرر وطنية من بلدان مختلفة.

هي دولة السجون التي تبلور وجودها في الفترة الواقعة بين 1969-2000، ربما هي مفارقة أن مشروع الاستقلال الوطني الفلسطيني تحقق خلف أسوار سجون الاحتلال ولم يكن ذلك بفعل تسويات سياسية أو قرارات دولية، وانما بفعل شلالات الدماء والتضحيات والبطولات الجماعية المنظمة، بالأمعاء الخاوية والارادة الصلبة لمجموع الاسرى المناضلين في دفاعهم عن كرامتهم الانسانية وعن قناعاتهم الوطنية، انتزع الأسرى دولة الأمر الواقع وحطموا منظومات القمع الاسرائيلية التي استهدفت الانسان الاسير وكيانه السياسي.

وربما هي مفارقة أخرى أن دولة السجون المستقلة كانت دولة ذات نظام اشتراكي ديمقراطي تعددي لها جنودها ووزراؤها وقادتها ودستورها وانظمتها الادارية والسياسية والاقتصادية والثقافية، تركت آثارها التربوية والوطنية على الالاف المؤلفة من الأسرى الذين دخلوا السجون، وتركت نتائج بعيدة المدى على الحياة السياسية الفلسطينية خارج السجون، وكانت مدرسة السجون كما يوثق كافة الباحثين هي من أطلق جميع الانتفاضات والهبات الفلسطينية في وجه الاحتلال، وهي أكثر من حمى شرعية منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني من كل المؤامرات الاسرائيلية حول ايجاد بدائل لها.

دولة الأسرى في سجون الاحتلال هي من نقل ثقل النضال الوطني الفلسطيني من الخارج الى الداخل بشكل نهائي وانقذ الثورة الفلسطينية من حصار الجغرافيا، وهي التي تصدت لمحاولات وزير الدفاع الاسرائيلي اسحق رابين خلال زيارته لسجن النقب عام 1988 ايجاد قيادات بديلة لمنظمة التحرير من الداخل للحوار معها، فقد خرج من سجن النقب خائباً بعد ان ابلغة الاسرى ان هناك عنواناً وحيداً للحوار معه وهي منظمة التحرير.

كان اضراب الأسرى في سجن جنيد المركزي عام 1987 والذي استمر 20 يوماً أحد الشرارات التي أشعلت الانتفاضة الأولى، وخريجو دولة السجون هم الذين شكلوا القيادة الوطنية الموحدة في الانتفاضة، هيئة اركان قادت العصيان المدني والكفاح الشعبي في أعظم ثور شعبية سلمية ضد الاحتلال الاسرائيلي، الاسرى المحررون الذين عاشوا في دولة السجون نقلوا تجربتها الفريدة وثقافتها وأدبياتها الوطنية وروحها العنيدة الى الأطر والمؤسسات واللجان والاتحادات والنقابات والى كل حي وحارة وشارع في اكبر عملية تأطير وتنظيم لكافة فئات الشعب الفلسطيني.

دولة السجون كانت رقماً صعباً أقلق الاعداء، فقد تصدى الاسرى لسياسة الطمس والشطب الانساني والثقافي وسياسة الاذلال والقمع، ودفع ثمن ذلك المئات من الشهداء والجرحى، صارت غرف وزنازين السجون خنادق وامكنة للابداع، أقام الاسرى سلطتهم الثورية المضادة لسلطة القمع الاحتلالية تحكمها قواعد وقوانين وضوابط وتقاليد ظلت راسخة لسنوات طويلة، هي دولة مشيدة من لحم ودم وانتماء يصعب قصفها بالصواريخ او احتلالها بالدبابات.

دولة السجون كانت دولة الوحدة الوطنية، دولة الرؤية المشتركة والقرار الجماعي، المصلحة الوطنية العامة فوق المصالح الحزبية والفردية، لوائح تضبط العلاقات الفصائلية وعمل الهيئات من القاعدة الى القمة، قوانين لحل الخلافات والنزاعات بالحوار وفق الانظمة السارية، كل ذلك أجبر ادارة السجون على الاعتراف بسلطة الاسرى الوحدوية والتعامل معها على اساس جماعي وليس فردي او حزبي.

دولة السجون هي دولة اشتباك، لقد اجبرت حكومة اسرائيل على اجراء مفاوضات معها على مستوى سياسي عال خلال الاضراب الملحمي التاريخي الذي خاضه الاسرى بتاريخ 27/9/1992، فقد أشرف رئيس الوزراء الاسرائيلي في ذلك الوقت اسحق رابين على ادارة المفاوضات مع قيادة الأسرى في سجن جنيد المركزي عندما شكل لجنة على رأسها شاؤول ليفي مستشار وزير الشرطة، وارييه راموت نائب منسق اعمال الحكومة الاسرائيلية في المناطق المحتلة، ورحميم دوري سكرتير وزير الشرطة، ويعقوب عمانويل رئيس مدراء منطقة هشارون في ادارة السجون، وزجبلبوم مسؤول الطاقم الطبي في ادارة السجون وأبو غزال مندوب عن المخابرات الاسرائيلية، والتي بدأت مفاوضاتها مع لجنة الحوار في السجن وعلى رأسها قائد الاضراب وممثل الاسرى آنذك الاخ قدورة فارس، وقد رضخت اللجنة الاسرائيلية امام اصرار الاسرى على تلبية معظم مطالبهم الانسانية والمعيشية والتي احدثت تحولا جذرياً في حياة وتاريخ الحركة الوطنية الاسيرة على كافة الصعد الداخلية والخارجية.

دولة السجون كانت دولة ديمقراطية اعتمدت آليات لتداول السلطة ومواقع المسؤولية بطرق سلمية وبالانتخابات الدورية لافراز القيادات والهيئات الحزبية والتنظيمية في جميع مستوياتها، ويعتبر النظام الديمقراطي لدولة السجون نظاماً مثالياً شفافاً حضارياً وربما يفوق أي نظام خارج السجون من حيث ضمان تعدد السلطات والفصل بينها، ووجود آليات للمسائلة والمحاسبة، وتحقيق المساواة في الحقوق والواجبات، وتوفير الحريات الاساسية ومشاركة القاعدة باتخاذ القرارات، ووجود المؤسسات الاعتقالية واضحة الصلاحيات.

دولة السجون كانت دولة اشتراكية، دولة المساواة وعدم التمييز، النظام المالي المشرف على عمليات الصرف من خلال الصندوق أو الكنتين تحكمه قواعد ولوائح وضوابط على حرية التملك وعدم السماح بالتمايز او بنشوء مراكز قوى على أساس التمكين الاقتصادي من قبل اشخاص لأهداف شخصية او نزعات جهوية.

النظام المالي في السجن لم يكن يتعامل مع توفير الاحتياجات للاسرى وفق ما يدفعونه من أموال، وانما بشكل متساو بغض النظر عن القدرات المالية لهذا الاسير او ذاك، فلا فرق بين أسير وآخر، لا فرق بين فقير وغني، الأسرى امام قانون السجن سواء ونصيب كل اسير كنصيب غيره بغض النظر ان استطاع المساهمة في دعم الصندوق ام لم يستطع.

ان دولة السجون لم تعرف الملكية الفردية، فالملكية الجماعية هي قانون السجناء والمساواة في التوزيع كان اساسا لسياسة الدولة الاقتصادية، وكان للملكية الجماعية تأثيرا تربوياً وثقافياً ومسلكياً ترك أثره على وعي الأسرى ونشأتهم داخل وخارج السجون.

منذ عام 2000 وللاسف الشديد انهارت دولة السجون التي كانت شوكة حادة في حلق الاحتلال، انهار النظام الاعتقالي المضاد لنظام سلطة سجون الاحتلال واصاب جسد الحركة الأسيرة التفتت والتشرذم وتراجعت التقاليد الاعتقالية الجامعة، هناك أسباب كثيرة لعبت دوراً في هذا الانهيار منها انعكاسات اتفاقيات اوسلو وتداعياتها على واقع الاسرى، ومنها الانقسام الفلسطيني الفلسطيني واستغلال ادارة السجون الاسرائيلية لكل ذلك باحكام سيطرتها على المعتقلين وخلق نظام فصل عمودي وافقي في صفوفهم، وتحوير مفاهيمهم وقناعاتهم وتغيير اهتماماتهم واولوياتهم من مجتمع مقاوم ومن سلطة ثورية الى واقع تسوده المصالح الفردية والجهوية والبلدية والشللية.

لقد نجح نظام السيطرة الذي قادته استخبارات ادارة السجون وبتقنيات حديثة ومدروسة من تفكيك دولة السجون وتحويل مجتمع الاعتقال الى مجتمع فوضوي، لقد تم فردنه الاسرى وتدمير اسس العمل الجماعي وخصخصة نضال الاسرى وتحويل مجتمع السجون الى مجتمع استهلاكي، لقد برزت ظواهر الفساد والسلبطة والعنف الداخلي وتدمير الثقافة الوطنية والتقاليد والقوانين الاعتقالية.

عبر الاسير المناضل خليل أبو عرام في كتابة القديس والخطيئة عن واقع السجون الحالي بقوله: ان ادارة السجون ادخلت مستجدات على الحركة الاسيرة كالاستهلالك والتجارة وغيرها من السياسات باتت نهجا ثابتا لدى الحركة الاسيرة، واصبح البحث عن سياسات للتعايش مع الطرف الاخر هدفا مما اضعف وتيرة الصراع وغيب الاهتمام والطموح لتحقيق الانجازات.

عندما حاول الأسير القائد مروان البرغوثي ومعه ما يقارب الف أسير آخر احياء دولة السجون واعادة الاعتبار لمكانتها النضالية وذلك في الاضراب الملحمي يوم 17/4/2017 تعرض الأسرى المضربين لابشع واقسى عمليات القمع الوحشي على مدار 42 يوما من الاضراب وباشراف رسمي من الحكومة الاسرائيلية واجهزتها الامنية، وبدى العدوان على الاضراب وكأن اسرائيل تخوض حربها الرابعة على الشعب الفلسطيني ولكن هذه المرة على محاولات احياء دولة السجون خلف القضبان.

الأسرى مازالوا تحت الاستهداف فالاحتلال لم يكتف بهدم وتقويض دولة السجون الموحدة وانما يواصل عدوانه على ارادة وعقل الاسير وهويته النضالية، وذلك في محاولات تجريم نضال الاسرى وخلق سردية تقوم على وصمهم بالارهاب بهدف تجريد العمل النضالي الفلسطيني من مشروعيته ومكانته القانونية ولاجبار الحركة الوطنية الفلسطينية على الاستسلام الاخلاقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى