منوعات

عيسى قراقع: الاسير القائد مروان البرغوثي: ليس الأقوياء دائما من يملكون مفتاح السجن

عيسى قراقع 8-10-2025: الاسير القائد مروان البرغوثي: ليس الأقوياء دائما من يملكون مفتاح السجن

في زمنٍ تتكسر فيه المدن وتُدفن فيه الأحلام تحت الركام، تقف غزة اليوم شاهدة على انقلاب المفاهيم الكبرى: الحرية، القوة، والكرامة.

من قلب الحرب، ومن زنازين الأسرى، خرج تعريف جديد للقوة، لا يشبه ما عرفته البشرية من قبل.

فالقوة لم تعد امتلاك الطائرات والدبابات، بل امتلاك الإرادة التي لا تُقهر، والقدرة على أن تبقى إنسانًا في وجه الوحشية المطلقة.

حرب الإبادة الدموية على غزة لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل امتحان فلسفي لمفهوم الوجود ذاته.

حين تصير الحياة في غزة معركة يومية ضد الموت، تغدو الحرية فعلًا من أفعال الإيمان، لا السياسة.

الحرية لم تعد وعدًا مؤجلًا خلف المفاوضات، بل جوهرًا يسكن في قلب من اختار أن يبقى واقفا في وجه الموت، رغم كل شيء.

فأن تكون حيًا وسط الإبادة هو إعلان تمرّد على العدم وحبال المشنقة.

وهكذا تحولت غزة إلى مدرسة جديدة في فلسفة الوجود: أن تبقى حرًا لا لأنك نجوت، بل لأنك لم تتخلَّ عن المعنى والهوية والمقاومة.

في لحظة تتقاطع فيها النار والرماد، يصبح تحرير الأسير ليس مجرد حدثا عسكريا او تبادل في معادلة سياسية، بل لحظة فكرية تكشف عن قيمة الحرية ذاتها، عن انتصار الإنسان في قلب المحو، وعن انهيار الصورة الاخلاقية للمحتل الذي ظن أن السجن هو آخر حدود الوعي والمصير.

منذ عقود، ظل الأسرى الفلسطينيون وجعًا غائبًا في ضمير العالم، المؤبدات والمسالخ البشرية، سنوات القهر وهدر الاعمار دون أن يتحرك أحد، لكن حين أصبح للإسرائيليين أسرى في يد المقاومة، تغيّر وجه الخطاب:

بدأ الاحتلال يتحدث عن “كرامة الأسير” و”القلق على مصير الإنسان”.

أما الإنسان الفلسطيني، الذي حُرم من الشمس والهواء، و مورست بحقه كل أشكال التعذيب والتدمير الجسدي والنفسي لعشرات السنين، فظلّ مجرد رقم في تقارير منسية، وفي قبور حجرية.

لقد انكشفت المفارقة الأخلاقية: حين ذاق السجان طعم القيد، بدأ يتحدث عن الحرية.

الاحتلال في هذه الحرب لم يتعلم الدرس: أن من يملك السجون هو أول من يعيش داخلها، فالمظاهرات والاحتجاجات في تل ابيب من قبل ذوي الأسرى الاسرائيليين تقول: هذه الحرب حولتنا من سجانين إلى سجناء، صرنا أسرى الكراهية والعنصرية وغياب الوعي، وان من يغلق على انسان بابا يغلق على نفسه نور الحياة، الإبادة هنا تحاصرنا وجدران الزنزانة تخنقنا، القوة لم تمنحنا الامن والاستقرار، بل حشرتنا في معسكرات وحالة طوارئ دائمة.

وسط هذا المشهد، وبعد عامين من الذبح الممنهج في قطاع غزة والسجون، يتوهّج اسم مروان البرغوثي كرمز للحرية التي لا تُروض.

هدده ابن غفير بالقتل في زنزانته، لكنه خرج من عزلته إلى الفضاء العام كصوتٍ للفكرة التي لا تُعتقل.

يشبه مروان سقراط وهو يواجه السمّ بابتسامة الفكرة، أو مانديلا وهو يكتب بيان الإنسانية من سجن روبن آيلاند.

لقد تحوّل السجن عنده إلى مختبر للكرامة، والزنزانة إلى مدرسة في الصبر، كأن الحديد يصقل الروح لا يقيّدها.

غزة اليوم أعادت تعريف الحرية على نحو أكثر قسوة ووضوحًا:

كل بيت مهدّم هو كتاب جديد في فلسفة الحرية، وكل أسير هو شاهد على أن الإنسان قادر أن يخلق المعنى من تحت الأنقاض.

وكما قال نيكوس كازانتزاكيس في روايته «الحرية أو الموت»:

“أفضل أن أموت وأنا أقاتل من أن أعيش وأنا راكع.”

السجن والتعذيب ليستا مجرد أدوات عقابية؛ إنهما تجارب تكشف الوجه الحقيقي للغَياب الأخلاقي في عقلية المحتل والسجان.

الاغتصاب، التجويع، الإذلال، ونزع الأسماء والذاكرة، كلها أعمال تهدف إلى تجريد الإنسان من إنسانيته، لِيُصبح جسدًا بلا قصة ولا صرخة.

لكن المفارقة أن هذا الاجرام ذاته يصنع كشفًا:

حين يتمّ إخراج الإنسان من إنسانيته، تكشف العملية عن هشاشة من مارسها: عن خوفٍ عميقٍ داخل عقلية من يعتقد أنه يستطيع حبس التاريخ في زنزانة.

الحرية هنا تعمل ككاشفٍ للجرح: تخرج من الزنزانات رياحٌ تحمل صوت الضحية والجلاد معا، فتبدأ المحاكمة الإنسانية، ليست محكمة تُدار بين الجدران، بل محكمة الضمير العام الذي لا يمكن أن يُقفل، إنما يكشف عن وجع السجان قبل أن يكشف عن قوة الأسير، لأن من يجرّد الآخر من إنسانيته يثبت أنه فقد مقومات إنسانيته هو ذاته.

وبعد أن تهب رياح الحرية، لا تعود أبواب السجون قادرة على إخفاء الحقائق؛ فتبدأ محاكمة لا تقام في زنزانة، بل في ضمير العالم.

حين أبحر أسطول الصمود نحو غزة، كان يحمل ضمير العالم في مياهه.

اعتُقل المتضامنون وأُهينوا لأنهم تجرأوا على كسر الحصار الأخلاقي، لقد قام جنود الاحتلال بجر الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ على الأرض، واجبارها على تقبيل علم الاحتلال، وسمع العالم زعيق المجرم ابن غافير وهو يهدد المختطفين من اسطول الصمود العالمي.

وهكذا امتدّ السجن من الأرض إلى البحر، ومن الاحتلال إلى العقل الغربي ذاته:

السجن أصبح كونيًا، والحرية أيضًا، لم يعد الفلسطيني وحده الأسير، بل كل من ظلّ صامتًا أمام القيد وهو يدّعي الإنسانية.

الإفراج عن مروان البرغوثي إن تحقق قد يكون لحظة رمزية تحاكي سقوط جدار برلين، لأن خروج إنسان من زنزانة قد يعلن سقوط جدار من جدران الصمت التاريخي.

الصفقة هنا اختبار: هل ستعيد للعالم معنى العدالة أم ستظل الحرية عرضة للصفقات المؤقتة؟ أو اسما بلا معنى عندما يصبح الوطن كله خلف اسلاك شائكة.

البرغوثي عاش نمطا ملحميا خلال خمسة وعشرين عاما خلف القضبان، السجن عنده كهف تحول إلى رحم ولادة ثانية، السجن لم يلغ وجوده، بل حوله ال فكرة تقاوم الموت السياسي.

البرغوثي جمع بين العقل والحرية والتضحية، وكأنه بروميثيوس في الأسطورة الاغريقية، والذي سرق النار من السماء لمنحها للانسان، البرغوثي سرق نار الحرية من السجان فصار رمز من يتحدى الظلم باسم الوعي والكرامة.

البرغوثي غاب عن المشهد المادي، لكنه حاضر في الضمير الجمعي للشعب الفلسطيني كصوت لا ينطفئ، فالمسيح الفلسطيني غاب عن الصليب ليولد في قلوب العالم.

حين امتلكت المقاومة أسرى من الاحتلال، انقلبت معادلة العالم.

القوة لم تعد في من يملك الطائرات، بل في من يملك القدرة على الصمود والقرار الأخلاقي، وتهريب الاغنية من حفرة في الجدار.

من يقول “لن تتحرروا ايها الاسرائيليون إلا حين تعود إنسانيتكم، وتوقفوا الوحش الذي انطلق من اعماقكم،

هكذا صار الأسير سيدًا، والسجان رهينةً لمعناه.

لقد تحولت المعركة من معركة أجساد إلى معركة قيم، ومن صراع حدود إلى صراع تعريفات: ما الحرية؟ من القوي؟ من الإنسان؟

الحرية ليست نصرًا سياسيًا بقدر ما هي وعيٌ وجوديّ يتخطى الحرب والسجن والتعذيب.

وحين تتحرر غزة أو يُفرَج عن الأسرى، لن يكون ذلك مجرد حدث سياسي، بل عودة الروح إلى فكرة الإنسان التي أرهقها القصف والموت والقيد في العتمة والغبار.

لقد علّمت فلسطين، كما علمت الجزائر وفيتنام، أن الحرية أقوى من الحرب، وأطول عمرًا من الإمبراطوريات، وأن الكلمة التي تُقال في زنزانة قد تهزم جيشًا كاملًا في العراء.

وبعد أن تكشف الحرية عن ما يجري خلف الأبواب المغلقة، تبدأ المحاكمة الحقيقية — محاكمة أخلاقية لا تُدَار في قاعات البلاط، بل في ذاكرة البشرية.

الاسرى المحررون هم نقيض الأيديولوجية الصهيونية التي بنت وجودها على فكرة السيطرة المطلقة على المكان والزمان والجسد، فحين يخرج الاسير، يخرج معه التاريخ من الظلام، ويكشف جوهر الاحتلال: أنه ليس قوة بل خوف، وليس نظاما بل مرضا وجوديا اسمه الرعب من الحرية.

الاحتلال في جوهره مشروع لحبس الاخر، لكنه ينتهي بحبس الذات، فمن يبني جدارا حول شعب، يبني جدارا حول روحه.

الاحتلال هو أوسع السجون، وغزة هي اكبر سجن على وجه الارض، وسجونه ليست من حديد بل من أوهام وخرافات وتاريخ مزيف يطارده.

الأسير الفلسطيني يعرف سجنه، يعرف عدوه، لذلك يبقى اقدر على الحلم، اما السجان فهو لا يرى جدرانه، يعيش داخل قفص من الانكار، يظن أنه حر وهو محكوم بخوفه من الحرية ذاتها.

الأسير القائد مروان البرغوثي يقول لجنرالات الإبادة :

لقد ظننتم أن الإبادة تمنحكم الخلود والنصر، فإذا بها تكتب نهايتكم في ذاكرة العالم.

نحن لانحلم بموتكم، بل بانعتاقكم من هذا الجنون الذي جعل منكم سجانين وسجناء في آن واحد، الاحتلال هو السجن الأكبر، من يدخله لا يخرج منه منتصرا بل مثقلا بجرائمه.

كل احتلال هو قيد على الروح، وكل قيد مصيره أن ينكسر.

من اراد السلام فاليعترف اولا بأنه لم يكن إنسانا حين أنكر إنسانية الآخر، فتعالوا إلى انسانكم قبل أن تفنى الإنسانية فيكم.

ليس الاقوياء من يملكون مفاتيح السجون، بل من يملكون القدرة على البقاء أحرارًا داخلها.

ابدأوا من هذه الكلمة: الحرية لنا ولكم معا، أو لا حرية لاحد.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى