أقلام وأراء

عن تاريخ الحروب المقدسة

عبد الغني سلامة – 12/4/2021

تقول التعاليم الدينية: كن ورعاً، متواضعاً، وديعاً، متسامحاً، متقشفاً، تحكّم في شهواتك، لا تؤذِ أحداً، ولا تعتدِ، ولا تنهب، ولا تظلم.. فيما تقول النزعات الآدمية «البدائية»: أنت سيد المكان، القوي المهاب، من حقك أن تتمتع بملذات الحياة، بكل بذخ، افعل ما يحلو لك، أطلق العنان لغرائزك، أقتل من يفكر بالاعتداء عليك، انهب أمواله، واغنم بيته ونساءه وأطفاله إن استطعت.

وتلك معضلة كبيرة، خلقت صراعاً نفسياً حاداً داخل الشخص الواحد، وتأزماً يبحث عن مخرج، الحل الرائج لها أنها فقست شخصيتين متناقضتين، واحدة في الخفاء تمارس كل ما تستهويه النفس، وأخرى علنية، تنتقي من الدين ما يتلاءم معها.. أما الحل الأمثل فكانت الحرب المقدسة (أي الحروب الدينية).. بضربة واحدة حلت المشكلة، وصار بوسعك أن تكون تقياً ورعاً وجباراً طاغية في الوقت نفسه.. وما على المؤدلجين إلا أن يبرروا ذلك ويزينوه.

ومنذ فجر التاريخ، والآدميون يقتلون بعضهم بعضاً، بالغزوات والحروب، ويفعلون ذلك بضمير مرتاح، فلدى كل غاز حججه وتبريراته.. وكل جنرال يسمي حربه مقدسة.

سبى «نبوخذ نصر» سكان مملكة يهوذا إلى بابل بحجة أنهم متمردون، ويهددون حدود مملكته، وأنه يريد إعادة توطينهم في مناطق جديدة، لإعمارها.. ولما أعادهم «كورش» الفارسي بالترغيب والترهيب، فعل ذلك ليقدم نفسه كمخلّص للشعوب المضطهدة من حكامها الظلمة، وبصفته حامي الحريات الدينية.

وحين اجتاحت جيوش الرومان شمال إفريقيا وشرق المتوسط، بررت ذلك بأنها تريد نقل تلك الشعوب «البربرية» إلى الحضارة.. وعندما شرع «الإسكندر الأكبر» مغامرته التوسعية قال: إن هدفه نقل القيم الإغريقية النبيلة وتعميمها في ربوع العالم القديم.

تحارب البيزنطيون والساسانيون لقرون متواصلة، مرة بحجة استعادة الصليب، ومرة بحجة صون وقار النار المقدسة.

وفي القرون الوسطى، افتتحت أوروبا موجة رهيبة من الحروب الدينية بذريعة الاختلافات على تفسير الإنجيل.. وكانوا قبل ذلك دشنوا حملاتهم الصليبية على الشرق بحجة حماية الحجاج المسيحيين، وتأمين وصولهم إلى بيت الرب.

أما أساطيل البريطاني «جيمس كوك»، فبعد اجتياحها أستراليا وتاسمانيا وغينيا الجديدة بدأت بإبادة السكان الأصليين، وأخذ عينات من جماجمهم بحجة البحث العلمي، لتعزيز استعلائهم الديني بإثبات نظرية التفوق العرقي العنصرية، من وجهة نظر أكاديمية.

وكانت حملات كولومبوس وماجلان وفاسكو دا غاما» بحجة الاستكشافات الجغرافية وتأمين الطرق التجارية، دون المرور بالخلجان التي تحت حكم المسلمين، ومن أجل البحث عن عالم جديد، لكنهم كانوا يؤسسون لحقبة استعمارية فظيعة.

وكما ادعت الكنيسة الهولندية أن البيض المستعمرين هم شعب الله المختار، وأن السود خُلقوا عبيداً لهم، ادعت الصهيونية أن اليهود هم شعب الله المختار، وأن باقي البشر ما هم إلا أغيار. وبناء على ذلك افتتح «جان ريبيك» عهد العنصرية والاستعباد في جنوب إفريقيا، كما مهد «هيرتسل» للحركة الصهيونية احتلال فلسطين، بحجة حماية اليهود من بطش النازية، ومن اللاسامية.. كما دعمت أميركا (الإنجليكانية) الحركة الصهيونية بحجة تسهيل عودة المسيا (المسيح) المخلّص.

أباد الأميركيون البيض الهنود الحمر بشعارات «إعلان الاستقلال».. واحتلت فرنسا الجزائر بجنود محملين بقيم الثورة الفرنسية.. واحتلت بريطانيا الهند واستعبدت شعبها بحجة تهذيب همجيتهم وتعليمهم القيم الحضارية.

خاض هتلر حروبه بشعارات التفوق العرقي، مؤمناً بأن الآريين وحدهم القادرون على إنقاذ العالم، وتخليصه من الشوائب «شبه الآدمية».. كذلك فعل موسوليني، ساعياً لإعادة أمجاد روما.. وتسبب ستالين بمقتل الملايين لنشر القيم الشيوعية.. كما خاض تشرشل حروبه بحجة الدفاع عن قيم الحرية والليبرالية.. وألقى ترومان قنبلتين ذريتين فوق رؤوس المدنيين بحجة إيقاف المد الكولونيالي الياباني.. وهؤلاء لوحدهم تسببوا بمقتل 60 مليون إنسان، وتخريب ثلاثة أرباع الكوكب.

واليوم تعربد أميركا في كل الأرض، تحتل البلدان، وتسقط الحكومات، وتؤجج الحروب الأهلية.. بحجة حقوق الإنسان، ونشر الديمقراطية، حتى لو اضطرت لاستخدام طائرات  إف- 16.

اليوم، في أربع دول عربية يخوض السكان حروباً أهلية، يخربون بلدانهم، ويقتلون بعضهم بعضاً، وكل جماعة تزعم أنها على الحق المبين، وتريد فرضه بالقوة.

ولفترات طويلة جداً من تاريخ البشر، ظلت العبودية، وتجارة الرقيق، والإقطاع، والاستبداد، والتراتب الطبقي، والعنصرية، واستغلال الفقراء، وقمع النساء، واضطهاد الأطفال، والعصاب الذكوري، والغزو، والحروب، والتوسع، وسلب الغنائم والسبايا، والهدم والتخريب، وإراقة الدماء.. ممارسات مقبولة وعادية، لأنها تتغطى بشعارات دينية، وتحتمي بنصوص من الكتب المقدسة، أو تأتي مغلفة بشعارات الوطن، والمجد، والأمة، والزعيم، والشرف، والرجولة.

وتلك الحروب لم يكن هدفها سوى التوسع والهيمنة، وحب التملك، والسيطرة، ونهب الموارد، وتكديس الثروات، والاستحواذ على السلطة.. وما عدا ذلك مجرد هراء أيديولوجي.

تلك الحروب كانت دوماً لصالح الجنرالات، ولتحقيق أمجادهم العسكرية. لصالح الملوك والأباطرة والنبلاء، ولتلبية رغباتهم المحمومة في الثراء.. لصالح كل مجموعة تريد الاستفراد بالسلطة لحماية مصالحها.. وكان وقودها الفقراء والمساكين والمغلوبون على أمرهم، والمضحوك عليهم، والمغسولة أدمغتهم.. كان جل ضحاياها من الأبرياء، ومن النساء والأطفال.. كانت لا تأتي إلا بالدمار والويلات وخراب البيوت.. كانت أكفأ وسيلة لنشر الكراهية، وتوليد الأحقاد والثارات، وجلب التخلف والفقر والأمراض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى