أقلام وأراء

عيسى الشعيبي: هل تنتج الحرب الأوكرانية إسرائيل أوروبية؟

عيسى الشعيبي 20 سبتمبر 2022

 

بعيداً عن قائمة الخسائر الطويلة للحرب الجارية في أوكرانيا منذ نحو سبعة أشهر حافلة بالدماء والدمار والدموع، وبصرف النظر عن السجال المحتدم بشأن وجاهة المبرّرات المسوّغة لحربٍ طالت أكثر من التوقعات، يمكن حصر النقاش المجدي، وتكثيف الضوء الشديد ليس فقط على الأرباح والخسائر التكتيكية لهذا الطرف أو ذاك، وإنما على الأخطاء الاستراتيجية عميقة الغور، باهظة الكلفة، وواسعة المضاعفات، التي ارتكبتها موسكو في حربٍ تبدو بلا نهاية وشيكة، ومن ثمّ استشراف أهم النتائج طويلة الأمد لأم المعارك الروسية في زمن ما بعد الاتحاد السوفييتي، سيما وأن تداعيات هذه الحرب فاضت عن حدود البلدين المشتبكين بالحديد والنار إلى دول العالم كله.

ما يخاطبنا نحن من هذه الحرب ليس أمراً افتراضياً، ولا هو من بنات خيالٍ جامح يجعل من الحبّة قُبة، بل هي حقيقة في طور التشكّل، بشّر بها فولوديمير زيلينسكي، الرئيس الأوكراني المعجب بالتجربة الصهيونية، وألح عليها في بداية الغزو الروسي لبلاده، حين دعا حلفاءه في الغرب إلى تحويل أوكرانيا، بالدعم والمساندة، إلى إسرائيل أوروبية كبيرة، تماثل نظيرتها الشرق أوسطية بالقوة العسكرية النوعية المتفوقة على جميع جيرانها، وبالقدرات التكنولوجية التي جعلتها بمثابة حاملة طائرات أميركية غير قابلة للغرق، ترابط في أكثر البحار دفئاً، قبالة أغنى أراضي الدول ثروة نفطية وغازية.

ولا أحسب أن زيلينسكي، الممثل الكوميدي المغمور قبل الحرب، وقد صيّرته هذه بطلاً قومياً وزعيماً دوليا تُصغي له برلمانات أوروبا وأميركا، كان معنياً، في تلك اللحظة العصيبة، بتقريظ مثله الأعلى الهجين في ديارنا العربية، أو كان يبعث رسائل مفتوحة إلينا نحن العرب، وإنما كان يبثّ لواعجه على أثير البثّ التلفزيوني المباشر إلى روسيا، بعد أن غزته واحتلت خُمس أراضي بلاده، إن لم نقل إنه كان يُنذر جارته القوية الكبيرة، ويتوعدها بالويل والثبور عاجلاً، وعظائم الأمور آجلاً، إثر تدفق الأسلحة الغربية إلى جيشٍ لم يحسب الكرملين له حساباً، حيث صار في وسع المستهدف في كييف أن يهدّد أعداءه بالفم الملآن، وأن يُهوّل عليهم بمضاء أشد، بعد أن اشتدّ عود قواته قليلاً، وصمد شعبه في وجه الآلة الحربية الروسية الهائلة.

بعد نحو مائتي يوم من الحرب الطاحنة، تبدو أوكرانيا مختلفةً كثيراً عما كانت عليه قبل الغزو، حيث تتجلّى لديها اليوم عناصر قوة حربية جديدة، وتتراكم على أرضها عوامل تفوّق نوعي مكتسبة حديثاً، الأمر الذي نقلها من حالة الدفاع المتراجع إلى وضعية الهجوم التكتيكي الناجح، على نحو ما أظهرته معركة استرداد مقاطعة خاركيف، سواء بفضل كفاءة مقاتلين يخوضون حرباً وجودية، أو بفعل تكنولوجيا الجيل الخامس المتطوّرة، وهو ما شكّل نقطة فارقة في مسار هذه الحرب الضروس، وسجّل سابقة عسكرية مهمة، لا تكمن في أهمية خاركيف ذاتها، وإنما في أنها انتصار جزئي ضد ثاني أكبر جيش في العالم، كان يثير رهبة أوروبا كلها.

إذا ما استمرّت مثل هذه المكاسب العسكرية الأوكرانية المتفرّقة، وهو ما بات واقعياً، وتراكمت هذه الإنجازات على المدى المتوسط، فهذا سيضع روسيا أمام متغيّر لم يخطر على بال بوتين، وهو يخطّط لمعركة حاسمة تنتهي في أيام، ومن ثمّ سوف يشكّل هذا المتغير أكبر خسارة استراتيجية بعيدة المدى للروس الذين كسبوا عدواً جديداً، قوامه نحو 80 مليون كاره لجارٍ أثخن جراحهم، ونحو 645 ألف كيلومتر مربع، أين منها مساحة دولة الاحتلال الإسرائيلي، المفتقرة مثل هذين العنصرين الحيويين، الجغرافيا والديموغرافيا، أهم نقاط الضعف الاستراتيجي لدولةٍ بنت قوتها على أجنحة الطائرات الحربية.

ويمكن للمرء أن يعدّد، بلا تحفظ، سلسلة طويلة من الخسائر الروسية في الشوط الأول من حربٍ ذات أشواط غير معروفة سلفاً، إلا أن أشدّ هذه الخسائر وقعاً على مستقبل الاتحاد الروسي تحويل أوكرانيا من جار غُلب على أمره قبل ثماني سنوات في معركة شبه جزيرة القرم، ورضي واقعياً بالهزيمة، إلى دولة من فصيلة النمور العسكرية الضارية، خرجت من معمودية النار والدم بعصبيةٍ قوميةٍ متطرّفة، وغدت قادرة على الهجوم والمباغتة، وتحوّلت من بلدٍ باهت الحضور والهوية، يراه بوتين أحد أخطاء التاريخ واجبة التصحيح، إلى دولةٍ تحاكي إسرائيل المتمكّنة من فرض نفسها على المحيط المجاور، وإملاء إرادتها على العرب، اعتماداً على أميركا وعلى قوتها العسكرية الذاتية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى