#شؤون اقليمية

تاريخ إيران بجماعة الإخوان

عماد الدين الجبوري 30/7/2020

تشابه بنيوي وتقارب مبدئي بين الطرفين لم يأتيا كنتيجة ظرفية مرحلية، أو علاقة مصلحية عابرة، وإنّما هو انعكاس فكري في الآراء والتصوّرات .

التنظيرات العقائدية البراقة يختفي لمعانها ويتلاشى عند تطبيقها عملياً على أرض الواقع

إن جذر الصلة بين إيران وجماعة الإخوان المسلمين في مصر يعود منشأه إلى عام 1938، عندما زار الخميني (1900-1989) المقرّ العام للجماعة في “منطقة الدرب الأحمر” في القاهرة، وفق ما ذكره القيادي الإخواني المنشقّ ثروت الخرباوي (1957)، في كتابه الموسوم “أئمة الشر: الإخوان والشيعة أمة تلعب في الخفاء”، 2013.

يقول الخرباوي “في تاريخ الإخوان القديم، ورقة ظلّت مخفيّة لا يعرف أحد عنها شيئاً، أذهلتني حين عرفتُها، كانت مخبّأة في أحد دهاليز الجماعة، من دون أن يلتفت إليها أحد، أو يشعر بقيمتها التاريخية. كانت هذه الورقة تحتوي على خبر زيارة لمقرّ الإخوان في مصر، قام بها سيد روح الله مصطفى الموسوي الخميني عام 1938، وتشير هذه الورقة إلى أن ثمة لقاء خاصاً تمّ بين المرشد الأول للجماعة الأستاذ حسن البنا والسيد روح الله مصطفى الخميني، الذي أصبح في ما بعد الإمام آية الله الخميني، مفجّر الثورة الإيرانية، ولكن مِمّا يؤسَف له، أنّ أحداً من الذين عاصروا هذه الواقعة لم يدوِّن أحداثها ووقائعها، على الرغم من أنّ زيارات أخرى قامت بها شخصيات شيعية شهيرة لمقرّ الإخوان في منطقة الدرب الأحمر، وصلت إلينا أخبارها وبعض تفاصيلها”.

ومن خلال النصّ أعلاه، نستطيع أن نستشفّ من تلك الزيارة أن الخميني وحسن البنا الساعاتي (1906-1949) قد وضعا الخطوط البيانية الخاصة، التي يلتقيان عليها في عمل ظاهره الإسلام وباطنه خفاياه وأسرار، أنجزتها “زيارات أخرى قامت بها شخصيات شيعية شهيرة لمقرّ الإخوان في منطقة الدرب الأحمر”، التي تكشّفت بعد عقود من الزمن.

والحقيقة، منذ البدء، كانت الشكوك تحوم حول الزيارات واللقاءات التي تجري بين الطرفين، فمن حيث المبدأ المذهبي، يوجد خلاف في مسألة الخلافة وشتم الصحابة وقذف زوجات الرسول وغيرها. ولكن في تهرّب ماكر، استغلّ البنا قول المصلح الكبير الشيخ محمد رشيد رضا (1865-1935)، “نتعاون في ما اتّفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه”، إذ جعلها قاعدة تبرّر العمل الظاهر، وتغطّي على العمل الباطن، مع أن فكر رشيد رضا أثّر كثيراً في البنا، لكنه قصد تجاوز الخلافات السياسية من أجل تحقيق الوحدة بين الأقطار العربية في ظلّ خلافة إسلامية، ولم يعنِ قط بين جماعة إسلامية وأخرى.

ليس هذا فقط، بل إن مؤسّس جماعة الإخوان حسن البنا استخدم شعار “الوحدة الإسلامية”، بغية تسويق فكرة التقارب بين المذهبين السُّنّي والشيعي. ولذلك، عملت “دار التقريب بين المذاهب الإسلامية”، التي اقترحها الإيراني محمد تقي القمي (1908-1990) عند زيارته القاهرة عام 1947، على تمهيد وترسيخ الصلة بين القيادات الصفويَّة والإخوانيَّة، وكان حسن البنا أحد أبرز عناصر هذه الدار. وهكذا استمر التواصل بينهما بشكل علني تارة، وبشكل خفيّ تارة أخرى، بحسب حالات الأوضاع السياسية السائدة في المنطقة عموماً، وفي مصر خصوصاً.

وعلى الرغم من ذلك، لم يحقّق الجانبان الإيراني والإخواني شيئاً على أرض الواقع في مسألة “الوحدة الإسلامية”، بسبب الأهداف السياسية المتغلّفة بالإسلام اسماً ليس إلّا. ولكن إذا قارنّا مسألة التقارب بين المذهبين، فإن شيخ الأزهر محمود شلتوت (1893-1963) أفتى بجواز التعبّد بالمذهب الإمامي، قائلاً “إنّ مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السُّنّة”. ونُشرت هذه الفتوى على نطاق واسع بين المسلمين، لأنها دينية خالصة وليست ذات أهداف سياسية لأغراض دنيوية.    

عموماً، من بين العلاقات القديمة الظاهرة التي تجمع بين إيران والإخوان، جرت عام 1954 عندما دعا سيد قطب (1906-1966)، الذي كان يشغل منصباً في القمة الإسلامية، الإمام مجتبي ميرلوحي، المعروف باسم نواب صفوي (1924-1955)، مؤسِّس حركة “فدائيان إسلام” (أي فدائيو الإسلام) الثورية في 1945، إلى مصر لحضور “مؤتمر القدس الإسلامي” في 12 يناير (كانون الثاني)، وبهذه المناسبة التقى صفوي بقيادات الإخوان في مصر وسوريا والأردن وخطب في مهرجاناتهم، وقال في إحدى خطاباته “من أراد أن يكون جعفرياً حقيقياً، فلينضم إلى صفوف الإخوان”.

ولكن إذا نظرنا إلى السنوات الـ 10 من حياة الحركة الثورية التي أسّسها صفوي، فإنها لم تكترث بقضية فلسطين، ولم ترسل إيرانياً واحداً للقتال ضد الكيان الصهيوني، بل كانت إيران أول بلد في العالم الإسلامي يعترف بإسرائيل عند قيامها على أرض فلسطين المغتصبة عام 1948. واستمرت إيران على هذا الوضع منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا.

وبعد استلام الخميني السلطة عام 1979، كان الإخوان من أوائل المندفعين بحماسة لتأييد ومساندة الخميني، وكان عنصر الاتصال حينذاك القيادي المخضرم ورجل الأعمال الثري يوسف مصطفى ندا (1931)، وكان على رأس الوفد للتهنئة، محمد عبد الرحمن خليفة (1919-2006)، المراقب العام للإخوان في الأردن.

أمّا المرشد الثالث لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، عمر التلمساني (1904-1986)، ففي 1985 كتب في “مجلة الدعوة” العدد 105، ما يلي: ” التقارب بين الشيعة والسُّنّة أصبح الآن مهمة عاجلة لأهل الفقه”، وأضاف “الاتصالات بين جماعة الإخوان المسلمين و(علماء الدين الإيرانيين) ليس الهدف منها دفع الشيعة إلى اعتناق (المذهب) السُّنّي في الإسلام، وإنّما الهدف من ورائها، هو الامتثال لمهمة الإسلام لتلاقي المذاهب الإسلامية إلى أقصى حدّ ممكن”.

ويؤكِّد على أنّ الإخوان المسلمين “حريصون كل الحرص على أن يقوم شيء من التقارب المحسوس بين المذاهب المختلفة في صفوف المسلمين”. وبحسب رأيه، “إنّ فقهاء الطائفتين يُعتبرون مقصّرين في واجبهم الديني، إذا لم يعملوا على تحقيق هذا التقارب، الذي يتمناه كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها”.

ما كتبه عمر التلمساني، يتغافل عمداً عن حقيقة حكم الخميني، الذي كشف للعرب وللمسلمين عن مشروعه الطائفي الهادف إلى تمزيق النسيج الاجتماعي في كل بلد من البلدان العربية، وإلى محق الهوية الوطنية، وإلى تسييس شعائر الحج، والمشكلات المفتعلة ضد السعودية، واستفزاز استقرار دول الخليج العربي، ناهيك عن الحرب القائمة مع العراق وقتذاك. لكنه النهج الإخواني المتوافق مع إيران في تقديم الأسلمة المؤدجلة وإلغاء المفهوم الوطني والقومي، إنه المخطّط الذي اجتمع عليه الخميني والبنا عام 1938، والذي ظهرت تطبيقاته السلبية على نحو علني منذ وصول الخميني إلى السلطة وإعلان جمهوريته الإسلامية.

***

في 12 شباط (فبراير) 2009، نشر “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” تقريراً جاء فيه، لقد “حافظت إيران لسنوات عدّة على علاقات غير رسمية مع حركة الإخوان المسلمين”. وكلّما تمكّنت من تحقيق بناء صلات وثيقة مع الإخوان، كان ذلك يُنَمّي “النفوذ الإيراني بشكل كبير داخل العالم العربي، الذي يجعل من طهران ذات رأي مهم بين المتشدّدين العرب، ومن ثم سيؤدي من دون شك إلى تطوّرات خطيرة على المصالح الأميركية في المنطقة”.

والاستنتاج الذي وصل إليه التقرير، يشير إلى أنّ النتائج المترتّبة على هذا “التحالف” بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحركة الإخوان المسلمين “ستكون مضرّة للغاية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. ولا تزال طهران تركِّز على توسيع نفوذها في الخليج “الفارسي” وخارجه، علاوة على أنّ بناء علاقات متينة مع [الإخوان المسلمين] سيكون بمثابة قفزة هائلة نحو الأمام. وبنظرة إلى تاريخ صلات إيران بالإخوان، فإنّه ينبغي على صُنّاع القرار في الولايات المتحدة أن يراقبوا هذا الاتجاه”.

يبدو أن “التحالف” الإيراني – الإخواني الذي يكون مُضراً على الولايات المتحدة، بحسب التقرير الآنف الذكر، لم يكن صحيحاً على أرض الواقع. فما كشفته “مجموعة الشرق الاستشارية” في 2014 أن دراسة سرية مشتركة بين البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي وكذلك وزارة الخارجية ما بين ايلول (سبتمبر) 2010 إلى شباط (فبراير) 2011، توضح دعم الرئيس الأميركي باراك أوباما (2009-2017) للإخوان المسلمين بهدف تغيير الأنظمة في العالم العربي (شمال أفريقيا والشرق الأوسط).

بتوضيح أكثر، بموجب القانون الأميركي المتعلّق  بـ”حرية المعلومة”، استطاعت المجموعة البحثية “مجموعة الشرق الاستشارية” ومقرّها في واشنطن، الحصول على حزمة من الوثائق السرية التي تكشف أحداثها عن وجود 98 رسالة إلكترونية بين إدارة أوباما ومجلس الأمن القومي ووزارتَيْ الخارجية والداخلية بالعمل التحضيري لاستيلاء الإخوان المسلمين على السلطة. ويشير تقرير المجموعة إلى أن البيت الأبيض راجع على مدى ستة أشهر آفاق حكم الإخوان المسلمين في البلدان العربية. ولقد ترأسّت عملية المراجعة هيئة التحرير في مجلس الأمن القومي، المؤلّفة من كل من دنيس روس وسامانتا باور وغايل سميث وبن رودس ومايكل ماكفول وأن هذه العملية استُهلّت بإمضاء أوباما على أمر رئاسي للقيام بدراسة موسومة “PSD-11” خلال شهر آب (أغسطس) 2010، إذ أُجري تقييم حكومي شامل لآفاق الإصلاح السياسي والدور المحتمل للإخوان المسلمين في أنحاء العالم العربي كافة.

على أي حال، إنّ العلاقة الإيرانية – الإخوانية التي أنتجت ترابطاً حميمياً بينهما، تعود بعض أهمّ جذورها إلى تلك الزيارات التي قام بها نواب صفوي إلى مصر وسوريا والأردن، بعد تلبية حضور “مؤتمر القدس الإسلامي”، حيث نقل رؤية الإخوان للواقع الإسلامي ومنها القضية الفلسطينية لدى الجانب الإيراني. وبعد لقاء علي خامنئي (1939-) صفوي في مدينة مشهد عام 1952، تأثّر بالأخير وانتمى إلى حركته “فدأيان إسلام”، وأخذ يهتمّ بالأنشطة السياسية والثورية، كما ذكر في سيرته الذاتية القصيرة.

ومن هنا، قام خامنئي عام 1966 بترجمة كتاب سيد قطب “المستقبل لهذا الدين” إلى اللغة الفارسية، وكتب في مقدمة الترجمة أهمية الدور الذي أدّاه قطب، ونعته بصفة “المفكّر المجاهد”. ثمّ ترجم كتاباً آخر لسيد قطب هو: “الإسلام ومشكلة الحضارة الغربية”، ووسمه بعنوان “بيان ضدّ الحضارةالغربية”، فضلاً عن ترجمته قسماً من كتاب “في ظلال القرآن” لقطب أيضاً. وعندما أصبح خامنئي “مرشداً” للجمهورية الإسلامية عام 1989، أصدر أمراً بتدريس نظريات وأفكار سيد قطب في مدارس الإعداد العقائدي لدى “الحرس الثوري الإيراني”.

ويمكن اختصار سبب اهتمام طهران بسيد قطب تحديداً، بما ذكره محمد سيد رصاص في كتابه “الإخوان المسلمون وإيران الخميني – الخامنئي”، 2013، قائلاً: “إذا حذفنا رأي سيد قطب في الخليفتين أبي بكر وعمر، وهو ما يخالفه به الشيعة، لكان رأيه مطابقاً لرأي الشيعة في عثمان وبني أمية، كما أنّ رأيه في علي بن أبي طالب يتطابق معهم أيضاً، ولكن ينقصه لكي يكون التطابق كاملاً أن يضاف إليه قولهم في الإمامة بمعناها الشيعي”.

إنّ الخط الإخواني الخارجي الداعم للنظام الإيراني، أنتج منه الخط الإخواني الداخلي في إيران، حيث افتُتحت الصلات الوثيقة بين الجانبين، لا سيما عقب استلام الخميني للسلطة وتأسيس “جماعة الدعوة والإصلاح”، التي تمثل الإخوان المسلمين في إيران، وذلك على يد مجموعة من الدعاة المتأثرين بالخميني وجمهوريته الدينية، أمثال: الشيخ ناصر سبحاني (1951-1990) والشيخ أحمد مفتي زاده (1933-1993) وغيرهما من أهل السُّنّة والجماعة من أكراد وبلوش وتركمان. ومن أهمّ شروط العضوية للجماعة: أن يكون المنتمي إيراني الجنسية والالتزام بحقوق الأخوة الإيمانية وواجباتها، وألّا يكون له عضوية في الأحزاب والجماعات السياسية الأخرى. ووصل عدد فروع الجماعة إلى 12 محافظة إيرانية غالبيتها سُنّية، تمارس أنشطتها رسمياً وفقاً للمنهج الوسطي الذي يحافظ على الإطار الإسلامي العام. وتعتبر جماعة الإخوان المسلمين في إيران من أكثر الجماعات السُّنّية التي تمتلك حرّية الحركة والنشاط بين مكوِّنات المجتمع داخل جغرافية البلاد، كما تتميّز بعلاقة مسهبة مع أركان النظام السياسي، سواء في الدولة أو مع قيادات الحرس الثوري أو الأجهزة الأمنية، خصوصاً في ما يتعلّق بالتعاون ضد مواجهة المتطرفين من أهل السُّنّة. وعلى الرغم من هذا التعاون لإخوان إيران مع مؤسسات الدولة الإيرانية، فإنّ النظام قد أعدم الشيخ ناصر سبحاني، وقُتل الشيخ أحمد مفتي زاده مسموماً بعد إطلاق سراحه من السجن الذي قضى فيه نحو عشر سنوات.

بيد أنّ المرشد الحالي لإخوان إيران، الكردي عبد الرحمن بيراني (1954-)، عمد إلى التجاوب والتقارب بشكل أكبر تجاه حُكام النظام، إذ التحقت الجماعة بالتيار الإصلاحي عبر تحالفها مع “منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية”، أحد أبرز التنظيمات الإصلاحية التي دعمت حسن روحاني في الانتخابات الرئاسية في 15 يونيو (حزيران) 2013. وعندما التقى بيراني علي يونسي (1951-)، مساعد رئيس الجمهورية حسن روحاني بتاريخ 29 أكتوبر (تشرين الأول) 2013، أكّد أنّ الجماعة ليست لها مطالب تخصّها، بل تأتي ضمن المطالب التي تتحقّق للمجتمع الإيراني عموماً وأن تُوزَّع المسؤوليات على الأفراد ويُوَظَّفوا بحسب الكفاءات والاختصاصات، وألّا تكون الانتماءات المذهبية أو القومية حائلاً دون الحصول على حقوق المواطنة المتساوية. لكن هذا الكلام لم يلقَ تطبيقاً واقعياً، وبهذا تستمر مقولة حسن البنا الماكرة في تخدير الإخوان، “أن نتعاون في ما اتّفقنا عليه، ويَعذُر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه”.

مفاهيم متشابهة وقواسم مشتركة

أوّلاً: المفهوم الفكري والديني

توجد هناك بعض من المفاهيم الفكرية والفقهية التي تجمع بين الطرفين الشيعي الصفوي والسُّنّي الإخواني، وهي بمجملها ذات أهداف سياسية بصبغة إسلامية، تقوم على فكرة الإسلام الأممي، إذ بالنسبة إلى إيران، كما تدّعي، هدفها هو “حضارة الإسلام الجديدة”، أمّا الإخوان، فهدفهم الأسمى في تحقيق “الإسلام العالمي”، إضافةً إلى أن كليهما ينبذان القومية العربية والهوية الوطنية والحدود بين البلدان الإسلامية والمدنية الغربية.

في هذا الصدد، يشير حسن البنا في كتابه “مذكرات الدعوة والداعية”، قائلًا: “أما العالمية أو الإنسانية، فهي هدفنا الأسمى وغايتنا العظمى وختام الحلقات في سلسلة الإيضاح، والدنيا صائرة إلى ذلك لا محالة، وهي خطوات إن أبطأ بها الزمن فلا بدّ من أن تكون، وحسبنا أن نتّخذ منها هدفاً، وأن نضعها نصب أعيننا مثلاً، وأن نقيم هذا البناء الإنساني، وليس علينا أن يتم البناء، فلكل أجل كتاب”.

وتعود جذور تأسيس تنظيم الإخوان الدولي إلى سعيد رمضان (1929-1995) صهر البنا وأمين سره، عندما هرب من مصر بعد فشل محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر (1918-1970) في ما يُعرف باسم “حادثة المنشية” عام 1954. وبعد تنقّلات من الأردن إلى باكستان، اتّجه رمضان إلى سويسرا عام 1958، وأسّس “المركز الإسلامي”، وبعدها أسّس “الجمعية الإسلامية” في ألمانيا وترأسّها بين (1958-1968)، وكان أحد مؤسّسي “رابطة العالم الإسلامي” في 1962. وبعدما رأت جماعة الإخوان ضرورة الانتقال من الارتباط الروحي إلى الانتماء التنظيمي، بدأت التسريبات عن وجود تنظيم الإخوان الدولي منذ عام 1982.

إنّ الإسلام في منهجية الفكرَيْن الإيراني والإخواني ليس أكثر من قالب تصدير أو جسر عبور للوصول إلى دفّة الحُكم وتنفيذ غايات وأهداف تعمل على تفكيك الأمن القومي العربي وتقليص المفاهيم والمبادىء والأفكار المتعلّقة بالعروبة حاضراً وماضياً، بغية تسطيحه مستقبلاً من العقل والواقع، فضلاً عن البناء العالمي للإسلام لقيادة البشرية، سواء عن طريق “التنظيم الدولي للإخوان”، أو عبر التحالفات الإسلامية مع النظام الجمهوري الإسلامي الحاكم في إيران.

أما من ناحية المفاهيم الدينية، فإنّ جمهورية إيران ترى أنّ عصر الإمام المهدي المنتظر الذي غاب في سرداب بمدينة سامراء شمال بغداد، منذ عام 255 هجري/ 686 ميلادي، فقد حان زمن ظهوره. وبذلك، تنظر إيران إلى علاقتها الخاصة مع جماعة الإخوان المسلمين، على أن تكون الأداة المساعدة في تغلغل المدّ الإيراني داخل البلدان العربية.

وعندما تسلّقت جماعة الإخوان في مصر على الحراك الشعبي عام 2011، ثمّ تحوّلهم إلى المنافسة الانتخابية عبر شعار “المشاركة لا المغالبة”، التي أبرزت تسلّطهم في كتابة الدستور وإصدار القوانين والعمل على أخونة المؤسسات الرسمية، بعد تهافت هيمنتهم على مقاليد الدولة ومجلسيْ الشعب والشورى.

واستناداً إلى هذه الأرضية الإخوانية في مصر، فإن المرشد الإيراني علي خامنئي طالب الرئيس المصري محمد مرسي (1951-2019)، بأن يستلهم ويقتبس من “نظام ولاية الفقيه”، وعليه أيضاً أن يتبنّى “النموذج الإيراني”، بل أن ينخرط كلّياً في المشروع الصفوي الإيراني بالمنطقة، وفق هدف تشييد “الحضارة الإسلامية الجديدة”، خصوصاً أنّ مصر استقبلت الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (2005-2013)، بمناسبة عقد “مؤتمر القمة الإسلامية” ما بين 6-7 فبراير (شباط) 2013، بعد قطيعة استمرت 34 عاماً، وسبقتها استجابة محمد مرسي لزيارة إيران بدعوى حضور “قمة دول عدم الانحياز” في أغسطس 2012.

وفي فترة حُكم الإخوان القصيرة لمصر (2012-2013)، ظنّت إيران أنها قد حقّقت أطماعها بالوصول إلى أرض الكنانة، فكانت أول دولة في العالم تُقدِّم التهنئة للإخوان بفوزهم بالسلطة. ولقد قام قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني” العميد قاسم سليماني (1957-2020) بزيارة سرية إلى القاهرة، أجرى خلالها محادثات مع مسؤولين كبار مقرّبين من الرئيس محمد مرسي. وكذلك زار سليماني سرّاً “حزب الله” في لبنان و”حركة حماس” في قطاع غزة.

زيارة سليماني السرّية لحماس في غزة، أكدها ممثل الحركة في لبنان أحمد عبد الهادي، بل قال في تسجيل مصور على شبكات التواصل الاجتماعي، في مطلع هذا العام، إن سليماني زار سرّاً القطاع أكثر من مرة، وأسهم وشارك بشكل كبير في الخطط الدفاعية، ونوّه إلى أن فكرة الأنفاق تعود إلى عماد مغنية (1962-2008) وسليماني. ولقد شهد قطاع غزة دخول وخروج شخصيات عربية وإسلامية كبيرة من خلال الأنفاق في عهد محمد مرسي.

وذكرت صحيفة “التايمز” البريطانية أن قاسم سليماني في زيارته إلى مصر، أجرى محادثات مع عصام الحداد، مستشار محمد مرسي للشؤون الخارجية ومسؤولين من جماعة الإخوان، بغية تكوين جهازَيْن أمني واستخباري خاصَّيْن بالإخوان، يكونان منفصلَيْن عن أجهزة الدولة في مصر.

على أي حال، فمن القواسم المشتركة بين مفاهيم الإخوان وإيران مسألة الغلو في الشخصية. فعن الخميني، بعد تعزيز قبضته على السلطة باعتباره “الولي الفقيه” و”إمام المستضعفين”، ارتفعت درجة التعظيم والغلو بشخصه حيّاً وميتاً، إذ بلغت كلفة قبره أكثر من مليار دولار أميركي. وذكرت صحيفة “اطلاعات” الإيرانية في 1992 “أنّ المساحة المسقّفة لمرقد ومصلى الإمام الخميني في مقبرة “بهشت زهراء”، تبلغ 600 ألف متر مربع، وطولها كيلومتر واحد، وعرضها يزيد على نصف كيلومتر، وبهذا لا مثيل لها مقارنة بكافة الأبنية الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية، وحتى الأديان الأخرى”.

ولقد مارس الإخوان المسلمون السلوك التمجيدي ذاته تجاه إمامهم حسن البنا الساعاتي. ونذكر هنا عمر التلمساني مثالاً، ففي كتابه: “ذكريات لا مذكرات” 2012، مجّد البنا بإضفاء الاختيار الإلهي على شخصه، قائلًا: “لمّا كان الأمر أمر تجميع وتكوين وتوحيد مفاهيم أمة مسلمة، لمّا كان الأمر أمر عودة المسلمين إلى الإيمان، لمّا كان الأمر كذلك، اختار الله لهذه الدعوة إمامها الشهيد حسن البنا”.

وبذلك، لا غرو إن أذاب التلمساني شخصه في مرشده الأول، إذ يقول: “كنتُ أرى وأسمع وأفكّر بعين فضيلته، وآذانه وعقله، لثقتي المطلقة في صواب كل ما يرى، وقد يكون في هذا شيء من الخطأ أو إلغاء الشخصية عند بعض الناس، ولكنّي كنتُ معه الميت بين يدَيْ مُغسِّله، وكنتُ سعيداً بهذا كل السعادة”.

كما إنّ تقارب التطابق التنظيمي بين نظام “جمهورية إيران الإسلامية” من جهة، و”حركة الإخوان المسلمين” من جهة أخرى، واضح التشابه والمعالم، إذ إنّ درجة “المرشد” على رأس الهرم وفوق منصب رئيس الجمهورية، وإنّ “مجلس تشخيص مصلحة النظام” في إيران يقابله “مكتب الإرشاد” عند الإخوان. وهكذا تشابه بنيوي وتقارب مبدئي، لم يأتيا كنتيجة ظرفية مرحلية، أو علاقة مصلحية عابرة، وإنّما هو انعكاس فكري في الآراء والتصوّرات، ويكشف عن مدى التجانس العملي والصلة التاريخية لعلاقة ترتبط بين جانب “سُنّي إخواني” يزعم أنّه يمثِّل الثقل الأكبر بين الحركات الإسلامية السُّنّية، وآخر “شيعي صفوي” يدّعي أنّه الحامي الوحيد لعموم الشيعة في العالم، ويستخدم كلاهما الإسلام لمآرب سياسية تخدمهم على حساب العروبة كقومية والإسلام كدين.

وإلّا كيف لنا أن نفسِّر مبدأ “تصدير الثورة” الإيرانية وما سبّبته من تمزيق للنسيج الاجتماعي الواحد، على أُسس طائفية بغيضة ومقيتة، كما جرى في بلدان عربية عدّة: العراق وسوريا ولبنان واليمن، ومشكلات تم وأدها في البحرين والجزائر والمغرب. وكذلك هيكلية “التنظيم الإخواني الدولي” ومدى انعكاساته السلبية على البنية الوطنية في البلد الواحد.

***

ثانياً: المفهوم العقائدي

من بين الجوانب التنظيرية التي تشترك أو تتقارب فيها إيران وجماعة الإخوان، ما يتعلق بمفاهيمهما العقائدية تجاه الإسلام، وأهمها عالمية رسالة التوحيد، وأن الإسلام هو الطريق الوحيد في الحياة ووحدة الأمة الإسلامية والشورى في القرار مع ضرورة العمل الإسلامي الجماعي.

ولكن هذه التنظيرات العقائدية البراقة يختفي لمعانها ويتلاشى عند تطبيقها عملياً على أرض الواقع، لأن الهدف لدى النظام الإيراني والتنظيم الإخواني “سياسي” غايته الحكم باسم الاسلام، أي توظيف الدين لمآرب سياسية، وهنا تبدأ التضادات والتناقضات في سياسة الحكم بين الشؤون الدينية والدنيوية، فأخطاء السياسية تنعكس سلباً على الدين وهو براء منها. لذلك فإن الإسلام أكبر من أن يُحصر في شخص أو جماعة، ومن يستغل الإسلام فلن تستقيم له الأمور.

وعموماً فإنّ بعض المفاهيم المشتركة بين الجانبين الإيراني والإخواني تأخذ دوراً مهماً في إظهار عقائدهم التي يسوّقونها للآخرين، مثل مبادئ التنظيم والجهاد، إذ يشتغل الطرفان على إحياء البعث الإسلامي، وإعادة صياغته من جديد وفقاً لمعطيات العصر، واعتبار حضارة الغرب ومدنيّتها مادية خاوية روحياً، وأن الإسلام يتميّز برسالة عالمية جامعة للدين وللحياة في آن، وبذلك يكون قادراً ومؤهلاً لقيادة العالم. وبالنسبة إلى المسائل العقائدية والتفسيرية للنصوص الدينية بين الطرفين، فثمة ليونة إخوانية جليّة تجاه عقائد التشيّع الصفوي، بحجة إيجاد أرضية مشتركة تُجمّع ولا تُفرق. ففي مسألة الحاكمية أو الخلافة يحاول الإخوان حصر الخلاف في آلية الاختيار الجمعي لا النصي بغية الالتقاء في عملية التوحيد بين المسلمين.

لذلك كتب المرشد العام الثالث عمر التلمساني في مجلة “الدعوة” عام 1985، قائلاً إن “الاتصالات بين الإخوان المسلمين ورجال الدين الإيرانيين، لم يكن الهدف منها أن يعتنق الشيعة المذهب السُّني، ولكن الهدف الأساس الالتزام برسالة الإسلام في توحيد الفرق الإسلامية، والتقريب بينها قدر المستطاع”.

وكذلك تصريح محمد مهدي عاكف (1928-2017) الذي أصبح المرشد العام السابع في 2004 إذ قال خلال مقابلة له مع وكالة الأنباء الإيرانية في 28 يناير (كانون الثاني) 1982 “إن الإخوان المسلمين يؤيدون أفكار ومفاهيم الجمهورية الإسلامية”.

وكان أحد أبرز مفكري الإخوان ومرشدهم السابق في لبنان، فتحي يكن (1933-2009) خصّ آية قرآنية بالخميني ونظامه السياسي الديني، حين أكد أن “قيام الثورة الإيرانية تحقيق لما وعد الله به إذ قال (ولقد سبقت كلمتُنا لعبادنا المُرسلين أنّهم هم المنصورون وأنّ جندنا لهم الغالبون)”.

غير أن النظام الإيراني كان أكثر وضوحاً في توظيفه النصوص الدينية التي يستخدمها في تسويق مشروعه السياسي الطائفي العنصري. فمسألة “الإمامة” أو “الحكومة الإسلامية” أو “الولي الفقيه” لها ركائزها الفيصلية في دولة “المهدي المنتظر”، فوفقاً للخميني في محاضراته التي ألقاها باللغة الفارسية عندما كان مقيماً في النجف عام 1969، والتي صدرت عام 1970 بعنوان “الحكومة الإسلامية”، الذي كان يقول إن “من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مُرسل، وقد ورد عنهم أنّ لنا مع الله حالات لا يسعها مَلك مُقرب ولا نبي مُرسل”.

وبحسب مفهوم الخميني فإنّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يوفّق في دعوته، وإن على نظام “الولي الفقيه” أن يحقق ما لم يستطع تحقيقه نبي الإسلام نفسه. إذ “ومنذ صدر الإسلام والنبوة، وما تلاه، لم يدعوا أن تظهر إلى الوجود حكومة كما يريدها الإسلام. ففي زمن رسول الله ونتيجة لكل تلك المشكلات من حروب ومعارضة، لم تتحقق الحكومة بالشكل الذي كان يريده”.

وبلغة ملؤها التعصب والعنصرية وبعيدة كل البُعد عن الروح والقيم والعقيدة الإسلامية، يرى الخميني في “الوصية الإلهية السياسية”، أنّ شعبه أفضل من أهل الحجاز في عهد النبوة، ويقول بكل وضوح “أنا أزعم بجرأة أن الشعب الإيراني بجماهيره المليونية في العصر الراهن، أفضل من أهل الحجاز في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله”.

ومن دون ريب، تُعد أقوال الخميني تطاولاً وتجاوزاً صريحاً على رسول الله، لكنه منسجم مع آرائه وأفكاره الصفوية المنشأ والتصوّر. لذلك فإنه يؤيد الفكرة الصفوية القائلة “لو كان علي عليه السلام ظهر قبل رسول الله صلى الله عليه وآله، لأظهر الشريعة، كما أظهر النبي صلى الله عليه وآله، ولكان نبياً مرسلاً، وذلك لاتحادهما في الروحانية والمقامات المعنوية والظاهرية”.

أدى هذا الموقف المنحرف بالخميني أن يصل الشكّ عنده إلى كتاب الله سيراً على خطى سابقيه من عهد الدولة البويهية (621-932) .

والصفوية (1501-1736) من العلماء الذين أيّدوا القول بتحريف القرآن. ففي كتابه الموسوم “القرآن باب معرفة الله”، يشير الخميني بكل وضوح إلى أن “القرآن من دون تحريف وتغيير، ومن كتاب الوحي الإلهي، وأن الذي يستطيع أن يتحمل هذا القرآن هو الوجود الشريف ولي الله المطلق علي بن أبي طالب، ولا يستطيع الآخرون أخذ هذه الحقيقة إلا بالتنزيل من مقام الغيب إلى موطن الشهادة، والتطور بالأطوار الملكية، والتكسي بكسوة الألفاظ والحروف الدنيوية، وهذه إحدى معاني التحريف التي وقعت في جميع الكتب الإلهية والقرآن الشريف، وجميع الآيات الشريفة وضعت في متناول البشر بعد تحريفات عدة، بحسب المنازل والمراحل التي طواها، من حضرة الأسماء إلى عوالم الشهادة والملك الأخير، وعدد مراتب التحريف يتطابق مع عدد بطون القرآن طابق النعل بالنعل”.

وبذلك تعتبر إيران البلد الإسلامي الوحيد المستمر تاريخياً في تأييد فكرة الشك بالقرآن، من دون الاهتمام بالآية الكريمة “إنَّا نحنُ نزلنا الذِكرَ وإنَّا له لحافظونَ”. فلا غرابة أن يواصل النظام الإيراني في طبع وتوزيع الكتب الدينية مجاناً، التي لا ترى في التاريخ الإسلامي إلا النظرة الرافضية، والنهج الشعوبي العنصري، وفيها من السب واللعن لصحابة رسول الله، والطعن في زوجاته.

فما قاله الأولون والمتأخرون والمحدثون من الرواة والمؤرخين من الفرس الشيعة أمثال المفيد محمد بن النعمان وأبو الحسن العاملي ونعمة الله الجزائري ومحمد باقر المجلسي وعلي بن إبراهيم القمي وميرزا حبيب الله الخوئي وحسين النوري الطبرسي وغيرهم، من الجزم بتحريف القرآن والحط من منزلة خلفاء رسول الله والنيل من أمهات المؤمنين وكراهيتهم للعرب والعروبة بشكل عام، فإن مجموعة المراجع الدينية المتنفذة وطبقة الملالي الحاكمة في النظام الإيراني تؤيده بلا خجل، وتشجعه من غير وجل. والإخوان أيضاً لا يجدون ضيراً في بعض القواسم المشتركة معهم، وفق القاعدة التي تمسك بها مؤسسهم حسن البنا “نتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه”!

ثالثاً: التسيس الديني السلطوي

من ضمن المفاهيم المتقاربة بين دولة إيران الدينية وجماعة الإخوان المسلمين السلوكية السياسية السلطوية. إذ إنهم يجيزون لأنفسهم ويخولون لعقولهم في تكفير من يخالفهم وتغليط من ينقدهم، وذلك بحسب تصوّراتهم ومعتقداتهم السياسية في الدين. ناهيك بالحديث عن استخدامهم أسلوب العنف في قمع الآخرين من ناحية، وتثبيت تحكمهم السلطوي من ناحية أخرى. فعندما انفجرت ثورة الشعوب داخل الجغرافيا السياسية الإيرانية ضد استبدادية الشاه محمد رضا بهلوي (1941-1979) وأسقطته، جاءت بالخميني إلى الحكم، لكنه بدأ رويداً رويداً في إزاحة جميع معارضيه السياسيين والدينيين، وحتى منتقديه من داخل دائرته الضيقة.

قالت الباحثة الأميركية نيكي كيدي في كتابها “إيران الحديثة: جذور ونتائج الثورة” (2006)، “كانت السنوات العشر من حُكم الخميني بارزة بتصاعد سلطة أتباعه وإسقاط الآخرين، وغالباً ما تكون بالعنف، بالرغم من مقاومة المجاميع المعارضة له، فضلاً عن ازدياد هيمنة الإلزام الأيديولوجي والسلوكي على السكان”.

ومعلوم أن الخميني أسس نظاماً دينياً سياسياً، يستمد أصوله من التشيع الصفوي، الذي يجمع بين السلطتين الروحية والزمنية، وهذا ما يخالفه عليه التشيع العربي الذي يفصل بينهما. وفي “الحكومة الإسلامية”، بحسب مفهوم الخميني، “إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا”.

وكذلك يشير الخميني إلى أن هذه الولاية لا تخص المنزلة الخاصة بالنبوة والأئمة، بل هي اعتبارية عقلانية، تخص “الوظيفة العمليّة” فقط. ولكن في هذا الجانب العملي أو التطبيقي لشرع الله، الذي يكون فيه الحاكم منفذاً لأمر الله وحكمه، فإن هذا الحاكم قد يكون “نبياً أو إماماً أو فقيهاً عادلاً”.

إلا أنّ آية الله حسن الطباطبائي القمي (1912-2007)، نقد الخميني بشدة، قائلاً “إذا كان المراد من هذه القسم من الولاية المبسوطة والواسعة، التي ثبتت للرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة الأطهار، أن توجد بنفس التوسعة للفقيه، فهي على القطع خطأ بلا تردد، لأن هذه القسم من الولاية يحتاج إلى قدرة العصمة الكاملة والمطلقة، وليس لأي فقيه مقدرة كهذه، وبهذا الدليل كلما يكون الفقيه عالماً ووراداً ومتقياً وربانياً وذا ملكة للعدالة أيضاً، فبالطبع تحت تأثير السهو والاشتباه والنسيان، وتحت تأثير العوامل النفسية الأخرى، يمكن أن يقوم بعمل لم يكن فيه ملحظاً”.

وجاء رد فعل الخميني تجاه نقد حسن القمي له في خراسان أن سامه سوء العذاب والاضطهاد، ووضعه تحت الإقامة الجبرية محاطاً بجلاوزة النظام، ومراقباً على مدار الساعة.

وكذلك جرى الأمر ضد آية الله محمد كاظم شريعتمداري (1905-1986)، الذي عارض فكرة ولاية الفقيه كنظام حكم بصلاحيات مطلقة، إذ لم يكفِ الخميني عدم منحه حق الاستثناء من عموم الولاية، بل عمد إلى إذلاله وتهميشه، ورفض السماح له حتى بالعلاج من مرض السرطان في الخارج. وفي 1982 تم توجيه الاتهام له بالتآمر، ومحاولة اغتيال بعض قيادات الثورة، وتعرض للضرب والإهانة برغم شيخوخته ومنزلته الدينية والعلمية، ومات مريضاً معزولاً في بيته بمدينة قم المقدسة عندهم.

والأنكى من هذا وذاك، أن آية الله حسين علي منتظري (1922-2009)، الذي عينه الخميني نائباً للمرشد الأعلى تعرّض لذات الإقصاء المرير، عندما رفض مبدأ ولاية الفقيه، لأنها تعني إحلال الاستبداد الديني محل الاستبداد العلماني، وخالف فتوى الخميني في إعدام آلاف السجناء من المعارضين للنظام، ولم يوقف سهام نقده نحو الحرس الثوري في إشعال فتيل الطائفية في البلدان العربية. فأمر الخميني بوضع منتظري رهن الإقامة الجبرية، وفرضت عليه عزلة سياسية إلى آخر حياته. وهكذا استمر موقف الخميني التعسفي والظالم مع كبار رجال الدين من الذين تجرأوا على نقده أو معارضة نظامه، فكيف الحال مع مناوئيه من السياسيين المدنيين والعسكريين؟

وكذلك بالنسبة إلى الإخوان، فعن استخدام القوة ضد الغير يقول المرشد المؤسس البنا “إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولاً، وينتظرون بعد ذلك ثم يقدمون في كرامة وعزة، ويتحملون كل نتائج موقفهم بكل رضاء وارتياح”.

وعلى منوال البنا يدور سيد قطب، ولكن بتطرف أكثر، ففي كتابه “معالم على الطريق” يرى أن المسلمين اليوم “ليسوا مسلمين كما يدعون إن شهدوا أن لا إله إلا الله وإن محمد رسول الله وإن صلى أحدهم وحج البيت الحرام وهم يحيون حياة الجاهلية”. وأن “موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة، أن يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها”.

أما في كتابه “في ظلال القرآن” فيذهب للقول “ليس على وجه الأرض دولة ومسلمة ولا مجتمع مسلم قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي”. ويرى أيضاً “إن قضية وجود الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلى علاج”.

ومن عبارات تلك النصوص يتضح لنا كيف أن الإخوان يستخدمون قضية التكفير ضد الآخرين وفق رؤية فكرية ومفهوم ديني يخصهم وحدهم. ما يعني أن الإخوان هم فقط على الصراط المستقيم، وهي طريقة يحاولون فيها احتكار الإسلام لمنهجهم بغية فرض سيطرتهم وسطوتهم.

وهذا التسلط والاستبداد الروحي ظهرا بشكل سافر في صلاحيات الولي الفقيه المطلقة، باعتباره المرجع الديني والسياسي في آن واحد. ففي تاريخ 31 ديسمبر (كانون الأول) 1988، بعث خميني برسالة إلى خامنئي الذي كان يشغل حينها منصب رئيس الجمهورية، يشرح له فيها تصوراته عن الأطر والصلاحيات الواجبة لدى الولي الفقيه، وأدرجت هذه الرسالة في الدستور الإيراني في ما بعد. ومما يشير إليه الخميني فيها “إذا كانت صلاحية الحكومة محصورة في إطار الأحكام الفرعية الإلهية، لوجب أن تلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام، وأن تصبح بلا معنى… ولا بد أن أوضّح أنّ الحكومة شعبة من ولاية رسول الله المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية، حتى الصلاة والصوم والحج… إنّ الحكومة تستطيع أن تمنع موقتاً في ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك، أن تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية. وما قيل حتى الآن وما قد يقال ناشئ من عدم معرفة الولاية المطلقة الإلهية”.

العراق والسعودية أول المتضررين

بحكم الموقع الجغرافي، فإنّ العراق البلد العربي الأول الذي عانى بشدة من أضرار دولة إيران الدينية، وبحجّة تصدير الثورة الإسلامية، بدأ الخميني تنفيذ مشروعه الطائفي، الذي أراد منه إشعال نار الفتنة بين المسلمين في البلد الواحد. وبعد منع تنظيم الإخوان المسلمين في العراق منذ عام 1961، أخذت خلاياه التحرّك وبدعمٍ إيراني. وكان الخميني يردّد أنّ “طريق القدس يمرّ عبر كربلاء”. عبارة صريحة للتدخّل الإيراني الصارخ. ومع ارتكاب العمليات الإرهابية المدعومة من إيران داخل العراق، اندلعت الحرب في 22 سبتمبر (أيلول) 1980، وانتهت في 8 أغسطس (أغسطس) 1988، وراح ضحيتها نحو مليون مسلم، غالبيتهم من الإيرانيين، نتيجة الزحف البشري في الهجومات البرّيَّة.

وعلى الرغم من أنّ العراق وافق على قرار “مجلس الأمن الدولي” الرقم 479 في 28 سبتمبر 1981، أي بعد ستة أيام من نشوب الحرب، وتعاون مع “لجنة المساعي الحميدة” التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، وغيرها من الجهود العربية والإسلامية والدولية من أجل وقف نزيف الحرب، لكن الخميني كان يطرح شروطاً مستعصية، دلالة على رفضه. واستمر متمسّكاً بموقفه حتى أُجبر مذعناً بالموافقة على قرار مجلس الأمن، وجاء في كلمته “وشربتُ كأس السّم بقبول القرار”.  فخرج العراق منتصراً على إيران، ولم يكن لجماعة الإخوان ممثلةً بـ”الحزب الإسلامي العراقي” أي تأثير ولو قيد أنملة.

كذلك عانت السعودية، ولا تزال، من النهج العدواني الإيراني، ابتداءً من سنوات تسيّس الحج، لا سيما الفترة الممتدة ما بين 1984- 1987، إذ من أسلوب تصدير الثورة الإيرانية، أن ينظّم الحجّاج الإيرانيون تظاهرتين: الأولى في المدينة المنورة يطلقون عليها “تظاهرة الوحدة”، والأخرى في مكة المكرمة تحت اسم “تظاهرة البراءة من المشركين”. فالحجّاج الإيرانيون يعملون بما أمرهم به الخميني الذي لا يفصل الدين عن السياسة. وبذلك، بحسب مفهومه، لا تنفصل عبادية الحج عن أهدافه السياسية الأخرى، التي شرّعها الإسلام من أجل مصلحة الأمة.

وفي حينها، نبّهت السلطات السعودية عبر الدكتور إبراهيم العواجي، وكيل وزارة الداخلية في لقائه مع ممثل الخميني في الحج، مهدي كروبي (1939-)، إلى الالتزام المطلوب في التظاهرة، وإلّا سيتم التصدّي للمتظاهرين. وما حدث في مكة يوم الجمعة المصادف 6 ذي الحجة 1407 هجرية، الموافق 31 يوليو (تموز) 1987 ميلادية، هو أن خرجت تظاهرة الحجّاج الإيرانيين عن مسارها السلمي، بإشعال البلبلة والفوضى، واصطدمت بعنف مع قوات الأمن ورجال الشرطة، فسقط عدد كبير من الضحايا المدنيين بين قتيل وجريح.

وفي عهد علي خامنئي، ازدادت التدخلات الإيرانية الطائفية في الساحة العربية على نحو أوسع وأغلظ من ذي قبل، وازدادت معها تحرّكات الإخوان المسلمين، لا سيما في عَهْدَيْ الرئيسَيْن الأميركيَّيْن جورج بوش الابن (2001- 2009)، وباراك أوباما (2009- 2017)، إذ تمدّدت إيران في أربعة بلدان عربية: العراق وسوريا ولبنان واليمن. ونتائج المخطّط الأوبامي الذي تحقّق في وصول الإخوان إلى السلطة في بعض البلدان العربية: مصر وتونس وليبيا.

ويرى الأكاديمي الفرنسي أوليفر روي (1949-)، في كثير من كتاباته المتخصّصة في الإسلام السياسي المعاصر، وما خلقه من أبعاد ومواجهات إقليمية ودولية، ومن جملة مؤلفاته “الإسلام العالمي: البحث عن أمة جديدة” و”العلمانية تجابه الإسلام” و”الإسلام والمقاومة في أفغانستان” وفي كتابه الموسوم “فشل الإسلام السياسي”، تناول بشكل مسهب وكتب عن إيران كنظام ومذهب وتاريخ في أيرنة الواقع المفروض على الآخرين، قائلاً إنّ “الثورة الإيرانية مشدودة الصلة بالمذهب الشيعي، ليس عبر مجموعة الكتابات، بل كتاريخ، إذ إنّ هوية المذهب الشيعي في إيران تعكس العملية التاريخية التي ظهرت في مرحلتين: الأولى في اعتناق إيران المذهب الشيعي تحت الحُكم الصفوي خلال القرن السادس عشر ميلادي، والأخرى عدم قبول الأقليات الشيعية الأجنبية الأيرنة المفروضة عليهم، خصوصاً التحكّم الإيراني والنفوذ ومركزية رجال الكهنوت. وفي هذا الخصوص، تُعتبر هذه بُدعة كبيرة بالنسبة إلى المذهب السُّنّي”.

ولكن بالنسبة إلى الإخوان، كونهم من أهل السُّنّة، وجماعة دينية- سياسية، فقد ظهرت اضطرابات واضحة في موقفهم بعد وصولهم إلى السلطة في مصر. على سبيل المثال، عندما أصدر مجلس شورى الإخوان في 30 أبريل (نيسان) 2011 قراره بإنشاء “حزب الحرية والعدالة”، جناحاً سياسياً لحركة الإخوان المسلمين، وبذلك حسم مسألة الجدال حول إقامة دولة دينية أو مدنية، بيد أنّ هذه النقلة التي حتّمتها ظروف الحراك الشعبي وقتذاك، لا تعني أنّ جميع الإخوان قد انصهروا في حزبهم الوليد، بل إنّ “الحرية والعدالة” ليس أكثر من هيكل سياسي جديد يمثِّلهم. أمّا الهياكل الاقتصادية والأمنية والعسكرية، فلها هرميتها في البنية الإخوانية. ومن الواضح أن مستقبلية هكذا بنيوية داخلية للإخوان، كادت أن تؤدّي بصورة أو بأخرى، إلى تخريب الوضع المؤسّساتي الذي قامت عليه مدنية الدولة المصرية الحديثة، وإلى تحويل الدولة المصرية ظلاً خاضعاً للقيادة الإخوانية، من المرشد إلى الحزب، وإلى بقية الواجهات الأخرى.

إنّ أسلوب جماعة الإخوان في طريقة التوغّل داخل المجتمع يكون من خلال تأسيس الجمعيات الخيرية والتعاونية والخدمية وغيرها، وبثّ فكرهم وعقيدتهم كبديل صالح للوضع المنحرف عن النهج الإسلامي القويم. وفي تدعيم هذا الاتجاه، كانوا يمارسون الضغط النفسي في طرح شعارات دينية وأخلاقية، منها “الإسلام هو الحلّ”، ما يعني حصر الإسلام وتمثيله في حركتهم، مع الادّعاء بأنهم الأصوب في إقامة النظام الإسلامي الصحيح.

أما أسلوب أسلمة الدولة، فجماعة الإخوان تعمل على اختراق مفاصل الدولة في جميع مستوياتها من جهة، وتوظيف التحالفات مع الآخرين من جهة أخرى. بيد أن سلبيات مخطّطاتهم قد تكشّفت، بل فشلوا لا سيما أن مدنية الدولة في مصر متجذّرة لا يمكن تفكيكها بذرائع إسلامية تخدم الجماعة في الدولة، لا الدين في الحياة.

مصر تتضرّر (القسم الأول)

على الرغم من أن مصر تُعدّ منشأ ومعقل جماعة الإخوان المسلمين، وتعرّضت لأضرار وتصادمات إخوانية سابقاً، أدت إلى حلّهم في أكثر من مرة، في عهد الملك فاروق عام 1949، وكذلك في عهد الرئيس عبد الناصر عام 1954. إلّا أنّ الخطورة الحقيقية التي تعرّضت لها مدنية الدولة المصرية الحديثة عند وصول الإخوان إلى السلطة، وذلك في سعيهم وهدفهم إلى أخونة مؤسسات الدولة من ناحية، ووصول المدّ الإيراني عبر الإخوان من ناحية أخرى.

فعن الجانب الأول، على سبيل المثال لا الحصر، نشير إلى قول رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية، اللواء رأفت شحاتة، عندما دخل على الرئيس محمد مرسي ليخبره ببعض المعلومات الحسّاسة، وجد عنده عدداً ليس بقليل من القيادات الإخوانية، فأراد الإيحاء بأنه لا يستطيع البوح بما يحمله، فأشار مرسي بأنهم أمناء جميعهم، فلا ضير بالكلام أمامهم، ما دفع شحاتة إلى إخفاء المعلومات الخطيرة، وذِكر ما هو أدنى منها.

وبعد الحراك الشعبي واصطفاف الجيش مع الشعب، تم عزل الإخوان عن السلطة في 3 يوليو 2013، وفي التصريح الأول له منذ خروجه من الجهاز، قال شحاتة في حوار أجرته معه صحيفة “المصري اليوم”، إنه “لم يعطِ معلومة واحدة خاطئة لمرسي، ولم يتآمر عليه أحد، سواء في الجيش أو في الشرطة أو المخابرات، وبالعكس كنّا نقدم له النصائح، ولكنّه أمسك الدفّة بشكل خاطئ، ولم يكن يعتمد على المؤسّسات”.

إن الجملة الأخيرة: “ولم يكن يعتمد على المؤسّسات”، تشخيص دقيق ليس بشخص مرسي فقط، بل بخطورة الرؤية الإخوانية في إدارة الدولة ذاتها، إذ بعد سياسة المراوغة، تمكّنوا من نيل الرئاسة ومجلسَيْ الشعب والشورى، وسنّ الدستور وفق ما يلائمهم ويخدم مصالحهم.

وفي هذا الصدد، نذكر شعار “المشاركة لا المغالبة” الذي رفعه المرشد العام لجماعة الإخوان، محمد بديع (1943)، قبل انتخابات مجلسَيْ الشعب المصري والشورى، ما بين (2011- 2012)، وقولهم إن ثلث المقاعد يكفيهم، إلى المنافسة والمزاحمة للسيطرة على غالبية المقاعد، إذ زجّوا بعددٍ كبيرٍ من المرشحين على القوائم والمقاعد الفرديَّة، وبواسطة هذا التخطيط الملتوي، استطاعوا الاستحواذ على ثلثَيْ أعضاء المجلسين. ومن خلال المجلسين المنتخبين، يتم اختيار 100 عضو لوضع دستور جديد للبلاد. وهكذا، تمكّن الإخوان من تمرير الدستور والتشريعات التي تخدم وتساعد في تنفيذ مخطّطاتهم أكثر من المصالح العامة للشعب وللوطن.

واعتُمد النمط ذاته عندما أعلن الإخوان عدم رغبتهم في خوض الانتخابات الرئاسية، لكنّهم تحرّكوا نحو تأسيس “حزب الحرية والعدالة” في 6 يونيو (حزيران) 2011، ليكون الجناح السياسي الرسمي لهم. وعلى الرغم من فوزهم بفارق ضئيل 51.7 في المئة، فإنّ الرئاسة تعني تشكيل الحكومة. ومن هنا، بدأوا العمل لأخونة مؤسسات الدولة. وبهذا الفعل، تجلّت الصورة أكثر في بسط تسلّطهم الدستوري في حُكم مصر. وجراء هذا التسلّط المتنامي من جهة، وتناقضاتهم المتقلّبة بين أقوالهم وأفعالهم من جهة أخرى، فقد انتهى الأمر بحراك شعبي عارم أدى إلى عزلهم عن السلطة في 3 يوليو 2013.

كان خروج معظم الشعب المصري في تظاهرات مناوئة لحُكم الإخوان، بعدما تم خطف الثورة والدولة، ومحاولة تغيير الهوية الوطنية، وعدم تقديم منجزات حقيقية تجاه مشكلات الأمن والمرور والوقود والنظافة والخبز وغيرها.

وعن الجانب الثاني، فإن الفترة القصيرة التي حكم فيها الإخوان، كان متوقّعاً منهم تعزيز وتمتين أواصر العلاقة مع إيران، لا سيما أنها مقطوعة بين البلدين لأكثر من ثلاثة عقود، منذ 1979. وخدمة للمصالح الإخوانية- الإيرانية تم تبادل الزيارات الرئاسية والرسمية بين الطرفين. فقد حضر مرسي مؤتمر “دول عدم الانحياز” الذي عُقد في طهران بين 26- 31 أغسطس 2012. وحضر محمود أحمدي نجاد مؤتمر القمة الإسلامية الذي عُقد في القاهرة بين 6- 7 فبراير (شباط) 2013.

كانت إيران تتطلّع إلى أن يتغلغل مشروعها الطائفي في مصر، كما فعلت في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وعرضت المساعدات المالية والتبادل التجاري والتعاون الاقتصادي، ومنحاً دراسية سنوية، وضمان زيارات سياحية على مدى فصول السنة، مقابل أن تستلم إيران إدارة وصيانة المراكز الدينية والمساجد في عهد الدولة الفاطمية في مصر (973- 1171).

ومع أن نسبة الشيعة في مصر أقل من 1 في المئة من مجموع المذاهب الإسلامية، لكن إيران أرادت الاختراق بمدّ ذراع أوّلية بهدف نشر التشيَّع الفارسي. لكن مفتي مصر علي جمعة (1952-) تصدّى وأطلق تحذيره في أكتوبر (تشرين الأول) 2012، مخاطباً إيران بشكل مباشر: “اتّقوا الله فينا وفي أنفسكم”.

بيد أن عزل الإخوان عن السلطة، ثم الوضع التدميري الذي تعرّضوا له، شكّل انتكاسة كبيرة لإيران ولمشروعها الطائفي في مصر. ولعلّ كلام أحد أتباعها، ياسر الحبيب (1979-)، يكشف عن بعض الخفايا، إذ يقول “نريد أن نحدث ثورة في مصر، من خلال شراء البعض من أفراد الجيش والمسؤولين لإحداث انقلاب، ثم يسلّموننا الحكم بعد ذلك، وسنقوم بشراء سياسيين، وسنفرض التشيَّع بالقوة في مصر مثلما حدث في إيران عندما ذهب شيعة العراق ولبنان وتشيّعوا في إيران”.

أما عن ردّ الفعل الإخواني، فبدلاً من مراجعة أسباب إخفاقهم وتصحيح أخطائهم، اتّجهوا للصدام المسلح، وارتكبوا سلسلة من الأعمال الإرهابية، وحرّكوا تنظيمهم الدولي ضد النظام الحاكم، ولم يعترفوا بنتائج انتخابات 3 يونيو (حزيران) 2014، مع أن الشعب هو مصدر السلطات.

وبعد هروب بعض قادة الإخوان إلى لندن، متّخذين من شقة صغيرة فوق مطعم تركي في منطقة كريكلوود Kricklewood في شمال غربي العاصمة البريطانية مكتباً لهم، وفقاً لبعض التقارير الإعلامية، صار يُستخدم كغرفة عمليات لإدارة أنشطة الجماعة منذ الإطاحة بحكمهم. وكانت الحكومة البريطانية تخشى أن تقوم هذه القيادات بالتخطيط لشنّ هجمات على أراضيها، خصوصاً عقب الاشتباه بتورّط الإخوان في الهجوم على حافلة سياحية في سيناء بشهر فبراير 2013، الذي أدى إلى مقتل ثلاثة سياح بريطانيين. لذا، سارع رئيس الوزراء الإنجليزي ديفيد كاميرون (2010- 2016) إلى فرض الحظر على الإخوان المسلمين، ليس حفاظاً على الأمن الداخلي فقط، وإنّما من أجل الاستقرار السياسي الخارجي أيضاً في منطقة الشرق الأوسط.

وبحسب التقرير الذي نشرته صحيفة “الغارديان”، فإنّ كاميرون أصدر أوامره بإجراء تحقيقات في أنشطة جماعة الإخوان المسلمين في لندن، وفقاً لتعليمات من أجهزة الاستخبارات البريطانية وإنّ كاميرون يواجه ضغوطاً لحظر جماعة الإخوان واعتبارها جماعة إرهابية. وذلك لمنعها من استخدام لندن مركزاً لعمليات للتنظيم الإخواني الدولي. وأشار بعض المسؤولين في الحكومة البريطانية إلى أنّ “من المحتمل حظر جماعة الإخوان في المملكة المتحدة، لكن من غير المرجح أنّ يتم حظر أنشطتها في البلاد على أساس صلاتها بالإرهاب”. وهذا الطرح يوافق تحليلات وزارة الخارجية البريطانية التي ترى أنّ “اعتبار الإخوان جماعة إرهابية من شأنه تشجيع التطرّف في البلاد”.

في تلك الفترة، كانت إيران قلقة من تداعيات الحظر الإنجليزي على الإخوان، لا سيما أنّ المخابرات الإيرانية كانت توفّر المال والسلاح والتدريب لجماعات إسلامية ناشطة منها “التوحيد والجهاد” و”الرايات السوداء” و”كتائب الفرقان”، ضدّ الوضع السياسي القائم في مصر، ناهيك عن ذكر جماعة “أنصار بيت المقدس” التابعة للإخوان أصلاً.

وبما أنّ السياسة الخارجية الإيرانية تمتلك النفس الطويل، لذلك فإنّها عملت على تذليل ردود أفعال تلك التداعيات المضادّة للإخوان، خصوصاً أن سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما، وقتذاك، كانت ذات مرونة وليونة تجاه إيران في الملف النووي والعقوبات الاقتصادية والمفاوضات معها.

مصر تتضرّر (القسم الثاني)

بعدما صارت جماعة الإخوان معزولة عن السلطة، ظهرت بعض التشكيلات الإخوانية المسلحة مثل “حركة مجهولون” و”حركة العقاب الثوري” و”حركة المقاومة الشعبية”، التي أخذت تستهدف مؤسسات الدولة والمصالح الاقتصادية والشركات الكبرى، وتخريب الخدمات العامة من مواصلات وكهرباء وسكك حديد، ما يعني أن القيادات الإخوانية أمرت أتباعها وزجت بخلاياها المسلحة في اختيار مسلك العنف الدامي، كطريق للمواجهة ضد الدولة من جهة، والإيحاء للعالم بأنّهم يمتلكون أدوات القوة التي تؤهلهم للعودة إلى حكم مصر من جهة أخرى، ومن هذا المنطلق أخذ الشارع المصري يشهد التفجيرات والاغتيالات والتصادمات التي راح ضحيتها مدنيون أبرياء.

ويمكن أن نتناول واحدة من تلك المجاميع المسلحة، إذ في 14 أغسطس (آب) 2014 أعلنت “حركة المقاومة الشعبية” تشكيلها، وجاء في بيانها الأول عن تكوين مجموعات ردع العسكر، والتئام تلك المجموعات بمحافظة القاهرة، موحّدة على طريق الحركة، وتحت اسم “مجموعة الشهيد محمد حلمي بالقاهرة”، وأكد البيان أن “إعلان انطلاق هذا الكيان المقاوم الجديد رغبة مصرية خالصة في توحيد جهود المقاومين المصريين في أنحاء المحروسة، تحت مسمى واحد وهدف مشترك ووسائل متشابهة وكيانات لا مركزية عدة”.

كما هدّدت الحركة في بيانها رجال الجيش والشرطة والأمن، وقالت “من التزم من الجيش مكانه فهو آمن، أما من اعتدى فلا يلومن إلا نفسه”، ومن بين إحدى عملياتها اغتيال النائب العام المستشار هشام بركات عبر تفجير سيارة مفخخة استهدفت موكبه في 19 يونيو (حزيران) 2015.

وتبنّت حركتا “المقاومة الشعبية” و”العقاب الثوري” المسؤولية عن عمليات مسلحة وتخريبية عدة، منها تفجير 56 عبوة ناسفة، ونصب 12 كميناً لقوات الأمن، والاشتباك مع تلك القوات بالأسلحة الرشاشة في محافظات عدة، وإحراق مبان حكومية، وتفجير قطارات وسكك حديد وغيرها.

في حينها كشفت بعض المصادر عن أن شباب الإخوان وأنصار الرئيس المعزول محمد مرسي (1951 – 2019)، انفصلوا كلياً عن مكونات “تحالف دعم الشرعية”، واتجهوا لتشكيل حركات لا مركزية، مرتبطة مباشرة بقيادة التحالف الثوري الذي أسسه رئيس حزب الفضيلة محمود محمد فتحي المقيم في تركيا، وتنتشر هذه الحركات على شكل مجموعات قليلة العدد، لتسهيل مهمة تنفيذ عمليات نوعية في كل منطقة يتبعها أفراد المجموعة.

أحالت “أمن الدولة العليا” محمود فتحي إلى المحكمة الجنائية مرات عدة في عدد من القضايا الإرهابية، منها “كتائب حلوان” و”حركة مجهولون” واغتيال النائب العام وخلية نسف الكمائن وغيرها، ومن بين التهم الموجهة إليه تأسيس خلية إرهابية وتمويل أعضائها وتوفير الغطاء المالي اللازم لشراء الأسلحة والمتفجرات، لاستهداف مؤسسات الدولة.

كانت تلك الأعمال الإرهابية من تفجير السيارات والقطارات، ووضع العبوات الناسفة على أعمدة الكهرباء وسكك الحديد، وما لحق بالأبرياء المدنيين من قتل وإصابات، لا صلة لها البتة بعمل ونهج وفكر المقاومة الشعبية، فالصراع السياسي الداخلي هدفه دوماً السلطة، والإخوان جراء تهافتهم لبسط هيمنتهم على الدولة، خسروها، واستخدام العنف المسلح تبريراً لعودتهم إلى السلطة لن يجدي نفعاً، بل زادت الهوة أكثر بينهم وبين الدولة والشعب، خصوصاً بعد حشر الدين والجهاد في الصراع السياسي.

وعلى سبيل الذكر لا الحصر، كانت دعوة أحمد المغير، أحد نشطاء الإخوان، إلى حمل السلاح تزامناً مع الذكرى الأولى لفض اعتصامي رابعة والنهضة، الذي جرى في 14 أغسطس (آب)  2013، أمراً مثيراً للريبة، يهدف إلى تفكيك المجتمع المصري، إذ يقول “يا شباب الإسلام المجاهد في مصر، هي حياة واحدة، فلتكن في سبيل الله، وهي موتة واحدة، فلتكن في سبيل الله”.

فهل هذه الدعوة خالصة في سبيل الله حقاً، أم في سبيل العودة لعرش السلطة؟ لا سيما أن المغير يؤكد جازماً أنه “لا شرعية ولا ديمقراطية ولا حزبية ولا مجتمع دولي، ولا توافق ولا تهادن ولا حل، إلا بحمل السلاح، ولا عزّ إلا بالجهاد”، فعن أي جهاد يتحدث؟ ولماذا دعوة القتال هذه؟ وعلام غلق جميع الأبواب والمنافذ والإبقاء فقط على شلال الدم؟

في عام 2018 اعترف أحمد المغير خلال شهادته أن الاعتصام في رابعة العدوية كان مسلحاً، وأنه تم آنذاك تكوين جماعة سرية مسلحة باسم “سرية طيبة مول”، وبحسب قوله، كانت هناك خيانة من أحد القياديين في سحب السلاح من داخل الاعتصام.

على أي حال، عندما دخلت جماعة الإخوان في مرحلة العنف المسلح ضد الدولة، فبالقدر الذي كشفت فيه عن دمويتها، فإنها أظهرت ضيق أفقها أيضاً، إذ نقلت النزاع السياسي القابل للحل بصورة أو أخرى إلى تصادم مسلح لن تكسبه قط. وكذلك فإن إيران بدورها دعمت جماعات إسلامية مسلحة ضد النظام المصري، فقد نشر “موقع البوابة” في الأردن، أن إيران قامت بتدريب مجموعة متمركزة في ليبيا تعرف باسم “جيش مصر الحر”، وهو خليط من الإخوان الهاربين وجهاديين مصريين آخرين ذهبوا للقتال في سوريا، وكان عناصر من فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني يقومون بمهمة التدريب في مدينة مصراتة شمال غربي ليبيا، ومن بين قياديي هذا الجيش أبو داوود زهيري وكرم عمراني.

وإذا أرادت إيران من دعمها “جيش مصر الحر” شنّ هجماته من جهة الغرب، فقد ذكرت صحيفة “الوطن” المصرية أن إيران تنشر أيضاً عناصر من فيلق القدس في السودان، مهمتهم تدريب مجاميع تابعة للإخوان المسلمين هناك، والهدف مهاجمة مصر من الجنوب.

إلا أن مصر استطاعت مجابهة تلك المخططات والتغلب عليها، بل إن مصر والسعودية والإمارات والبحرين أصدرت قراراتها الرسمية بتصنيف الإخوان المسلمين ضمن المجموعات الإرهابية. ويعاني الإخوان وضعاً تدميرياً على الساحة العربية عموماً، وأخيراً، انضمت الأردن أيضاً وحلّت جماعة الإخوان المسلمين، إذ أصدرت محكمة التمييز في 15 يوليو (تموز) 2020 قرارها باعتبار جماعة الإخوان المسلمين، “منحلة حكماً وفاقدة لشخصيتها القانونية والاعتبارية”، وذلك “لعدم قيامها بتصويب أوضاعها القانونية وفقاً للقوانين الأردنية”.

الواقع والمستقبل

إن حصيلة الواقع السائد في المنطقة تجاه إيران وجماعة الإخوان في تردٍحاد، فإيران اليوم في أضعف حالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لم تشهدها دولتها الدينية منذ عام 1979، وبالرغم من أن السبب الرئيس داخلي، إذ يقترن مشروع إيران المزعزع لاستقرار المنطقة، وممارساتها العدوانية والإرهابية، ودعمها المجاميع الإسلامية المتطرفة، لتشكل خطراً حقيقياً على الأمن الإقليمي والدولي.

أما عن الأسباب الرئيسة الخارجية، التي لها دورها وتأثيرها في إيران وجماعة الإخوان، فيمكننا أن نسردها كالآتي:

أولًا: التحالف العربي بقيادة السعودية

بعدما وصلت إيران بمشروعها السياسي الطائفي إلى اليمن، وساندت الحوثيين وبقية الانقلابين ضد الشرعية، وبذلك أصبحت الأهداف الإيرانية أكثر وصولاً نحو الجزيرة العربية شمالاً وجنوباً، من هنا جاء التحالف العربي الذي تقوده السعودية لدعم الشرعية، وفي 25 مارس (آذار) 2015 انطلقت عملية عاصفة الحزم التي استمرت حتى 21 أبريل (نيسان)، لتبدأ في اليوم التالي عملية إعادة الأمل، بعد أن استوفت قوات التحالف العربي أهدافها من تدمير الأسلحة العسكرية الثقيلة التي استولى عليها الحوثيون من معسكرات ومستودعات الجيش، ومنعتهم من التقدم.

وتعد الرياض المركز الرئيس في تنسيق ودعم العمليات العسكرية لمحاربة الإرهاب، وكذلك في تطوير البرامج والآليات اللازمة لدعم تلك الجهود، والأمر حول اليمن لا يقتصر على الجانب الميداني فقط، بل في الجانب الديبلوماسي والحوار والتفاوض، بغية تحقيق الحل السياسي. وكان اتفاق الرياض في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 تتويجاً لجهود المملكة في إنهاء الحرب، كما أن الحوثيين اندحروا في أكثر من 85 في المئة من المناطق التي استولوا عليها قبل خمس سنوات.

وعن جماعة الإخوان، ففي السابع من مارس 2014 أصدرت السعودية قائمة تصنف فيها الإخوان المسلمين جماعة إرهابية ضمن منظمات إرهابية أخرى ضمت داعش وجماعة الحوثيين وجبهة النصرة وحزب الله والقاعدة، وبذلك وقفت السعودية إلى جانب مصر والإمارات في حظر جماعة الإخوان، ثم تبعتها البحرين، وأخيراً الأردن.  

ثانيًا: العقوبات الأميركية

منذ حملته الانتخابية كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب يشير إلى أن الاتفاق النووي مع إيران، الذي أبرمه سلفه باراك أوباما، لا يفي بالغرض تجاه الأمن القومي، وبعد خروج الولايات المتحدة من هذا الاتفاق باشرت إدارة ترمب تنفيذ العقوبات التي تدرجت وتشعبت، متجاوزة العقوبات الاقتصادية إلى التجارية والعسكرية والعلمية، وصولاً إلى مستوى العقوبات الشديدة التي طالت تصدير النفط وقطاع الإنشاءات ومسؤولين كباراً في الدولة.

وفي 15 أبريل 2019 أدرجت الولايات المتحدة الحرس الثوري الإيراني على قائمة المنظمات الإرهابية، وقبيل ذلك كان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أكد “أن الحرس الثوري قتل أكثر من 600 جندي أميركي”، أما عن قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، فقد وصفه بأنه “إرهابي متورط في دماء أميركيين”، وفي الثالث من يناير (كانون الثاني) مطلع العام الحالي قامت قوة أميركية خاصة بتصفية سليماني على طريق مطار بغداد، نظراً لتوفر معلومات مؤكدة لمخطط دموي يقوده سليماني ضد الوجود الأميركي في العراق.

ومع أن العقوبات الأميركية على إيران لها تأثيراتها الواضحة داخلياً، لكن النظام الديني الحاكم، بصورة أو أخرى، خفّف من شدتها من خلال هيمنته على العملية السياسية في العراق، وجعله رئته الاقتصادية، كما أن جماعة الإخوان المسلمين عبر الحزب الإسلامي العراقي أو غيره من الواجهات الإخوانية يساندون ويساعدون إيران ضد العقوبات الأميركية.

ثالثًا: الوجود العسكري الروسي

عندما اتخذت روسيا قرارها بالتدخل العسكري في سوريا بتاريخ 30 سبتمبر 2015، ومع أنه بطلب رسمي من الرئيس بشار الأسد، لكنه يكشف عدم قدرة إيران على الدفاع عن النظام ضد المناوئين له منذ اندلاع الصراع في 2011. وكانت التوقعات حينها، أن روسيا لن تطيق الاستمرار لأسباب عدة، أهمها أن الوضع الاقتصادي الروسي لا يتحمل عبء الحرب، وأن الخسائر البشرية ستؤثر في الانتخاب الرئاسية على بوتين، لكن روسيا واصلت وجودها العسكري، وحققت مكاسب كبيرة.

ونتيجة الوضع الروسي المسيطر في سوريا، صارت إيران في وضع ثانوي من جهة صنع القرارات، بل لم تتمكن من أن تكون حليفاً ميدانياً يشترك مع الروس في خططهم، ومن هنا ضاعفت إيران قواعدها ومراكزها العسكرية التي يقودها الحرس الثوري، وكذلك الفصائل المسلحة التي صنعتها في لبنان والعراق وسوريا وأفغانستان.

وبما أن إيران أخذت تشكل خطورة في تسليحها للنظام السوري، بدأت إسرائيل بتوجيه ضرباتها الجوية والصاروخية على قواعد ومراكز ومخازن الحرس الثوري، ومقار الفصائل الولائية التابعة لها، وفي المقابل كانت إيران تكتفي بالوعيد اللفظي بأنها سترد على هذه الهجمات في الوقت المناسب.

أما الهجمات التدميرية التي تتعرض لها إيران منذ منتصف هذا العام، وطالت مفاعل “نطنز” النووي وقواعد عسكرية ومنظومات صاروخية وأماكن صناعية وغيرها، فبالقدر الذي اتضحت فيه هشاشة النظام، وفشل أجهزته الاستخبارية فشلاً ذريعاً في الكشف المسبق عن هذه الضربات الفتاكة، فإنه يوضح للشعوب داخل إيران وكذلك شعوب المنطقة، أن النظام أضعف مما كان يتشدق ويعربد، وأن تصريحات المرشد الإيراني علي خامنئي ورئيس الحرس الثوري إسماعيل قاآني وغيرهما، ليست بأكثر من استهلاك إعلامي لا يلقى أي صدى.

رابعاً: دور قطر  

مع الوضع المتردي الذي تعانيه إيران وجماعة الإخوان، إلا أن الدعم المالي الكبير الذي تقدمه قطر عبر تنظيم الإخوان الدولي الذي تقوده تركيا، والاصطفاف مع إيران، ساعد تلك الأطراف على الاستمرار في مشروعها، غير أن الدعم المالي القطري لن يوفر أرضية مستقبلية صلبة، إذ إن قوة المعارضة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان تزداد ضد سياسته داخلياً وخارجياً، خصوصاً بعد التدخل العسكري التركي في دعم جماعة الإخوان في ليبيا، ولذلك فاحتمال خسارته الانتخابات الرئاسية القادمة قوية، ونتيجتها ستؤدي إلى زوال المشروع العثماني الإخواني.

كما أن تآكل المشروع الإيراني عربياً يزداد أكثر فأكثر، ابتداء من التحالف العربي الذي تقوده السعودية، ووصولاً إلى انتفاضة المحافظات العراقية ذات الغالبية الشيعية المتواصلة منذ أكتوبر 2019، وكذلك بالنسبة إلى الحراك الشعبي في لبنان، وانحسار الحوثيين في اليمن، وكل هذه أدلة ساطعة ألا مستقبل للمشروع الإيراني في الوطن العربي.

أما رؤية إيران والإخوان في “الحضارة الإسلامية الجديدة” و”الوحدة الإسلامية” أو “الإسلام العالمي”، فقد برهنت وقائعهم وتجاربهم أنهم يوظفون الإسلام لغايات دنيوية في الحكم والتسلط ليس إلا، ونظراً إلى سياسة “التفريس” و “التتريك”، واستخدام الإخوان جسراً لهم إلى داخل البلدان العربية، فإن الموقف العربي العام هو الاعتزاز بالعروبة والالتزام بالهوية الوطنية، وتأييد الأمن القومي العربي، ورفض الإسلام السياسي المستتر برداء الدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى