أقلام وأراء

عن بينيت ونزعة الانتقاء وعن الصهيونية و”تحسين النوع”..

 أنطوان شلحت *- 18/10/2021

كانت جملة واحدة قالها رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت في أثناء انعقاد مؤتمر حول الهجرة اليهودية إلى إسرائيل عُقد مؤخراً، كافية لإشعال جدل بشأن مبلغ تغلغل العنصرية في منبت رؤوس الإسرائيليين لدرجة تحولها إلى عنصرية بنيوية، أو إلى جزء غير منفصل من الشخصية الإسرائيلية برسم الأيديولوجيا الصهيونية التي تستبطنها.

فقد ذكر بينيت أنه سيسعى كرئيس للحكومة خلال العقد المقبل إلى تحقيق هجرة نصف مليون يهودي من دول قوية مثل الولايات المتحدة وفرنسا ودول أميركا الجنوبية، وبرّر ذلك بمسوّغ أن لا يشكل المهاجرون الجدد عِبئاً على الدولة. وكانت وزيرة الهجرة والاستيعاب الإسرائيلية بنينا تَمنُو- شاتا، من حزب “أزرق أبيض”، وهي من أصل أثيوبي، أول المعقبين على أقوال بينيت هذه، حيث قالت إن رئيس الحكومة مايز بين “هجرات نوعية” و”هجرات تنطوي على أعباء”، ما يعني بنظرها أن دولة إسرائيل تخطئ الهدف الذي أقيمت من أجله وهو أن “تكون بيتاً لكل اليهود في العالم”، على حدّ تعبيرها.

في تصريحات بينيت السالفة ما يؤكد، بادئ ذي بدء، أن إسرائيل هي دولة هجرة. وهذا ما كانت عليه إبان إنشائها على أنقاض الوطن الفلسطيني وأصحابه، وهذا ما ستستمر عليه. ولا معنى لقراءة هذا التشخيص، الآن وهنا، من دون الالتفات إلى مسألتين: أولاً، الزيادة “غير الكبيرة” في نسبة السكان اليهود في إسرائيل، وتعزو مصادر رسمية ذلك، من بين أمور أخرى، إلى هبوط عدد المهاجرين اليهود إلى اسرائيل وإلى ازدياد الهجرة منها. وثانياً، وضعية الهوس الديموغرافي التي تمسك بتلابيب المجتمع الإسرائيلي والتي ارتفعت أو تكاد ترتفع إلى مستوى الأدلجة. وباتت اللازمة، التي تتكرر كلما يدور الحديث حول الهجرة اليهودية وارتباطها المباشر بـ”الأمن القومي”، تتمثل في أنه لولا الهجرة “لما كانت أغلبية يهودية في دولة إسرائيل”.

وعلى سبيل المثال جاء في إحدى الوثائق الإسرائيلية المرتبطة بـ”مداميك الأمن القومي الإسرائيلي” أنه في العام 1948 كان عدد اليهود في إسرائيل نحو 600 ألف نسمة. ومن دون الهجرة اليهودية ما كان عدد اليهود في إسرائيل يبلغ ما هو عليه الآن، وهناك شك كبير فيما إذا كانت الدولة ستبقى موجودة أصلاً. ولولا موجة الهجرة اليهودية الكبيرة من دول “رابطة الشعوب”- الاتحاد السوفييتي السابق- لكانت الأغلبية اليهودية في إسرائيل متآكلة من ناحية جوهرية. ولا يخفي المسؤولون الإسرائيليون أن تطلعهم كان بأن يشكل اليهود في إسرائيل، في العام 2010، نحو نصف عدد اليهود في العالم. وبعد ذلك تبدأ “حملة كبرى” من أجل أن تقطن أغلبية اليهود في العالم في إسرائيل، وهو هدف لا يمكن تحقيقه من دون هجرة جماعية من جانب يهود الولايات المتحدة.

فضلاً عن ذلك فإن تصريحات رئيس الحكومة تعيد إلى الأذهان حقيقة أن العنصرية كانت ملازمة للصهيونية منذ تأسيسها، ومنذ بدء هجسها بشخصية اليهودي الذي سيكون في عداد المهاجرين إلى فلسطين ليمسي جزءاً من سكان الدولة اليهودية التي ستسعى لإقامتها على أنقاض وطن الفلسطينيين، فهذه الدولة وإن كان هدفها أن تكون “بيتاً لكل اليهود في أرجاء العالم” لديها اشتراطات بأن يمرّ هؤلاء اليهود في عملية “تطوّر” ولو قسرية كي يناسبوا “ظروف البيت الجديد”. .

وللتذكير بهذا الشأن، عمّم أحد المواقع الإلكترونية الإسرائيلية قبل عدة أعوام اقتباسات على لسان الدكتور يوسف مائير بشأن الحق في إنجاب أولاد؟، ورد فيها ما ترجمته الحرفية التالية: “من الذي يحقّ له إنجاب الأولاد؟ الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال موجودة في اليوجينيا (eugenics)، وهي علم تحسين النسل/ النوع والحفاظ عليه من الانحطاط والتردّي. هذا العلم لا يزال حديث العهد، لكن نتائجه الإيجابية أضحت كبيرة ومهمة (…) حالات زواج ذوي الأمراض والعاهات الوراثية منتشرة بين جميع الأمم والشعوب وخاصة بين الشعب العبري الذي عاش في المنفى (…) أفليس من واجبنا الحرص على إنجاب أبناء معافين أصحّاء جسدياً وعقلياً؟ بالنسبة إلينا، لليوجينيا بشكل عام، وللاحتراس من نقل الأمراض الوراثية بشكل خاص، قيمة أكبر من باقي الشعوب! يتعيّن على الأطباء والرياضيين والساسة القوميين القيام بدعاية واسعة لهذه الفكرة: لا تنجبوا أولاداً إذا كنتم غير واثقين من أنهم سيكونون أصحاء جسدياً وعقلياً!”

ومائير هذا هو طبيب صهيوني درس في فيينا وشغل لأكثر من 30 عاماً منصب رئيس مؤسسة “صندوق المرضى العام” في دولة الاحتلال، كما شغل منصب المدير العام لوزارة الصحة الإسرائيلية بين العامين 1949- 1950، وسُمي “مستشفى مائير” في كفار سابا باسمه. ونُشر النصّ أعلاه العام 1934 في الصفحة الأولى من “نشرة الأم والطفل”، التي تولى تحريرها. وفي النص الكامل للمقال ذاته، الذي نُشر في زاوية الصحة في جريدة “دافار”، الناطقة بلسان الهستدروت (اتحاد نقابات العمال)، اقترح مائير إخصاء المختلين عقلياً والمرضى النفسانيين.

وأظهر بحث أجري في جامعة بئر السبع قبل أكثر من 10 أعوام، أن فكرة “تحسين النوع” حظيت لدى مؤسسات الحركة الصهيونية في تلك الفترة بتأييد وترحيب تقرّر التكتم عليهما في الأعوام اللاحقة. كما أظهر أنه عملت في “الييشوف” اليهودي في فلسطين إبان ثلاثينيات القرن العشرين الفائت “مراكز استشارية” أقيمت لغرض تقديم الاستشارة للأزواج المقبلين على عقد قرانهم وللآباء، وذلك اقتداء بنموذج مشابه منها عمل في النمسا واستخدم عقب صعود النازية إلى سدّة الحكم في ذلك البلد للمعالجة القسرية. وأكدت معدّة البحث أنه جرى التكتم طوال أعوام على موضوع تأييد د. مائير وآخرين من كبار المسؤولين في الجهاز الصحي الصهيوني لهذه الأفكار، مشيرة إلى أنه ما من أحد يتحدث اليوم عن هذا الفصل في تاريخ “الييشوف”.

وفي منتصف الخمسينيات جمعت مقالات د. مائير في كتاب صدر بعد وفاته، غير أن مقاله المُشار إليه لم يُنشر ضمنه، وعُثر في تسجيلات معدي الكتاب على ملاحظة وُصف فيها المقال المذكور بأنه “إشكالي وخطر”، وكتب أحد محرري الكتاب “الآن بعد شيوع أمر اليوجينيا النازية، من الخطورة بمكان نشر مثل هذا المقال”!

وتضيف مُعدة البحث أنه في أواخر الثلاثينيات، عندما تكشفت الفظائع التي يمكن لليوجينيا بصورتها المتطرفة التسبب بها، تم الإقلاع عن استخدام هذا المصطلح الذي نسب إلى النازيين. غير أن مائير ظل طوال أعوام نشاطه مؤمناً بأفكار اليوجينيا. ففي مطلع الخمسينيات نشر مقالاً انتقد فيه بشدة “جائزة الولادة” التي تعهد ديفيد بن غوريون بتقديمها إلى كل امرأة يهودية تنجب عشرة أولاد. وكتب مائير: “لسنا معنيين بالولد العاشر ولا حتى السابع في العائلات الفقيرة المتحدرة من أصول شرقية (…) ينبغي ألا نوجه الفئات الفقيرة نحو التناسل أو الإكثار من إنجاب الأولاد، بل على العكس يجب تحديد النسل لديها”. ولم يكن مائير أول زعيم صهيوني أو الزعيم الصهيوني الوحيد الذي يؤيد فكرة اليوجينيا. فوفقاً لبحوث أجراها البروفسور رافائيل بالك، وهو عالم ومؤرخ في علم الوراثة والطب من الجامعة العبرية- القدس، طرح مفكرون صهيونيون مركزيون فكرة اليوجينيا باعتبارها هدفاً من أهداف مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين. ومن بينهم ماكس نوردو، شريك هرتسل، وآرثور روبين، الذي ترأس فرع المنظمة الصهيونية العالمية في فلسطين. وطبقاً للمفردات التي استخدمها نوردو، يجب أن تحلّ “اليهودية قوية العضلات” مكان “يهودي المقهى” المنفوي، الشاحب والنحيف!

ينبغي التنويه أننا نستخدم كلمة عنصرية هنا كي نصف في ذات الوقت سياسة إقصاء آخذة بالتصاعد في الآونة الأخيرة، وتسم العلاقات حتى بين فئات السكان اليهود في إسرائيل وتعكس، بكيفية ما، أطرافاً مُحدّدة في ما يمكن اعتبارها بمثابة صيغة جديدة للتصدّع الطائفي جعلت من فئة اليهود المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق ومن ثمّ فئة المهاجرين اليهود من أثيوبيا تشكلان أبرز أطراف هذا التصدّع، في حين وقف في صلب الصيغة القديمة التصدّع الطائفي بين اليهود الغربيين الأشكناز واليهود الشرقيين السفاراديم.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى