أقلام وأراء

عمر حلمي الغول يكتب – حقوق وواجبات المعارضة

عمر حلمي الغول – 28/6/2021

المعارضة الفكرية والسياسية ومكوناتها الحزبية ليست بدعة، ولا ترفا زائدا في المجتمع، إنما هي حاجة ضرورية ترتبط ارتباطا عضويا بطبيعة وتركيبة البشرية ككل، وتتجلى في مجتمعاتها القومية وبلدانها المختلفة؛ لأن المجتمع البشري تعددي بطبيعته وتكوينه ومركباته من حيث الجنس والدين والعرق واللغة والثقافة والموروث الحضاري والاجتماعي الطبقي، وانعكاسات ذلك على سمات وخصائص المجتمعات المختلفة بشكل عام، والطبقات والشرائح الاجتماعية وخلفياتها ومكوناتها الدينية والعرقية بشكل خاص.

هذا التنوع الإثني والمعرفي بالضرورة ينتج رؤى واجتهادات مختلفة داخل المجتمع الواحد، ويتجلى ذلك في تشكيل قوى وحركات وأحزاب وتيارات فكرية وسياسية واجتماعية قومية ودينية ويسارية ويمينية وعلمانية وغير علمانية، وحتى لو لم تعلن بعض الجماعات عن نفسها بشكل رسمي في إطار محدد، بيد أنها ترتبط برابطة ما فيما بينها تعكس مصالحها المشتركة.

دون إطالة في الإطار النظري العام، وبالانتقال للملموس في الواقع الإنساني المعاش، نجد ثابتا من البديهيات في المجتمعات والدول الديمقراطية في أعقاب العملية الانتخابية البرلمانية وتحديد الحزب أو الحركة أو الائتلاف الفائز، يجري في الوقت المحدد تسليمه السلطة بشكل سلس وديمقراطي، وهكذا دواليك. وهذا التداول لا يلغي الصراع وطرح الأفكار والرؤى البرنامجية بين القوى المتنافسة على إدارة الحكم. وعليه لا توجد دولة تتبنى وتلتزم الديمقراطية دون وجود قوى متصارعة وبشكل ديمقراطي، ووفق الأنظمة والقوانين المعمول بها في البلد المعين. والدول الديمقراطية تتعزز مكانتها بقوة معارضتها، ولا تخشى تلك القوى من معارضتها، لا بل تتعلم منها، وتنافسها في برامجها. لا سيما وأن وجود معارضة يعتبر بمثابة شكل من أشكال الرقابة على آليات تنفيذ القوى الحاكمة لسياساتها، وتضعها تحت المجهر، ما يدفع الحزب الحاكم لتحسين أدائه، وتطويره واختزال الأخطاء حتى الحد الأدنى ليتمكن من الفوز بولاية جديدة.

وإذا عدنا للخلف قليلا قبل ثلاثة عقود، وتوقفنا أمام تجربة الأنظمة السياسية، التي تشكلت على أنقاض وزوال دول المنظومة الاشتراكية، بعد انطلاق قطار الحريات العامة، لاحظنا كل التيارات التي خرجت من رحم الأحزاب الشيوعية الحاكمة ومن قوى المعارضة التاريخية، شكلت أحزابا وقوى متباينة ومتناقضة، وتبنت كل قوة أو حزب فكرا وسياسات متباينة ومتناقضة، وهكذا تشكلت موالاة ومعارضة، ولم تحاول أي منها نفي القوى الأخرى. نجمت عن ذلك خارطة حزبية وائتلافية متماوجة، وبدأت تخوض العملية الديمقراطية من خلال برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفق ما توافقت عليه المكونات الحزبية والائتلافية الجديدة، ورغم كل الملاحظات، التي يمكن تسجيلها على تجربة أوروبا الشرقية، بيد أنها كرست نفسها كدول ديمقراطية.

باختصار لا يمكن الحديث عن نظام سياسي ديمقراطي دون التأكيد على حرية التعبير والرأي والتنظيم .. إلخ، والقبول المبدئي الواضح والحاسم بالتداول السلمي للسلطة، كما فعلت حركة فتح عام 2006، عندما فازت حركة حماس آنذاك، قام الرئيس أبو مازن نفسه بتسليم قيادتها مقاليد الحكم، ووافق على تشكيلها حكومتها العاشرة المعروفة. وتعامل بمسؤولية عالية وشفافية مع نتائج الانتخابات التشريعية. مع أنهم مارسوا أبشع أشكال التحريض والتخوين والتكفير ضد السلطة وقياداتها وأجهزتها الأمنية، ولاحقا انقلبوا على حكومتهم، التي كان يقودها عام 2007 إسماعيل هنية وعلى الشرعية الوطنية كلها أواسط عام 2007، لأنهم رفضوا ويرفضون مبدأ الشراكة السياسية.

الدرس المذكور أعلاه، يشير إلى أن التجربة الديمقراطية تتسع للرأي والرأي الآخر، ولا يمكن لأي حاكم الادعاء بأنه يقود نظاما ديمقراطيا دون القبول بالمعارضة، والتعايش معها، والاستماع لرأيها، والسماح لها وفق المعايير والأنظمة والقوانين بالتظاهر والطعن في سياسات النظام، ورفع المذكرات وتنظيم الاحتجاجات والاعتصامات، ومخاطبة الرأي العام في البلد المحدد بكل ما يجول في رؤية وسياسات قياداتها. وهذه ليست منِة أو كرم أخلاق من أهل النظام الحاكم، إنما هي من مرتكزات وثوابت النظام الديمقراطي، وفي ذات الوقت، هو حق المعارضة في التعبير عن مواقفها وآرائها كما تريد وترى من وجهة نظرها هي، لا من وجهة نظر الموالاة. لا سيما وأن النظام الأساسي يسمح لها بالتعبير الصريح عن مواقفها وبحرية تامة.

كما أن تجربة غابة البنادق في زمن الظاهرة العلنية للثورة الفلسطينية كانت تعج بالأفكار والمواقف المتناقضة والمتباينة، والصراع على أشده بين اليسار واليمين والوسط، وانشقت فصائل وقوى عن بعضها البعض، كما تشكلت ائتلافات خارج منظمة التحرير، كما هو حال جبهة الرفض، التي تأسست في أعقاب الدورة الـ12 المجلس الوطني بعد تبني برنامج النقاط العشر عام 1974، وتعايشت الفصائل وقوى الثورة ميدانيا، ثم أعيد الاعتبار للوحدة، لكن دون أن تلغي مبدأ “وحدة صراع وحدة” الناظم للعلاقات البينية بين فصائل المنظمة.

غير أن المعارضة في كل التجارب القديمة والحديثة بما في ذلك التجربة الفلسطينية المتواضعة وتجارب الدول الديمقراطية، كانت تلتزم بالضوابط والقوانين الناظمة للعملية الديمقراطية، بتعبير آخر، لم تتعامل المعارضة مع العملية الديمقراطية من زاوية أحادية الجانب، بل كما حصلت على حقوقها، التزمت بواجباتها تجاه النظام السياسي، ولم تسمح لنفسها بتجاوز محدداتها ونواميسها، لأن ذلك سينعكس سلبا على تركيبة النظام السياسي بشكل كامل، ويهدد مستقبل الديمقراطية. وعليه المعارضة لم تتخلَ عن مسؤولياتها تجاه سلامة وديمومة وتطور النظام السياسي؛ لأنها شريك أساسي فيه، وتتحمل مسؤولية تجاهه، ولم تسمح لذاتها بالتفريط به. كما أن الديمقراطية ليست ساحة دون بواب، ومعايير وقوانين، العكس صحيح، القوانين هي الناظم الأساسي لتجليات الديمقراطية. أما منطق الغوغاء والديماغوجيا والسعي لعمليات التخوين والتكفير والتخريب والتدمير للنظام السياسي، فهذه ليست ديمقراطية، هذه عمليات فوضى وفلتان أمني واجتماعي، وتدمير للديمقراطية، ولا يجوز السماح لهكذا أنشطة بالوجود في الواقع الاجتماعي، لأنها خطر داهم على المجتمع أسوة بالانقلاب الأسود أواسط عام 2007، وهي خطر يضاهي خطر الاستعمار الصهيوني. تقول المقولة: الحرية مشروعة وضرورية، ولكن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، احترم الآخر شريكا في المجتمع، حتى يحترمك، وصن عملية التعايش المشترك، والسلم الأهلي، لأنه تعايشك وسلمك. احموا وحدة الشعب، لنحمي مشروعنا الوطني، وكفوا عن استغلال حادثة موت نزار بنات، كفى تجارة بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى