أقلام وأراء

علي حمادة: مفاوضات النّووي الإيراني: تعليق التّفاوض من دون مغادرة الطاولة

علي حمادة 09-09-2022

عندما طرح منسق السياسة الخارجية والأمن الأوروبي جوزيب بوريل في الثامن من آب (أغسطس) الفائت وثيقته النهائية المتعلقة بالمفاوضات الجارية بين إيران ومجموعة الدول الموقعة على الاتفاق النووي لعام 2015 (خطة العمل الشامل المشتركة)، كان يتطلع إلى أن تكون “خطة الطريق الأوروبية” وسيلة لفتح الطريق أمام إمكان توقيع سريع لعودة كل من إيران والولايات المتحدة إلى الاتفاق واستئناف تطبيق بنوده. لكن بعد الرد الإيراني، والرد الأميركي على الرد، ثم الرد الإيراني الأخير، أسقط من يد بوريل الذي قال بعد أيام عدة، وبالتحديد في بداية الأسبوع الجاري، إن ثقته تراجعت بشأن إبرام الاتفاق. قال بالحرف الواحد: “يجب أن أقول إن آخر إجابة حصلت عليها من إيران، إذا كان الهدف منها هو التوصل السريع إلى الاتفاق فلن يساعد ذلك”. وأوضح: “يؤسفني القول إن ثقتي تراجعت عما قبل بشأن تقارب جهات النظر، وإمكان إبرام الاتفاق الآن”. 
نحن إذن أمام جدار لا يبدو أن الفرقاء يستعجلون تجاوزه في الوقت الحالي. ففي واشنطن بدأت الانتخابات النصفية للكونغرس تأخذ الحيز الأكبر من الاهتمامات، فخفّت حماسة إدارة الرئيس جو بايدن للتوقيع مهما كلف الأمر، وذلك كما كانت الحال قبل بضعة أشهر. والحملة الإسرائيلية العنيفة على الاتفاق الذي تعتبره ناقصاً، ضعيفاً، وقصير المدى فعلت فعلها في التخفيف من الاندفاعة الأميركية. أضف إلى ذلك برودة الحلفاء العرب الذين آثروا عدم الإدلاء بمواقف علنية سلبية إزاء احتمال التوقيع على الاتفاق الذي يحيي “خطة العمل الشامل المشتركة” لعام 2015.
وقد شكل هذا الأمر ما يبدو رسالة تنبيهية إلى إدارة بايدن المهرولة نحو إيران بأي ثمن، مفادها: إن كنتم تهرولون نحو إيران فنحن سنفعل ما يصب في مصالحنا القومية، بدءاً بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع طهران، ثم تفعيل الحوارات المتعددة الوجوه حول القضايا الثنائية بين إيران وكل بلد عربي على حدة، ثم البحث في تبريد الخلافات ووضعها جانباً تلافياً لأي صدام يمكن أن يضر بمصالحنا.
ومن الواضح أن الإسرائيليين فهموا من المقاربة العربية المشار إليها، أن تل أبيب ستكون وحدها في الساحة لمواجهة البرنامج النووي الإيراني الذي تتسارع خطواته، لا سيما أن السلطات الإيرانية تكشف يوماً بعد يوم من خلال سلوكها على المستوى التقني في المنشآت أن البرنامج هو في النهاية عسكري الوجهة، فيما تتجمع الأدلة على أن البرنامج النووي الإيراني كان من الأساس للاستخدام العسكري.
والحال أن كل العواصم المعنية بقضية مراقبة البرنامج النووي الإيراني وضبطه، تتعامل معه على أساس أن وجهته الحقيقية عسكرية لا مدنية. بالطبع لا تعطي العواصم المعنية (حتى موسكو وبكين) صدقية تُذكر للرواية التي روّجها الإيرانيون، ومفادها أن المرشد علي خامنئي أصدر فتوى بتحريم صنع القنبلة النووية. وظل المناخ العام في المجتمع الدولي، بصرف النظر عن الصراعات والخلافات الدولية، ينظر إلى البرنامج النووي الإيراني على أن هويته الحقيقية مختلفة عما تزعم القيادة الإيرانية. هذا الأمر يعرفه الإسرائيليون، وأيضاً الدول العربية المركزية التي تعاني منذ أعوام طويلة من السياسة التوسعية العدوانية الإيرانية في المنطقة، فيما بدا أن إدارات أميركية، لا سيما إدارتي الرئيس الأسبق باراك أوباما و”وريثتها الشرعية” إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، هرولت وتهرول نحو إيران. والأسوأ أن أوباما كان يراهن على فتح عهد جديد من العلاقات مع إيران من خلال صفقة تاريخية يجريها، تكون شبيهة بالصفقة التاريخية (الانفتاح) التي أبرمها الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في سبعينات القرن الماضي، بناءً على مشورة وزير خارجيته يومها هنري كيسنجر، وأحدثت في ما بعد تحولاً جيوسياسياً تاريخياً.
أراد أوباما، أو حلم، أن يدرج في سجل إرثه للتاريخ صفة صانع ما كان سيسمى لو تم بـ”المصالحة الأميركية – الإيرانية التاريخية”، لكن تبين أن أوباما وفريقه، وبينهم وجوه بارزة في إدارة بايدن الحالية (روبرت مالي منسق ملف إيران في البيت الأبيض مثالاً) لم يفهموا طبيعة النظام الإيراني الأوتوقراطي الذي ما كان ليسير في مسار انفتاحي مع الغرب يؤدي في النهاية إلى إطاحة أسس النظام، وإطلاق العنان لتحولات اجتماعية عميقة في المجتمع الإيراني التائق للتغيير بعد أربعة عقود على الثورة الإيرانية. 
بالعودة إلى موقف الدول العربية المركزية، لا داعي للإشارة إلى أنها تتألف من دول مجلس التعاون الخليجي، ومعها مصر والأردن، هذه الدول لا يساورها شك في أن إيران عامل مزعزع للاستقرار، ومهدد للكيانات، والدول والمجتمعات العربية. لكن شكوكها أكبر عندما يتعلق الأمر بصدقية التحالف مع واشنطن. هي تراقب جيداً كيف أن واشنطن تقامر بمصير إسرائيل أقرب حلفائها من خلال سياساتها تجاه إيران وبرنامجها النووي، وتراقب خطورة الانكفاء الأميركي والضعف الأوروبي في ما يتعلق بالاختراقات الإيرانية الكبيرة في المشرق العربي، من سوريا، إلى العراق، إلى لبنان، إلى غزة واليمن. من هنا المسافة التي تأخذها من المقاربة الأميركية لسياسات طهران وسلوكها على مستوى البرنامج النووي. 
إسرائيل من ناحيتها لا تملك ترف التساهل. فإيران جارتها المباشرة من جنوب لبنان وسوريا وغزة. والحرب المؤجلة قد تفاجئ الجميع يوم تشتعل بسبب خطأ، أو وفقاً لحسابات خاطئة في لحظة بالغة الدقة. إسرائيل مجبرة على أن تواجه البرنامج النووي الإيراني، لكنها تبقى في حاجة إلى واشنطن لردع إيران إذا ذهبت في ردها إلى أبعد من المسموح به. 
في هذه الأثناء، نتوقع، بسبب دقة المرحلة، أن تبقي الأطراف المتفاوضة في فيينا على الباب مشرعاً لجولة تفاوض جديدة. من هنا فإن خطة جوزيب بوريل لن تكون الأخيرة. ستليها وثائق وخطط أخرى. لكن طهران ستواصل عسكرة برنامجها عسكرةً شبه علنية، فيما تستفيد من أزمة الطاقة العالمية وتراجع أثر العقوبات الأميركية لتعبئة خزائنها ببيع مزيد من النفط بأسعار مخفضة. 
لكن ماذا سيحدث يوم يتأكد العالم من أن إيران اقتربت اقتراباً حاسماً من صنع قنبلتها النووية الأولى؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى