أقلام وأراء

عياد البطنيجي: حماس وحتمية الهدنة في انتفاء ضرورة القتال

عياد البطنيجي 7-7-2024: حماس وحتمية الهدنة في انتفاء ضرورة القتال

يمكن القول إن موافقة حماس على هدنة مؤشر على بداية دخولها في التفكير الواقعي إذ تتطلب الحرب أقصى الواقعية، وأنها بذلك تكون بدأت في تعديل تصوراتها تجاه العلاقة بين القوة العسكرية للمقاومة وهدفها السياسي. ونرى أن هذه الموافقة، بعد مضي مدة زمنية ضرورية وكافية، لم تأتِ لأجل تحقيق بعض المكاسب التكتيكية كحال الهدنة الأولى في بداية الحرب، فهذه مسألة ليست بكاشفة، إن الجوهري في الأمر يتعلق بأن قبول الهدنة ينبع من تقدير حماس لعملها الحربي بكامله. 

تعني الهدنة إيقاف العمل الحربي، وذلك حين يتوفر سببان: الأول، عندما يوجد فرق بين الهجوم والدفاع. على سبيل المثال، عندما يكون تفوق الهجوم هو تفوق هائل على الدفاع، أو إذا كان شكل الدفاع أقوى من شكل الهجوم. فهذا السبب لا يمكن أن يوجد إلا في طرفٍ واحد يرغب في انتظار فرصة أكثر ملاءمة للعمل. فالهجوم والدفاع شيئان من طبيعةٍ مختلفةٍ ومن قوة غير متكافئةٍ، لأنه لا يمكن لتوازن تام في القوات أن يكون سببًا في إيقاف العمل العسكري، وأن تقدير ذلك لا يتعلق بتقدم طرف أو آخر من الخصمين بل بتقدم العمل العسكري بكامله. هذا بالضبط الظرف الموضوعي الذي يفرض نفسه على حركة حماس بصرف النظر عن الشعارات الرنانة التي تطلقها.

والسبب الأخير لتوقف العمل العسكري من خلال الهدنة، هو عدم معرفة الوضع معرفة تامة. على سبيل المثال عندما يكتشف طرف بوجود فرق بين معرفته وواقع ميدان القتال ناجم عن خطأ في التقدير والاعتقاد، وفي نقص في معرفة الخصم وفي طبيعته وإمكاناته وأهدافه وتطوره، وفي وفرة الإمكانات التي يمتلكها وقوة إرادته وتصميمه. أو أن يُكتشف أن الانتصار يوازي الهزيمة إذ يتحقق بكلفة كبيرة، أو النتيجة القاسية لإدارة الحرب بفعل التقديرات الخاطئة لرد فعل العدو وشدة هجومه غير المتوقع، أو الفجوة في قوة إطلاق النار، أو خسارة الوقت حين يعمل لصالح الخصم، أو عندما يكتشف طرف أن مناهج معرفته تجاه خصمه كانت قديمة مستنفذة لم تواكب التطورات في حقله، أو أنه اكتشف بأنه يقاتل بالدخول في حقل الخصم.

في الواقع، يتطلب العمل الحربي، ليكون تامًا، وقتًا معينًا يطلق عليه اسم (المدة الزمنية) تقصر هذه المدة أو تطول، حسب سرعة من يقوم بهذا العمل، فليست الحرب ضربة واحدة بدون مدة زمنية، فلكل عمل من أعمال الحرب المدة الزمنية الضرورية. ونرى أن قبول الهدنة دلالة على أن المدة الزمنية الضرورية قد دنت وصارت كافية لدخول حماس في الواقع لتكتشف الحقائق الاستراتيجية بعيدًا عن الرومانسية القتالية التي تحكمت بها عاطفتها القوية تجاه استعادة موضوع فقدته بخسارتها مركز اهتمامها أي الحكم السياسي، فكانت بحاجة لفترة زمنية كافية حتى تكتشف أن ذلك مجرد استيهام أو موضوع خيالي لإشباع رغبة مفتقدة في الواقع.  

لم يكن تفكير حماس تجاه الحرب مدفوعًا بحسابات واعية للفوائد وللميزات من خلال الصلة المستمرة بين فكرها الاستراتيجي وواقع ميدان القتال، كان واضحًا أن استراتيجيتها افتقرت التفكير في النتائج. المفارقة أن حماس، ومنذ السابع من أكتوبر، وهي خارج مفهوم الاستراتيجية إذ لم يكن قتالها قتالًا استراتيجيًا، ومنذ اللحظة التي تقبل بهدنة عاجلًا أم آجلاً، تتوقف فيها عن القتال تكون قد بدأت تصوّب تفكيرها نحو النتائج، من هذه الحيثية تدخل فعلياً في الميدان الاستراتيجي ويصبح قتالها قتلًا استراتيجيًا.  

أحيانًا يأتي التفكير الواقعي كاستجابة للخسارة وللفقد، وكذلك تهذيب النفس كاستجابة للعقاب، لأنه ذلك يفرض الارتباط بالضرورات وبالحقائق الوجودية ويلبي مطلب العناية بالنفس كإمكانية مستقبل تنطلق من خلالها نحو الحاضر. لقد اصطدمت حماس بواقعٍ صلب عنيد سيجبرها في نهاية المطاف على التراجع بعد أن تعرضت لعقاب قاسٍ بحرمانها من أصل قوتها أي الحكم السياسي لغزة، وهذا يجعل قتالها غير ضروري، تلك الخسارة الفادحة ستجبرها على القتال الاستراتيجي الذي يدفعها لتصوب نظرها على اللحظة الحاضرة لحظة الارتباط بالنتائج ومطلب الانحناء للضرورة. وعليه تعني الهدنة إعادة تحديد الوضع الاستراتيجي للمقاومة انطلاقًا من التفكير في الواقع بشكل مختلف.

وبالفعل كل ما تحتاجه حماس هو أن تخوض حربًا على نفسها لتعيد النظر في قراراتها وفي تفكيرها الذي ما برح يكرر المناهج المستنفذة نفسها تجاه إسرائيل ومنطق ممارساتها القتالية حيث برهنت الحرب الحالية أن ثمة تغيرات كبيرة في الثقافة الاستراتيجية الإسرائيلية قد فاجأت حماس. وعليه فهي تسأل نفسها أين تقف اليوم بعد أن بسط الجيش سيطرته الشاملة على القطاع والذي عاكس توقعاتها

ولذلك، نرى أن مسألة قبول حماس لهدنة استجابة لتحول بنيوي في تصوراتها تجاه الواقع، وبداية رؤيتها ضمن المدى الأوسع والأبعد التي تسمح لها بإدراك قيود القوة بعيدًا عن الخطابات الانفعالية والرؤية الضيقة التي لم تتح لها النظر إلى الأشياء بحجمها الطبيعي

 وعليه، نعتقد بأن حماس وصلت إلى مراحل متقدمة من التدهور الاستراتيجي بعد أن استكمل جيش الاحتلال الجهد العسكري في رفح، عمق حماس الاستراتيجي وآخر معقل من معاقلها، يشكل ذلك نقطة البداية نحو التحول الاستراتيجي في إدارة الحرب. لقد أصبحت قدرة حماس في تتناقص يومًا بعد يوم، ماليًا وعسكريًا، وكذلك بعد أن فقدت حكمها السياسي وصارت مدركة بأنها لن تكون في اليوم التالي للحرب كنظام حكم. فبعد أن سيطر الجيش على الشريط الحدودي مع مصر وعلى معبر رفح، بدأت حماس تناور لتشتري لنفسها وقتًا ثمينًا حيث بات الوقت ضروريًا لالتقاط بعض الأنفس ولتعويض ضعف مواردها المالية وتناقصها المستمر بعد خسارة عمقها الاستراتيجي: رفح.

   لم تتوقع حماس رد فعل إسرائيل تجاه عملية السابع من أكتوبر، فوجئت بالتحولات في الثقافة الاستراتيجية الإسرائيلية حيث قلب السابع من أكتوبر السلوك الإسرائيلي رأسًا على عقب، كما يقول الكاتب مجيد مطر. فالوقت لا يعمل لصالح حماس التي ظنت بأن جيش الاحتلال ليس بمقدوره خوض حرب طويلة وأن حرب استنزاف سوف ترهقه، ولن يحتمل الخسائر البشرية، لكن ما أظهرته الحرب خالف هذه التوقعات.  

فضلًا عن ذلك، لم تتوقع حماس كيفية استجابة إسرائيل لعملية السابع من أكتوبر، فقد فرضت العملية على إسرائيل الدخول في حرب وجودية واسعة وطويلة وشاملة تلكم هي روح الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة، بغية خلق واقع جديد لن تكون حماس جزءً منه. 

لقد كشفت الحرب أن حماس اتبعت مناهج في التفكير قديمة ومبسطة جدًا لم تقم على توقعات رد الفعل ولا توقعت قدرة الجيش على المناورات والخداع واستعمال الحركية التي تميز حروب المدن وحروب العصابات، حيث فاجأ الجيش حماس بقدرته على القتال في الحارات والشوارع وداخل البيوت وفوق الأرض وتحتها. كما أن معرفتها عن البيئة الداخلية في إسرائيل فضلًا عن الجوار الإقليمي سواء مفهوم وحدة الساحات أو الرأي العام وتحرك الأمة لمناصرة غزة، كانت كلها عبارة عن فرضيات جاء الواقع مخالفًا لها. 

لكن المفاجأة التي انحفرت في عقل حماس هي احتلال قطاع غزة عسكريًا والمكوث فيه مما يناقض معرفتها القائمة على فرضة استحالة احتلال غزة. كانت فرضيتها مبنية على أن الاحتلال خرج من القطاع ولن يعود له ولا يفكر في العودة وليس بمقدوره فعل ذلك حتى إن أراد ذلك. إن مكوث الجيش في غزة يعطل التكامل بين الاستراتيجية العسكرية والاستراتيجية السياسية للمقاومة، وبالتالي لو تمكنت حماس من الاستمرار كمقاومة حتى في حدودها الدنيا عبر مجموعات صغيرة، فإنها لن تعود كنظام حكم بمقدوره نشر السلطة في قطاع غزة. هكذا إن شرط عودتها للحكم انتفى باحتلال قطاع غزة

كان قتال حماس مبنيًا على حرمان جيش الاحتلال من تحقيق نصر حاسم اعتقدت بأن ذلك سيحقق لها التوازن من خلال تحويل المقاومة تحت الاحتلال إلى مواجهة استراتيجية، وهو في الأصل اختلال أدخلها في التدهور الاستراتيجي الذي يعني العجز عن تحويل المكسب التكتيكي إلى مكسب استراتيجي وأن كسب المعركة لا يعني ربح الحرب. وفي النهاية، ونتيجة لما تقدم، جعلت من المقاومة ذريعة للتدمير والقتل وأداة للنزوح. 

لقد أدركت حماس أن منع الجيش من احتلال غزة الذي يلبي مطلب استعادة الحكم، أصبح ممتنعًا في الواقع، حيث واجهتها إسرائيل بمناهج سياسية وأمنية وعسكرية جديدة فأسباب النزاع بين حماس وإسرائيل قد تغيرت وانقلبت رأسًا على عقب، من حرب محدودة إلى حرب التدمير الشامل لأصل قوة حماس في قطاع غزة ونزع السلاح منه نزعًا شاملًا. لقد وضعت إسرائيل حماس في وضع تحس فيه بأنها مهددة بمثل هذا الاحتمال. 

والنتيجة المترتبة على ذلك أن معركة حماس أصبحت غير ضرورية. فالحكمة الاستراتيجية أن تتجنب النزاعات غير الضرورية وتلك التي لا مخارج واقعية لها. وبالتالي غياب الضرورة عن قتال حماس، والضرورة تعني بالنسبة لها ليس قتال الاحتلال فحسب بل استعادة مركز اهتمامها أي حكم قطاع غزة بصفته الكون السياسي لحماس، الأمر الذي يلقي بآثار سلبية على الروح المعنوية لقياداتها السياسية

فضلًا عن ذلك، فحماس لم تقدر حقيقة وضع العدو فقط، بل أخطأت تقديراتها كذلك تجاه الصديق. فإيران بدأت تدرك بأنها ستفقد ذراعها العسكري حزب الله بوصفه زعيمًا لوحدة الساحات إن هو استمر بوتيرة التصعيد في الحرب مع إسرائيل. اللافت أن استدراكها جاء أسرع من استدراك حماس، فآثرت التضحية بحماس لتحمي حليفها العضوي في لبنان بعد أن ربط نفسه بحرب غزة المختلفة في طبيعتها السياسية إذ تفصل إسرائيل بين جبهة غزة وجبهة لبنان. ففي الأصل النزاع بين حزب الله وإسرائيل ما يزال يحتمل الاعتماد المتبادل أي يوجد مجال للمواءمة المشتركة والمساومة، لأن موضوع النزاع قد حل عندما وافق حزب الله على جوهر قرار 1701، وبالتالي لم يتحول هذا النزاع إلى حرب خالصة أو حرب حتى الموت مثل حرب إسرائيل مع حماس. إن شرط تحول حرب إسرائيل مع حزب إلى حرب حتى الموت عندما يقرر مركز النظام الدولي اسقاط النظام في إيران ما دون هذا الشرط تبقى الحرب المحدودة كإمكانية مستقبل ينطلق منها الطرفان. 

وهذا ما تسعى إليه إيران بالفعل حيث بدأ حزب الله يدرك الاختلاف بين حرب حماس في الجنوب وحربه في الشمال التي لا تمس مركز اهتمامه ولا تنال من أصل قوته مثلما يحدث مع حماس. وحتى لا تصل الحرب إلى هذا المستوى من التصعيد الأقصى سيوافق حزب الله على العودة إلى جنوب الليطاني وتمكين القوات الدولية، وسوف يفك الرابطة مع صيرورة الحرب على غزة بعد أن ورط نفسه بحرب استنزاف غير قادر على احتمال نتائجها حيث بدأت تشكل خطرًا وجوديًا عليه والتخوفات من أن إسرائيل لربما تستخدم ميزة عامل حاسم مؤجل مع حزب الله. والدرس هنا أن إسرائيل استطاعت ردع حزب الله انطلاقًا من غزة. 

في الختام، أن هدنة بين حماس وإسرائيل ممر إجباري لوجود فارق هائل بين الهجوم والدفاع، وأخطاء في التقدير والاعتقاد ومناهج فهم العدو والصديق. والنتيجة أن حماس مجبرة على الانخراط في الحاضر، قانون الميدان وإدراك قيود القوة، بدلًا من أن تحلم بمستقبل تعود فيه إلى حكم غزة من جديد الأمر الذي لن يكون. والدرس هنا هو أن الحرب ليست ولعًا بسيطًا وخالصًا بالانتصار بلاغيًا أو تسلية أو مماحكة مع عدو وجودي ولا هي ضربة مقفي.  

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى