أقلام وأراء

عمر الغول يكتب – أمريكا تلاوين مختلفة

عمر حلمي الغول

الولايات المتحدة بمثابة قارة تجمع بين أطراف حدودها 50 ولاية تضم ما يزيد عن 331 مليون نسمة، فيها طبقات وشرائح وفئات إجتماعية، وتضم إثنيات وديانات وطوائف ومذاهب وعقائد ورؤى ونظريات فكرية ومعرفية وثقافية بحجم ما في العالم. وهذة الأميركا الشمالية ليست لونا سياسيا، أو فكريا، أو دينيا واحدا.

ويمكن الإفتراض انها من أغنى الدول في التنوع الثقافي والمعرفي، لكنها افقر الدول في التنوع الحزبي، لإن قادة الحزبين الرئيسيان مع اجهزة الأمن في عهد المكارثية كمموا الأفواه، وفتكوا بحرية التنظيم. ومع ذلك الجميع يخضع لقوانين الولايات، التي ينتمون لها، وللقوانين الفيدرالية الناظمة لحياتهم، ولعلاقاتهم بالمؤسسة الحاكمة.

الهدف من المقدمة السريعة، هو التأكيد على ان الحزبين الرئيسيين ( الجمهوري والديمقراطي) في الولايات المتحدة، ليسا الوحيدين في الملعب والساحة الأميركية (وجود رمزي لقوى سياسية لا تملك ثقلا وحضورا كبيرين في المشهد الأميركي)، وإن كان دورهما أساسيا في الحياة والسياسة والإقتصاد والثقافة الأميركية، ويملكان الإمكانيات الهائلة لصناعة الرأي العام في الشارع، ويقرران في صناعة القرار السياسي الأميركي، وهما لا يختلفان ايديولوجيا، رغم التفاوت النسبي بينهما في المعايير الأجتماعية، وإن وجد إختلاف ما، فهو إختلاف شكلي، وليس إختلافا إستراتيجيا تجاه المسائل الداخلية والخارجية. رغم ان نسبة تصل إلى 35% من جمهور الحزبين يرفضا تزاوج ابناءهما من الحزب الآخر، وهذا يعود للتعصب الأعمى والساذج. وهذا التأكيد لا ينفي ما أكدته آنفا حول التنوع الواسع والكبير في مكونات النسيج الإجتماعي والثقافي.

وإذا تركت اللوحة الأميركية الشاملة جانبا، وحصرت النقاش بالإدارة الأميركية الحالية (الجمهورية) وسياساتها تجاه المسألة الفلسطينية، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وصفقة قرنها، وإفرازاتها المعادية للحقوق والمصالح الوطنية الفلسطينية، وتخندقها المباشر مع دولة الإستعمار الإسرائيلية في حربها على الشعب الفلسطيني، والتي كان آخرها تصريح وزير خارجيتها، بومبيو حول تشريع الإستيطان الإستعماري على اراضي دولة فلسطين المحتلة في الخامس من حزيران/ يونيو 1967، فإننا لاحظنا مباشرة رأي آخر داخل المؤسسة التشريعية الأميركية، حيث وقع ما يزيد على 135 نائبا ضد الموقف الجديد للإدارة من الإستيطان الإستعماري، وخيار حل الدولتين على حدود 1967، من اصل 435 نائبا، اي تقريبا ثلث أعضاء المجلس ضد الموقف. والعدد بالضرورة في تزايد.

وكان مجلس النواب الأميركي قبل فترة وجيزة أصدر تأكيدا على اهمية التمسك بالسلام وخيار حل الدولتين. كما انه سيعيد التأكيد خلال الأيام القادمة بعد الإجازة الحالية ومدتها 11 يوما، على ذات الموقف كرد على الفوضى السياسية، التي إنتهجتها إدارة دونالد ترامب. وهذا التوجه لا يندرج في نطاق ردة فعل آنية، ولا تدخل في دائرة المماحكة بين الحزبين، بقدر ما يعني تمسك النواب الأميركيون بالسياسة التي إنتهجتها الإدارات الأميركية خلال العقود الأربعة الماضية، وايضا إستجابة لمصالح الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وتناغما مع إتجاهات الرأي العام الأميركي والإسرائيلي المؤيدة لخيار السلام وحل الدولتين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، ولضمان أمن إسرائيل نفسها، ولرفضها سياسة اليمين الصهيوني المتطرف، الذي يدفع الدولة العبرية نحو حافة الهاوية.

وللعلم ال 135 نائبا بعضهم من الحزب الجمهوري، وليسوا جميعا من الحزب الديمقراطي. وهو ما يشير إلى ان موقف الإدارة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس محل إجماع المؤسسات التشريعية والتنفيذية وخاصة الأمنية، ويتعارض مع اللوبيات بما في ذلك العديد من اقطاب الإيباك اليهودي الأميركي، والجي ستريت، ومرشحي الرئاسة من الحزب الديمقراطي للعام 2020، ومراكز الأبحاث والدراسات المؤثرة في صناعة القرار.

كما ان الرأي العام الأميركي عموما، والأجيال الجديدة منه تتجه للإبتعاد تدريجيا عن المواقف التقليدية الكلاسيكية التاريخية له (الرأي العام)، حيث يلاحظ وجود إنزياح واضح لصالح دعم القضية الفلسطينية خصوصا والسلام عموما، وتستجيب قطاعات سياسية وإقتصادية وثقافية وأكاديمية ودينية لصالح حركة المقاطعة  BDS ضد المستعمرات خصوصا، وسياسة الإستعمار الإسرائيلي عموما. وحملت إستطلاعات الرأي في الولايات المتحدة في السنة الأخيرة تطورا نسبيا لصالح دعم السلام، ومنح الشعب العربي الفلسطيني حقوقه السياسية، ليس هذا فحسب، بل ومطالبة الإدارة بفرض عقوبات على إسرائيل، وزيادة المساعدات للشعب الفلسطيني. ورغم ان تلك الأصوات والأتجاهات في الشارع الأميركي ما دون ال50% من المستطلعين، غير انها تحمل مؤشرا إيجابيا في مواجهة تغول إدارة الرئيس الأفنجليكاني الشعبوي، المسكون بالأساطير والخزعبلات الدينية والحروب.

دون المبالغة في  حجم ومستوى التحولات الجارية في المستويين والبنائين الفوقي والتحتي الأميركي. لكن ما يحصل ذات دلالة هامة، علينا جميعا ان نعمل للإستفادة منها، ونراكم عليها، ونستفيد من وجودها، ونعمل مع كل انصار السلام واللوبيات الداعمة له وخاصة من اللوبيات اليهودية الأميركية لتكريس خيار السياسات الواقعية، ومنح السلام فرصة أكبر وأعمق في الشارع الأميركي، وفي ذات الوقت، محاصرة سياسات إدارة ترامب العدمية والأقصوية، التي لا تؤمن بالسلام والتعايش بين الشعوب، ولا تعمل لمصلحة إسرائيل الإستعمارية، بقدر ما تدفع بها نحو الهاوية، رغم إدعاءاتها الكاذبة.

إذا تصريحات بومبيو، وزير خارجية اميركا على خطورتها، فإنها ليست قدرا، ولا تمنح الشرعية لحكومة الفاسد نتنياهو في مصادرة وتهويد الأرض الفلسطينية، وإقامة المستوطنات الإستعمارية عليها. وتتناقض مع قرارات ومواثيق الشرعية الدولية، ومع مرتكزات السياسة الأميركية ذاتها السابقة على إدارة ترامب، والمتناقضة مع قطاعات واسعة الآن داخل مجلس النواب ومع الرأي العام الأميركي وهو ما يعني إفتقادها للأهلية السياسية بكل المعايير السياسية والقانونية والأخلاقية والدينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى