أقلام وأراء

عماد شقور يكتب – بين الفوري والمستقبلي (الحاسم) في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

عماد شقور  *- 7/1/2021

يشعر الفلسطينيون بشيء من الارتياح هذه الايام، وهم يتابعون فصول انتهاء كابوس سيطر على لياليهم ونهاراتهم لأكثر من ثلاث سنوات من إشغال الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب للبيت الأبيض الأمريكي، ولم يعش الفلسطينيون وحدهم هذا الكابوس، بل شاركهم فيه مئات الملايين من البشر في قارات العالم كلها، بمن في ذلك عشرات الملايين من الأمريكيين أنفسهم، جراء تصرفات ترامب برعونة وارتجالية وجهل بحقائق واضحة، وتجاهل لحقائق ثابتة.

بدأ كابوس الفلسطينيين عندما أقدم ترامب، بعد اقل من سنة على انتخابه، على اعلان اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل؛ وراح ذلك الكابوس يزداد حدّة مع تتالي خطوات إدارته في «مسيرة صفقة القرن»؛ وأوصل ذلك إلى حد تشجيع إسرائيل على ضم أجزاء من الأغوار في الضفة الفلسطينية الى خريطتها؛ واستغل كل الوزن والقدرات الأمريكية، في عملية اشبه ما تكون بوضع العربة امام الحصان، بإجباره للعديد من أنظمة الحكم العربية على «تطبيع علاقاتها بإسرائيل».

على أن هذا الكابوس الحاد بدأ بالانقشاع مع نهاية الأسبوع الاول من ديسمبر/كانون اول الماضي، عندما بدأت تتضح نتائج الانتخابات الأمريكية، التي بشّرت بفشله في تجديد اقامته في البيت الأبيض لولاية رئاسية جديدة. لكن استمراره حتى يومنا هذا في انكار الاعتراف بهزيمته، يجعل من المجازفة القول ان كابوس الفلسطينيين، وكوابيس العالم، من سياسة ترامب، قد انتهت الى غير رجعة.

لذلك فإنه ليس أمامنا (وأمام غيرنا) إلا الإنتظار، حتى ينتصف نهار يوم الاربعاء، بعد أسبوعين، في العشرين من الشهر الحالي، ونشاهد بالبث المباشر، خروج (وربما إخراج) ترامب من البيت الابيض، ودخول الرئيس الأمريكي المنتخب، جو بايدن، عتبة المكتب البيضاوي، الذي تتخذ فيه الغالبية العظمى من القرارات الأمريكية التي تنعكس ايجابا او سلبا على العديد من الساحات في العالم، وعندها فقط يصبح من الممكن للفلسطينيين أن يعتبروا «كابوس ترامب» وراء ظهرهم.

إذا سارت الامور على نحو ما هو متوقع، وفشل ترامب في افتعال ما قد يقلب الصورة، (مع انعكاسات ذلك على الوضع الأمريكي الداخلي)، فانه يكون قد حان الوقت لأمرين:

1ـ قول كلمة حق يجب أن تقال: نجح الفلسطينيون: رئيسا وسلطة وفصائل وجماهير فلسطينية، في مواجهة وصد أكبر قوة في العالم، والاستمرار في التمسك بكامل حقوقهم الشرعية والمشروعة. وهذا ما يجدر بهم الاحتفال والاعتزاز به، وتنمية الأمل بأن الإدارة الأمريكية الجديدة، تستوعب أن كل قدرات وقوى أمريكا، داعمة لإسرائيل، ومدعومة ببطش وعنف حكومة إسرائيل، الأكثر يمينية وعنصرية من كل سابقاتها من الحكومات، عجزت عن تركيع الفلسطينيين، وإرغامهم على التنازل، ولو شعرة واحدة، عن تلك الحقوق.

2ـ (وهذا هو الأهم): إعادة طرح السؤال الأزلي: ما العمل؟، وإعمال العقل للإجابة عليه، بدون تهور، من جهة، وبدون تهيّب، من جهة ثانية، وبجرأة على مواجهة الحقائق كما هي، من جهة ثالثة، وبيقين كامل بالنصر، من جهة رابعة.

كيف يكون ذلك؟.

“نجح الفلسطينيون: رئيسا وسلطة وفصائل وجماهير فلسطينية، في مواجهة وصد أكبر قوة في العالم، والاستمرار في التمسك بكامل حقوقهم الشرعية والمشروعة “.

بداية، يجدر بنا الاعتراف أن ذلك ليس أمرا سهلا، وأنه يستدعي تركيزا مطلقا على أمرين اثنين، يكمّلان بعضهما، رغم أن نظرة أولى لهما تجعلهما يبدوان وكأنهما أمران متناقضان:

ـ أولهما التعاطي بكامل الجدية مع ما هو آني وفوري من امور ومصالح الناس.

ـ وثانيهما التعاطي بكامل الجدية مع ما هو مستقبلي وحاسم من حيث النتيجة.

مسألة تامين الرواتب الشهرية للموظفين والعاملين في شتى الحقول، مثلاً، هي اولوية فورية يجب التعامل معها بجدية كاملة، وإلا تعطلت حياة الناس والمجتمع خلال ايام، وصار كل عمل في أي مجال آخر مجرد بذل جهد غير مثمر.

لكن ذلك ليس بديلا، على الاطلاق، عن ضرورة التعامل مع بناء اقتصاد مثمر ومنتج (زراعي وصناعي وعلمي) يضمن مستقبلا للناس، ويجعل موضوعاً مثل تأمين الرواتب وغيرها، أمرا ميسورا وغير ذي بال.

يُظهر هذا الاختبار الفرق الشاسع بين القيادة الحكيمة، التي تعطي لكل واحدة من الضرورتين الاهتمام الكامل الجديرة به، وبين القيادة المرتبكة وغير الحكيمة، التي تكتفي بمعالجة ما هو فوري على حساب ما هو ضروري لتأمين المستقبل، او عكس ذلك. (كما فعل، ، الرئيس الروماني الاسبق، تشاوشيسكو، على سبيل المثال، الذي ترك الشعب الروماني، يوم مقتله، في شبه عوز، في حين ترك الدولة الرومانية حرة غير مديونة لاحد).

قبل الولوج في عرض مثال ثانٍ، أرى من المفيد التوقف، ولو قليلا، عند حقيقتين:

أولاهما، إن إسرائيل هي اسبارطة العصر الحالي الذي نعيشه، (بالنسبة لشعبنا الفلسطيني، وربما لأمتنا العربية ايضا، على الاقل).

وثانيتهما، هي أن إسرائيل أقرب منا، بدرجات، لأن تكون أثينا عصرنا الحالي.

كانت الغلبة في النهاية، وفي ذلك العصر الغابر، من نصيب أثينا، التي اعتمدت العلم والثقافة والديمقراطية، قاعدة صلبة لقوتها وقدراتها ومناعتها. في حين اعتمدت اسبارطة القوة العسكرية قاعدة وحيدة لها، فاندثرت اسبارطة، وتخلّدت أثينا على مدى الدهور.

أين نحن من كل هذا؟

أن ننافس إسرائيل على «دور اسبارطة»، هو أمر غير ممكن وغير مجدٍ ايضا. أما أن تنافس فلسطين، (وحتى بدون «الأمتين» العربية والإسلامية)، إسرائيل، وتصبح نوعا من «أثينا العصر الحديث»، فذلك ممكن وقابل للتحقق خلال اقل من عقدين من الزمن فقط، (هما سنوات التحصيل العلمي)، إذا وضعنا برنامجا علميا يبدأ من الصفر، بتركيز مطلق على الصف الابتدائي الأول، ويواكبه متدرجاً حتى انهاء مرحلة التعليم الابتدائية، ويلحقها بمرحلة التعليم الثانوية، وصولا الى الدراسات الجامعية، وانتهاء بالدراسات الجامعية المتخصصة، وفتح باب الابحاث والابتكارات والاختراعات.

تُعلّمنا تجارب الشعوب والأمم، ونحن منها، أن ضمان مستقبل زاهر للفرد او العائلة او الشعب او حتى البشرية جمعاء، مشروط باتقان التعامل مع كل واقع وحدث وتطور، بتركيز مطلق على ما هو آني وفوري يتوجب التعامل معه دون ابطاء، ولكن دون تردد ايضا في التركيز المطلق على بناء مستقبل زاهر. لقد ركزت شعوب صغيرة، كانت تعاني من مثل ما نعانيه نحن في ايامنا هذه، ووصلت الى ما تريد. ولا يضيرنا ابدا أن نتعلم وأن ناخذ العبر من تجارب سنغافورة وكوريا، بل وماليزيا وغيرها.

تقول الحكمة المعروفة: «زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون».

لم يزرع آباؤنا وأجدادنا منذ قرون عديدة، وها نحن نجوع للقوة وللمعرفة وللعلم وللثقافة. آن الأوان لنزرع من اجل أبنائنا وأحفادنا واجيالنا المقبلة.

أين أنت يا وزير التعليم الفلسطيني؟.

* كاتب فلسطيني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى